مع جبور الدويهى خلال الإشراف على ندوة جائزة البوكر العربية
رحيل جبور الدويهي..روائي الحياة اللبنانية
الإثنين، 09 أغسطس 2021 - 11:30 ص
كتب :منصورة عز الدين
برحيل الروائي اللبناني جبور الدويهى (1945- 2021)، خسر الأدب العربي واحدًا من أفضل كُتَّابه المعاصرين، وخسر أصدقاؤه ومعارفه صديقًا لا مثيل له فى اللماحية واللطف والثقافة.
وانتقل صاحب "اشريد المنازل" إلى العالم الآخر، لتبدأ حياته الحقيقية ككاتب، فالكتاب المجيدون، تبدأ حيواتهم برحيلهم، لأنهم تركوا خلفهم أعمالًا قادرة على البقاء بمفردها، دون الحاجة إلى آليات دعاية وتسويق أو إلى الحضور الجسدى لمؤلفيها. هكذا يمكن لـاالموت بين الأهل نعاسب وااعتدال الخريف واريّا النهرب واعين وردة وامطر حزيران واطُبع فى بيروت وأعماله الأخرى، أن تواصل وجودها على نحو أعمق كأعمال أدبية متميزة، تُضيف الكثير إلى المتن الروائى والقصصى العربي.
وفي أعماله الروائية المُهندَسة ببراعة والمنحوتة بإزميل الفن المتقن، كان الدويهى مولعًا بالشخصيات ملتبسة الهوية، العابرة للطوائف، والتى تبدو محكومة ذفى الغالب- بأقدار تراجيدية منذ لحظة ميلادها، لمجرد أنها وُلِدت في مكان بعينه وفي ظروف عائلية وطائفية شائكة ومعقدة، وحتى الشخصيات الهامشية، اعتاد أن يرسمها بعناية شديدة تجعلها عصية على النسيان.
وكان مولعًا بالمثل بلحظات الأفول، سواء لحظات أفول أفراد أو عائلات أو حتى مجتمع بكامله، واضعًا يده ببصيرة على مكمن جراحه دون مواربة إلا تلك التى تمليها جماليات الفن، وبسخرية قادرة على إبراز الوجه العبثى الأحمق للعنف. وبهذا نال بجدارة لقب روائي الحياة اللبنانية. وأتذكرأنه أخبرنى مرّة أن البعض قد اتهمه بتحريك السكين فى الجرح بكتابته لـامطر حزيران، المنطلقة من حادثة حقيقية وقعت فى الخمسينيات ولا يزال بعض شهودها أحياء، والآن أقول فى رد متأخر عليه: وما فائدة الأدب إن لم يُذَّكِّر بالجراح التى التأمت على صديدها، ولم يُترَك لها الوقت أو المجال لتطيب؟!
وتعرفت على جبور الدويهى لأول مرة حين زار أخبار الأدب فى سبتمبر 2008، إن لم تخنّى الذاكرة، بعد شهور من وصول امطر حزيران إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية فى دورتها الأولى، وهى الرواية التى صدرت لها قرب نهاية العام نفسه طبعة مصرية عن دار الشروق، وكانت طريقى الأول إلى عالمه الروائى الثري.
وفى القاهرة أيضًا كان آخر لقاء جمعنا على هامش مشاركته فى معرض القاهرة للكتاب عام 2019، وبين اللقاء الأول والأخير كانت هناك لقاءات عديدة توزعت بين أبو ظبى وبيروت، ومن بينها مشاركتى معه فى الإشراف على محترف الكتابة التابع لجائزة البوكر العربية عام 2010.
وعلى مدار هذه السنوات، كان ثمة نقاشات مستمرة بيننا تتمحور حول الأدب والفن بشكل عام. كان من المعتاد مثلًا أن يسأل إن كنت قد قرأت عملًا معينًا صدر حديثًا وما رأيى فيه؟ أو يطلب منى أن أخبره حين أقرأه، فى حالة كنت لم أقرأه بعد، لأنه يرغب فى معرفة رأيى فى تفصيلة معينة فيه. وكنت بدورى أوجه له أسئلة مماثلة. فالحديث عن الكتب والقراءات الخاصة مثَّل شغفًا مشتركًا.
كان الدويهى لا يمل من إعادة قراءة ابحثًا عن الزمن المفقود لبروست، وقال مرة إنه يدخر فصولًا معينة منها لأيامه الأخيرة. كأشياء كثيرة تفوتنا، فاتنى أن أسأله: أى فصول بالضبط؟ ولا أعرف إن كانت قد أُتيحت له الفرصة لهذا قبل وفاته أم لا. أما العمل الذي تمنى كتابته، فكان: أرحلة إلى آخر الليل لسيلين، ومن بين أعماله هو كان يرى أن امطر حزيران هى الرواية الأمثل لتعريف القراء الجدد به، لأنها تدلهم على المَعين الاجتماعى الذى خرج ولأنها ذبحس كلماته- كتاب تركت فيه العنان لتمارينى فى السرد حول عالم أحفظه غيبًا.
وعاش صاحب اأعين وردة للأدب وبه وفيه، فإضافة إلى كونه قارئًا نهما وكاتبًا مهمًا، كان أيضًا أستاذا للأدب المقارن بالجامعة اللبنانية، واعتاد فى أحاديثه الخاصة أن لمراحل حياته بقراءاته، ذكر مرّة مثلًا أنه لا يندم سوى على
: إهمالى القراءات الأدبية في فترة العمل السياسى اليساري الذى فرض علينا الانكباب على مطالعات أحادية من ماركس وإنغلز إلى لينين وأتباعهم من المعاصرين، ويوم شاهدنى بعض الرفاق المتزمّتين أقرأ فى كتاب ادون كيشوت، سخروا من اهتماماتى ووضعوها فى باب المراهقة المتأخرة. غير أن القارئ المتابع لكتاباته يدرك أن هذه القراءات السياسية (والعمل السياسى اليسارى فى المجمل؟)، لم تكن طاقة مهدرة، إذ أن كتابة الدويهى الأدبية قد نهلت الكثير من هذه التجربة وكعادته فى السخرية الذكية أظهر اللمحات العبثية المتوارية فيها. فكما يليق بروائى متميز، اتسم الدويهى بفراسة لافتة فى قراءة البشر، ووَضْع يده على ملمح روائى ما فى شخصياتهم، هكذا كان يحيل كل ما يصادفه من شظايا الأحداث والمواقف والأشخاص إلى فنٍ خالص
فى النهاية، إن افترضنا أن موت الكُتَّاب يشبههم على نحو ما، فإن ما يشبه كاتبنا الراحل فى ملابسات وفاته، أنه رحل برفقة صديقه المقرب ورفيق دربه الفكرى فارس ساسين، المثقف الموسوعى وأستاذ الفلسفة؛ الذى لحق به فى غضون ساعات قليلة من وفاته، كأنما أبى ساسين إلا أن يرافقه فى رحلته الأخيرة هذه. وهذا الأمر يبدو أشبه بتفصيلة مكتوبة فى إحدى روايات جبور الدويهي، كأنه هو من صاغ هذه النهاية المشتركة.
المصدر : جريدة أخبار الأدب
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة