الكاتب محمد الشماع
الكاتب محمد الشماع


صحفي بين مبنيين

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 15 يوليه 2021 - 09:03 م

محمد الشماع

وجود مكتبة مهم في كل بيت.. أن تنشأ وأمامك كتب، تشاهد شكل ترتيبها، تقرأ عناوينها البراقة، تشم رائحتها، فهذا أمر عظيم. ولكن، المكتبة لا تعني بالضرورة أن تكون كاتباً أو صحفياً، ولكنها فعلت ذلك. فعلت لأنها تغللت وتوغلت، حتى صارت جزءًا من التكوين.
عشق اللغة العربية أحد أفرع هذا التكوين. النحو كالرياضيات، فـ(واحد+ واحد= أثنين واضحة لا تشوبها أي شك). كذلك الصحافة، الصحافة التي عرفتها مثل الرياضيات، صحافة بلا تأثير لا يعوّل عليها، صحافة لا تصنع الحدث أو تحرك الساكن لا تسمن ولا تغني من جوع.

تعلمتها، حاولت فك طلاسمها. كانت البداية في جريدة ثقافية هي «القاهرة». كان جمهورها من المثقفين، والمثقفون في بلادنا ربما نعدهم، نحصي أسماء النابغين فيهم، وربما نعرف أغلبهم. خمسة آلاف على أقصى تقدير كما قال الأديب الكبير بهاء طاهر. هذا هو جمهورنا الذي يقرأ لنا. 

ولكن هل جربت الصحافة الحقيقية؟. الصحافة التي تكتب لعموم الناس، نعم، هنا «السياسي المصري»، هنا 6 عبدالقادر حمزة في حي جاردن سيتي التاريخي العريق. المبنى قديم، جدرانه تحكي حكايات عن ناس عاشوا هنا. ناس صنعوا الحدث قديماً، ومازال البعض يصنعون الحديث في الوقت الحالي. صفحات كثيرة أمامي، سياسة واقتصاد ودين وفن ومجتمع وناس. الحبر مختلف، رائحته مختلفة عن تلك التي تعودت عليها. الجميع يعمل بجد، وكأنه سيغير العالم.

ولكن هل كان العالم يتغير؟. نعم العالم يتغير، موضوع عن حريق مسرح بني سويف، ذلك الحريق الذي راح ضحيته الكثيرون من المثقفين والمهتمين بشأن المسرح وأشخاص عاديون. إهمال وارتباك وضياع. أعرف أهالي الشهداء، أبكي من أجلهم، ومن أجلهم كتبت الموضوع. نعم، العالم يتغير ويحترق ويبكي. أن تشاهد ما كنت تبكيه وتحترق معه وقد تحول إلى كلمات على صحيفة بيضاء تميل إلى الرمادي بقليل، أمر يجعلك تستعيد الذكرى.

تمر الأيام، ويصير الذهاب إلى شارع عبدالقادر حمزة يبهجني. فكرة تطرأ حوار يُطرح نقاش يطول ولا يفضي إلى شيء. أمور أتذكرها كأنها الأمس. الكفاح مستمر، والصحافة مستمرة. بدأ المشوار، ومعه أفكار طموحة من مؤسسة دار التعاون التي كان يصدر عنها «السياسي المصري» الأسبوعي. الفكرة المطروحة الآن أن يتحول الإصدار إلى يومي، وقد كان.
جلس الكبار، تناقشوا وتفاعلوا، ووضعوا التبويب ومعه كان الاسم الجديد «المسائية». 

كانوا يقولون إن الصحف المسائية لها جمهور خاص ينتظر نتيجة المباريات وكل ما حدث في الليل. الأحداث التي تفوتها الصحف النهارية الشهيرة. كانوا يقولون إن لها رونق خاص، وكانوا فعل ماضٍ انتهى منذ سنوات. منذ أن ذاب الفارق بين الجريدة الصباحية وجريدة المسائية. بعد أن تلاشى الفارق بين جريدة وأخرى في الأساس. 

المهم، جاء الوعد بجريدة مسائية، وجاءت الفرصة بأن يظهر اسمي كل يوم، حسب الاجتهاد والعمل. حاولت ذلك، وحاولت أن ألاحق الإيقاع اليومي. كنت أفلح أحياناً، وكنت أغضب في أحيان أخرى. كنت أترك الجريدة وأذهب حالفاً بعدم العودة من جديد، وطظ في الـ150 جنيها الشهرية التي كنت أتقاضاها كمكافأة، فليذهب طعم المكافأة الجميل إلى غير رجعة، فليذهب إلى الجحيم.

في اليوم التالي أجد نفسي أسير إلى 6 شارع عبدالقادر حمزة، ألقى تحية عابرة على «كشك» الأمن، وأمارس عملي رغم الغضب، ورغم كل شيء. «ليلى علوي.. نجمة ليس لها وزن»، «عمرو دياب.. مطرب أسقط بنطلونه». عنوانان جذابان بلغة أهل (الدسك)، الأول عندما قدمت ليلى علوي مسلسلاً استغرق تصويره شهوراً لدرجة أنها كانت تظهر في حلقات أكثر وزناً من الأخرى. والثاني عندما أصدر عمرو دياب أحد ألبوماته وصدّره بصورة له وقد أسقط بنطلونه. 

غضبت ليلى مني، وأرسلت للمشرف على قسم الفن الأستاذ الأمير أباظة، ولرئيس التحرير الأستاذ حسن الرشيدي تشكي. غضب مني جمهور الهضبة في المؤسسة وعلى مستوى العائلة. نعم، ما أكتبه بات مؤثرا، حتى ولو على نطاق بسيط.

حملات وحوارات. تحقيقات عن المسرح، وعن الدراما. تقارير يومية عن البلاتوهات. صفحة أسبوعية عن الفن الأجنبي. كنت سعيداً باسمي الذي بدأ يتداول. كنت سعيداً بـ«6 عبدالقادر حمزة في جاردن سيتي».

جاءت رياح التغيير. هبت بقوة على ميدان التحرير كانت ثورة في كل الأماكن. 2011 كان العام الفارق المدهش. ابتعدت عن «المسائية» قليلاً، خوفاً من أحداث هددت الآلاف الذين عاشوا بالقرب من الميدان. خوفاً على مستقبل ههدته الصحافة الخاصة التي كانت غولاً كبيراً في هذا الوقت. 


رضخت، وانضممت إلى إحدى الصحف الخاصة، ولكنني كنت أعود إلى عبدالقادر حمزة لأشتم رائحة «المسائية»، التي في هذه الأحوال كانت تنضم إلى مؤسسة «أخبار اليوم» الصحفية العريقة. هنا فقط نقطة التحول، فالاضطرابات كانت على أشدها، كثيرون آمنوا بأن الدنيا تؤخذ غلاباً، هكذا آمنت، وآمن معي عشرات الصحفيين في الجريدة الذين أرادوا تأمين المستقبل بالتعيين.
حدث الحدث الجلل. صرت صحفياً باعتراف النقابة. الفضل يعود إلى 6 عبدالقادر حمزة.


ولأن رياح التغيير كانت شديدة، كانت أشد مما أتوقع، طالت الناس وطالت المبنى. المبنى صار آخراً، صار أقرب إلى مؤسسة «أخبار اليوم»، صار في آخر شارع الصحافة. صار الاسم «الأخبار المسائي».


هنا بدأت الأزمات. هنا بدأ التوزيع يقل بدرجة مخيفة. هنا كانت السنة التي حكم فيها الإخوان المسلمين. هنا كان التحدي. هنا الحرب وهنا الدعوات إلى السلم والسلامة. استمر العمل، واستمرت التحقيقات والحوارات. كان الفن يتوارى، وكانت السياسة في المقدمة. عملت في قسم «الدسك» عشقي وحبي الأول والأخير. صنعت مانشيتات رنانة. أعدت كتابة الموضوعات، شعرت أن التغيير قادم لا محالة.
نجحنا ذهب الإخوان إلى غير رجعة ذهبوا إلى الأبد. ظننا أن الصحافة ستعود إلى حريتها، وإلى ألقها المعتاد. 

سنوات تمر، والجميع يعمل، ولكن الحياة كانت قاسية هنا في آخر شارع الصحافة، الصحافة عموماً كانت تعاني بفعل التغيير الذي طرأ على الحياة التي صارت أكثر مواكبة وأكثر سرعة، وأكثر تكنولوجيا. هنا شعرنا بأن الأيام ثقيلة، وأن القدر المحتوم آت. قدر الإغلاق، وقدر أن تختفي «المسائية» التي صارت فيما بعد «الأخبار المسائي» والتي كانت فيما قبل «السياسي المصري».


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة