اللوحات للفنان: محمد الطراوى
اللوحات للفنان: محمد الطراوى


خيال ديمون

أخبار الأدب

الإثنين، 23 أغسطس 2021 - 12:04 م

كتب :عبد الرحيم كمال
كان ثلاثتنا على شاطئ البحر أنا وسمعان وقابس، نادى علىّس سمعان كى أفيق 
أسرع يا ديمون وكفى شرودا.


الشمس بالكاد تكمل شروقها فوق ماء البحر فيلمع فرحا بصديقته الزاهية التى تنثر بهجتها على موجه.
 يعتلى قابس السفينة قبل الجميع يشعر حينما يعتليها قبلنا مسرعا بأنه ملك.
كان يصرخ بصوت عال أنا الملك (يحصور).. أنا الملك (يحصور).
يكون سمعان قد لحق به ويضع يده على فمه حتى لا يكمل صرخته الثالثة محذرا جنوده يملأون البر والبحر، فلا تصرخ باسمه هكذا حتى لا يلقوا بنا فى غياهب السجن، أكون أنا آخرهم وصولا بعد أن أدفع السفينة بكلتا يدى وتغوص أقدامى فى رمل البحر، ثم أقفز داخلها وعيونى معلقة بالبر الذى يبتعد، يصيح قابس فى حماس: 
انتبه أمامنا يوم طويل من العمل.
تتهادى بنا السفينة فيأخذ قابس نفسا فى فخر ويرفع رقبته ناظرا للسماء وكأنه أتى بما لم يأت به أحد من قبل، كانت تلك السفينة فكرته هو من البداية.
 هى ليست سفينة بالمعنى المتصور للكلمة، فهى فوق القارب ودون السفينة، سنوات طويلة من الفقر مررنا بها، أنظر للبحر وأتذكر ذلك اليوم جيدا. كان الجوع يمنعنى يومها من التفكير، وكان الحل كالعادة فى الشرود، كنت أقاوم الجوع بالتفكير الحر وأترك خيالى يسبح فى كل عالم عجيب، أتذكر أقوال أمى وحكاياتها عن العفاريت وأحاول أن أتخيل شكل عفريت من عفاريته لعل ملامحه الغريبة تطرد ذلك الألم الذى يعتصر بطنى، لم أعد قادرا على الكلام وهبطت دموع سمعان وهمهم باكيا:
لماذا يا رب خلقتنا فقراء هكذا؟
 وحده قابس كان مشغولا يفكر فى شىء آخر ويخط بأصابعه على طين الشاطئ الطرى حتى اكتمل الرسم ،سفينة صغيرة صنعها بأصابعه، نادى علينا وأشار إليها فى سعادة:
أنظرا 
مسح الموج رسمته ولم أكن أنا وسمعان قادرين على التعليق فهتف:
انتظرانى. 
وغاب فى درب من دروب تلك المدينة المطلة على البحر وعاد بعد ساعات طويلة يحمل أخشابا مختلفة الأطوال بعضها على كتفه والباقى على حمار هزيل.. 
صارحنا بعد نظرات طويلة منا: 
لو لم أسدد ثمن تلك الأخشاب خلال ثلاثة أشهر سأكون عبدا لذلك المرابى، ساعدانى فى صنع ما أريد.
 اكتملت السفينة فى أسبوعين وأبحرت بنا فى الأسبوع الثالث وسدد قابس دينه قبل الموعد وها هو فى كل مرة تبحر بنا ينظر للسماء بفخر، لم نكن رجال صيد ولكن كنا نعمل فى البحر، ننقل بضائع من بلد لبلد نظير أجر زهيد ينقذنا من الموت، توقفت السفينة كالعادة فى ذلك الممر الضيق الذى يشكل برزخا بين جزيرتين، برزخ نمر به كل يوم فى طريقنا البحرى، وكانا هناك يقفان معا على إحدى الجزيرتين، رجلان عجيبان لم أر مثلهما فى حياتى أحدهما طويل، قوى الملامح،عيناه كأنهما موقدان مشتعلان، يختلط لهيبهما بضوء الشمس، فيزداد وجهه توهجا،كان شعر رأسه الأشقر الجعد الطويل ولحيته الحمراء المهذبة تجعله بشريا بملامح إلهية، أحمد إلهى أن سمعان وقابس لم يسمعا وصفى لهذا للرجل وإلا اتهمانى بالكفر، فكلاهما يعتقد فى إله قديم واحد قادر ليس كمثله شىء،أما أنا فإلهى كان يتغير. تصورى له وفق خيالى الذى يتغير هو الآخر فى كل لحظة،وكان الرجل العجيب يرافقه رجل أعجب، أشد منه نحافة وعيونه هادئة شديدة الاتساع، إن لم تحذر عند النظر إليهما كدت أن تقع فى أعماقهما، كان أسود الشعر واللحية خمريا ليس فى بياض صاحبه، وكان لا ينظر إلينا بل ينظر للسماء ويبتسم، طلب العجيب ذو الملامح الإلهية منا أن نحملهما معنا فى السفينة إلى أقرب شاطئ ووافق قابس وقلق سمعان، بينما كنت أنا غارقا فى تأمل الرجلين. 
أكملت السفينة طريقها والرجلان معا على حالتهما من الصمت، ثم قال الطويل ذو العيون المشتعلة للهادئ ذى العينين المتسعتين: مر وقت طويل ولم يحدث شىء...متى ستعلمنى؟
 ابتسم له رفيقه، وانزوى فى ركن من أركان السفينة دون أن يرد وتبعه الطويل وزاد قلق سمعان منهما، فهمس فى أذنى آمرا
راقبهما..
فى ركن السفينة رأيت شيئا عجيبا لم أفهمه، الرجل الهادئ ذا العينين الواسعتين يخرج قادوما ويبدأ فى دق وخرق جزء من سفينتنا. هممت أن أصرخ واستنجد بسمعان وقابس حتى يمنعاه ويلقيابه وبصاحبه فى البحر،أذلك جزاء صنيعنا معكما؟ يا له من فعل شائن؟
فتحت فمى لأصرخ لكن الرجل ذو العينين الواسعتين نظر لى مبتسما وهو يواصل خرق السفينة فنظرت إليه وكانت تلك هى خطيئتى الكبرى، فما إن نظرت إلى عينيه حتى أصابنى الصمت وتسمرت فى مكانى لم يكن الصمت فقط هو أغرب ما حدث لكن الأغرب هو الحب! لقد أحببت ذلك الرجل جدا حينما نظر إلى تلك النظرة اللطيفة وابتسم. أحببته حبا جعلنى مستعدا لأن أموت دونه، وقعت فى غرام رجل يخرق ويخرب سفينتنا التى صنعناها بجهدنا وجوعنا  لتكون مصدر رزقنا وتعيننا على غيلة الأيام. واصل الرجل فعل الخرق وعيونه معلقة بى وقلبى معلق بنظرته وابتسامته ورفيقه ذو العينين المشتعلتين ينظر له فى دهشة وغضب، غضب جعل الماء يرجف أكثر تحت السفينة والشمس تقترب بوجهها أكثر لتتطلع بفضول على ذلك المنظر العجيب. توقف الرجل عن النظر إلى، وبدأ الماء يتسرب لسفينتنا عبر الخرق الصغير وما إن توقف عن النظر إلى حتى زال أثر سطوته فصرخت
سمعان.. قابس..أدركانى.
هرع كلاهما نحوى وربت قابس على كتفى وقال: اهدأ، لقد رأيته قبلك 
وهز سمعان رأسه فى يأس وهو يشير إلى البحر وقال فى غم: هلكنا يا ديمون. 
كانا ينظران إلى عمق البحر حيث سفينة الملك يحصور المجهزة والمسماة بفرس البحر لسرعتها، تقترب من سفينتنا بكل قوتها. كان الحدث أكبر من أن أشير لهما نحو الخرق الصغير وأخبرهما بما فعل الرجل، قال ذو العينين الواسعتين:
تقلقوا 
ورد قابس فى صبر: لا ذنب لكما ما انتما إلا ضيفان فأهدأ.
اقتربت سفينة الملك يحصور فى لحظات ومدت سقالات قوية بيننا وبينهم، عبر عليها ثلاثة من جنود الملك إلى سفينتنا، لطم أحدهما سمعان ودفعنى الثانى وأفسح قابس الطريق للثالث فى تسليم تام ونظر كبيرهم إلى ذى العينين الملتهبتين فى غضب لكنه تراجع بسرعة وبدأ فى فحص السفينة فأشار أولهم ساخرا إلى الخرق فضحك الجندى الثانى وبصق الثالث، ثم غادروا وعادوا لسفينتهم التى واصلت إبحارها مبتعدة عنا.
أخذ سمعان وقابس وقتا فى سد ذلك الخرق الصغير وأنا على حالى من الصمت حتى اقتربت السفينة من أحد الشواطئ وعليه هبط الرجلان الغريبان وعينى معلقة بهما وواصل الرجل ذى العينين الواسعتين طريقه وخلفه مسرعا متسائلا يسير صاحبه المشتعل بأنواره، حتى اختفيا عن ناظرى وأوغلا فى ذاكرتى، ومرت سنون طويلة بعد يعد ذلك، كلما هممت أن أحكى لسمعان وقابس ما رأيته أحجم عن ذلك، وأبتسم فى مسرة.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة