د. مصطفى صفوان
خواطر عامة حول إعادة طباعة الترجمات القديمة
الإثنين، 12 يوليه 2021 - 01:57 م
الترجمة فعل مثاقفة اجتماعى ذو طابع لغوى هجين. وهى تتطلب موهبة تصقل بالدربة والتجربة العملية. ومما يساعد فى هذا كثرة الاطلاع على تجارب كبار المترجمين ودراسات النقاد والمنظرين. نعم هى أشياء لا تصنع مترجما جيدا، لكنها مهمة فى صقل موهبة المترجم وإشعاره بأهمية الحقل الذى تخصص فيه.
ومن هذا المنطلق فإننى لا أمل من مراجعة تجارب المترجمين وترجماتهم مهما كانت قديمة. زد على ذلك أننى عندما اترجم أجد اقتباسات من كتب ترجمت من قبل إلى العربية، ولذا فإننى أبحث فى الترجمات لأشير إلى مكان الاقتباس فيها. وسبب ذلك أننى لا اترجم فى فراغ ولكن فى سياق ثقافى رصين ومستقر ولابد من احترام جهود السابقين فيه. زد على ذلك إننى اسعى لتشبيك ترجمتى بالترجمات السابقة بهدف المساعدة فى التراكم المعرفى الحادث الآن.
وبالطبع فإننى أكتشف أخطاء كثيرة إبان مراجعتى للترجمات القديمة، وللعلم بعض هذه الأخطاء يشوه الأصل بدرجة لا يمكن تصورها دون اطلاع. وآخر ثلاثة كتب وجدت فيها مثل هذه الأخطاء الكبيرة هى: ارسالة منطقية فلسفية للودفيج فيتجنشتاين بترجمة عزمى إسلام. وكتاب اما فوق مبدأ اللذة لسيجموند فرويد بترجمة إسحاق رمزي. وكتاب االتحليل النفسى لرُهاب الأطفالب لفرويد أيضا بترجمة جورج طرابيشى.
وفرويد فى رأيى هو أكثر من شوهت ترجماته إلى العربية. وليس معنى هذا أن كل ترجمات فرويد سيئة، فهناك ترجمة تعد نموذجا يحتذى، وهى ترجمة مصطفى صفوان لكتاب اتفسير الأحلامب لفرويد. وهى ترجمة فريدة من نوعها وتجعلنى اتأسف أنه لم يواصل ترجمة أعمال فرويد. وميزة ترجمة صفوان لكتاب اتفسير الأحلامب درجات التجويد التى مرت بها الترجمة؛ حيث ترجمها بداية عن الأصل الألمانى، تحديدا عن الطبعة الثامنة وهى آخر طبعة صدرت فى حياة فرويد وبها آخر تنقيحاته وزياداته. ولأن صفوان عالم متخصص ويتقن الألمانية والعربية فإن ترجمته هذه جاءت نموذجا فى بابها من حيث اللغة والاصطلاحات. ثم زاد الأمر إعجازا بأن راجع ترجمته هذه على الترجمة الإنجليزية التى ترجمها ستراشى بمعاونة آنّا فرويد شخصيا، وأضاف من هذه الترجمة ما وجده مهما فى الهوامش والملاحق والمقدمة مع الإشارة إلى ذلك بالطبع. وظنى أنه قام أيضا بمراجعة الترجمة الفرنسية ومنها نقل النصوص الفرنسية التى وضعها فى الهوامش. وبعد هذا كله قام أستاذه العالم الجليل مصطفى زيور بمراجعة كل هذا على الترجمة الإنجليزية المذكورة. شيء معجز حقًا ويجعلنا كمترجمين ومتخصصين دائمى الخوف والهلع عند ترجمة النصوص التأسيسية للثقافة المعاصرة. ويا ليته كان قد واصل ترجمة أعمال فرويد الأخرى! ولو كان فعل لأتحف العربية المعاصرة بمجموعة فذة من الترجمات ولأنقذنا من تشويه الترجمات الأخرى وفسادها!
>>>
والسؤال الآن: إذا عرض عليّ تصحيح أى ترجمة سابقة أو مقارنتها بالأصل الألمانى فهل أفعل؟ وأجابتى هنا تتعلق بالمؤلفين والمترجمين هل هم أحياء أم لا؟! فإذا كانوا أحياء فلابد من التواصل معهم وأخذ الإذن منهم. وفقط بعد الموافقة أشرع فى مراجعة الترجمة. أما لو كان المترجم قد توفاه الله وكذلك المؤلف (كما فى حالة جورج طرابيشى وفرويد، وعزمى إسلام وفيتجنشتاين، وإسحاق رمزى وفرويد) فسوف أرفض بالتأكيد، وانصح غيرى من المترجمين بالأمر نفسه؛ لأن إقدام أى مترجم على هكذا عمل يعد فى رأيى جريمة ثقافية! ورأيى هذا مرتبط بفهمى للترجمة كمهنة وحرفة وفن.
د. حسن عثمان
والترجمة، كما سبق فى أول كلامى هنا، افعل مثاقفة اجتماعى ذو طابع لغوى هجين. وهى (فعل) لأنها بمثابة صراع ثقافى يقوم به المترجم نيابة عن ثقافته ومجتمعه الخاص مع نص يخص مجتمع أخر وثقافة أخرى. وهو يفعل هذا بغرض (المثاقفة) وزيادة التفاهم والتعارف بين المجتمعين؛ مجتمع النص ومجتمع الترجمة! وهو اجتماعى أيضًا لأنه لا يتم فى فراغ ولكن فى إطار ثقافى اجتماعى يتأثر به المترجم ويؤثر فيه بفعله فى مجال الترجمة. أما (الطابع اللغوى) المقصود هنا فهو يخص المترجم تحديدًا. وهو ما يجعل الترجمة مهمة لغوية صعبة وعلى المترجم أن يتعامل معها على مستويين. فالترجمة تعتمد من الناحية التأويلية على الفهم أولا ثم إعادة بناء سياق النص الأصلى فى لغة مختلفة وثقافة مختلفة. والفهم يعنى هنا فهم التراكيب اللغوية والمصطلحات الخاصة للنص الأصلى ثم سياقاته المختلفة. ويكتمل دور المترجم عندما ينجح فى إعادة بناء سياق النص الأصلى فى أفق لغته الأم. والنجاح هنا يتطلب النقل الدقيق والأمين لمعانى العمل الأصلى وروحه الخاص وذلك فى لغة واضحة وقادرة. القضية الملغزة هنا أن المترجم عندما يفعل هذا كله يطبع النص المترجم بطابعه الخاص. فالنص المترجم فى النهاية هو نص هجين أو نص بينى إن شئنا الدقة، فهو لا يحمل فقط روح مؤلفه وخصائصه اللغوية، ولكن أيضا روح المترجم وخصائصه اللغوية، وكيفية تركيبه للجمل واختياره للمفردات. وهذه الخصائص هى ما اسميه بالطابع اللغوى أو البصمة الخاصة للمترجم!
وعندما يموت المترجم تتحول ترجماته التى تحمل بصمته لجزء من تراث الترجمة الجديد مثله، والذى ينبغى أن يعامل مثل تراث الترجمة القديم، فلا يحق لأحد أن (يلعب) فى متنه الترجمى، لأنه أصبح شاهد ثقافى على عصره ومترجمه وحال اللغة العربية وقت الترجمة. ولذا فما يسمى بمراجعة هذه الترجمات على أيدى محررين أو مترجمين جدد ما هو إلا تشويه لكل هذا؛ تشويه لمساهمة المترجم الأصلى وتعدى على تراثه الخاص، وتشويه للنص المترجم كشاهد على عصره لغويا وثقافيا، وتشويه للأسلوب العلمى وللتقاليد الثقافية الراسخة فيما يتصل بإعادة نشر تراث الترجمة القديم والجديد.
فمن يريد إعادة طبع أى ترجمة، أصبحت تراثا بعد وفاة صاحبها، لديه فى رأيى خيارين لا غير؛ فإما أن يعيد طبع الترجمة كما هى دون تدخل، وإما أن يحققها كأى نص تراثي. أى لا يكون للمحقق أى دخل بالمتن، وله أن يكتب ما شاء فى الهوامش!
فلو كنت محررا وأردت إعادة طباعة االكوميديا الإلهيةب بترجمة المترجم الكبير حسن عثمان () فإننى سأتعامل معها بالضبط مثل التعامل مع ترجمات حنين بن إسحاق أو بشر بن متى أو غيرهما من أعلام المترجمين فى تراثنا القديم. فمن الخطأ أن تقول أننى سأراجع ترجمة حنين بن إسحاق على أصلها اليونانى وأحررها من جديد حتى تتناسب وعصرنا. ولكن لابد وأن أحققها كنص تراثية وهذا ما حدث مع الترجمات القديمة بالفعل؛ حيث تم تحقيقها كنصوص تراثية على يد باحثين كبار مثل عبدالرحمن بدوى. ولو كنت فلتة عصرى وأريد أن أبين عبقريتى فأمامى التجربة المذهلة لشكرى عباد الذى لم يكتف بتحقيق ترجمة بشر بن متى لكتاب فن الشعر لأرسطو ولكن قابلها بترجمة حديثة أنجزها هو عن اليونانية مباشرة. فلله دره لأنه أعجز من بعده بأن ضرب مثلا لم نستطع مجاراته حتى الآن.
فإعادة نشر تراث الترجمة الجديد لا ينبغى أن يختلف فى تقاليده عن تحقيق تراثها القديم. ولهذا فما يفعله المركز القومى للترجمة فى سلسلة اتراث الترجمةب أمر محمود ومشكور؛ لأنه يعيد نشر الترجمة كما هى ولا يتدخل فى متنها، وفقط مقدمة جديدة ممن يوكل له الإشراف على إعادة الطبع. وهذا بالضبط ما أحاول فعله الآن فى إعادة نشر ترجمات المازنى القديمة ضمن أعماله الكاملة التى ينشرها المجلس الأعلى للثقافة بتحقيقى. فأنا لا استطيع التدخل فى متن ترجمات المازنى، وكل ما يمكننى فعله كمحقق سيكون فى الهوامش ولهذا تحديدا خلق الله الهوامش!.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة