دكتورة اعتدال عثمان
دكتورة اعتدال عثمان


اعتدال عثمان: نجيب محفوظ دائما في محيط بصري.. وذكراه كأنه ميلاد جديد

بوابة أخبار اليوم

الأحد، 29 أغسطس 2021 - 06:37 م

دائما ما كانت حياة نجيب محفوظ مصدر إلهام لغالبية المبدعين، وعندما رحل عن عالمنا ظلت أعماله لها النصيب الأكبر داخل حيّز مكتباتهم، تخلق لنفسها مكانا يتجدد كل فترة، ويستقبل الجديد دائما، فما زالت الكتب الجديدة عن عوالم محفوظ تصدر ولازالت أعماله تكسب قراء جددا كل يوم، لكن العلاقة مختلفة خاصةً مع هؤلاء الذين اقتربوا منه إنسانيا فهو لم يكن مجرد كاتب بالنسبة إليهم، لكنه ربما وصل إلى صورة «الكمال»، إذ أضاف لهم محفوظ الكثير خلال حياتهم، هنا نحاول الاقتراب أكثر، لنتعرف عن بدايات معرفتهم بكتابات محفوظ وأعماله، وكذلك الإجابة عن سؤال رئيسى هو «ماذا يمثل ركن محفوظ بالنسبة لهم؟».

وعن الإلهام من إبداعات محفوظ تقول الناقدة والكاتبة المصرية الدكتورة إعتدال عثمان: أنا عاشقة للقراءة منذ وعيت، وحتى عندما لا تتسنى الفرصة كنت أخفى الكتب التى أحب قراءتها داخل الكتب المدرسية لتتاح لى مواصلة القراءة وقت ما أشاء تحت غطاء المذاكرة.

أذكر أن البدء برواية «بين القصرين» كان مشوقًا جدًا حتى أن ساعات النهار لم تكن تكفى القراءة، وكان نظام بيت الأسرة الصارم يقضى بدخول الفراش مبكرًا استعدادا لليوم الدراسى القادم. وبالطبع لا بد أن يسود الظلام عدا (نواسة) ضعيفة الضوء فى الممر الخالى بين الغرف، وهو المكان الذى كنت أتسلل إليه بعد نوم الجميع لأواصل قراءة الرواية وأنا واقفة على قدمى تحت الضوء الشحيح، فلم أكن أستطيع تركها حتى انتهيت منها. بعدها قرأت «قصر الشوق» و«السكرية» بشغف مماثل، لكن فى ظروف أفضل من خلال مكتبة المدرسة الثانوية التى أتاحت لى روايات محفوظ التاريخية الأولى وغيرها من الكتب المؤسسة. 

وعلى الرغم من مرور سنوات كثيرة يظل أبطال محفوظ فى نوبة صحيان دائم فى الذاكرة، فلا أنسى السيد أحمد عبد الجواد والست أمينة وكمال عبد الجواد فى الثلاثية، وعاشور الناجى فى «الحرافيش»، والجبلاوى فى «أولاد حارتنا»، وحميدة فى «زقاق المدق»، ونفيسة فى «بداية ونهاية»، و أنيس فى «ثرثرة فوق النيل»، وزهرة فى «ميرامار»، ومحجوب عبد الدايم فى «القاهرة الجديدة».  ويمثل إخناتون فى «العائش فى الحقيقة» أهمية خاصة لى، وكذلك الشيخ عبد ربه التائه، قناع محفوظ الذى ظهر فى نصوصه القصيرة الأخيرة.

الحقيقة أن الكتب أصدقائى، أئتنس بصحبتهم كل يوم، وكثيرا ما أمر أمام مكتبتى فى بيتى، وبالى مشغول بنص أكتبه بينما ألقى التحية على الأصدقاء من ساكنى الرفوف، وكثيرًا ما يُسٍّر إلىّ أحدهم من موضعه على الرف بفكرة يصلح اختبارها، فألتقطه مرحبة لكى أتحقق من ملاءمتها لما أكتب. وبالطبع كثيرا ما تستوقفنى كتب محفوظ التى تحتل مكانا يقع دائما فى محيط بصري.

وتضيف الدكتورة إعتدال عثمان أن ركن محفوظ فى مكتبتى يحتوى على أعمال مختارة من تأليفه ودراسات نقدية كتبت حولها، أعدت اقتناءها لأن مكتبتى الأصلية تفرقت بين البلاد بسبب السفر والانتقال، كما يضم كتبًا تسجيلية صدرت مؤخرًا حول جوانب من حياته الأدبية والوظيفية قبل نوبل وبعدها. وبالصدفة أكتب هذه الكلمات الآن وعلى مرمى بصرى الكتاب الذى أنهيت قراءته اليوم، وهو كتاب «نجيب محفوظ – البدايات والنهايات» تأليف محمد شعير، وقد ذكرنى أحد هوامش الكتاب بالحوار الذى أجريته مع محفوظ شخصيًا فى مكتبه بجريدة «الأهرام» ونشر فى مجلة «فصول» فى عدد يناير 1986.

قرأت الأعمال الأخيرة عندى أكثر من مرة، خصوصا تلك التى كتبت عنها. القراءة الأولى كانت للمتعة والمعرفة، والقراءات التالية بدافع التأمل ومحاولة استكشاف قانون العملية الإبداعية فى تلك النصوص. 

آخر عمل أعدت قراءته مرات، ينقسم إلى نصين هما «أصداء السيرة الذاتية»، و«أحلام فترة النقاهة»، وفيهما تنفتح الكتابة على سؤال الوجود والحقيقة والخيال، كما تنفتح على لا نهائية التأويل لدى المتلقى نفسه عند كل قراءة جديدة.

فى هذه النصوص الأخيرة يفتح محفوظ أفقًا جديدًا للكتابة خارج الأطر المألوفة حتى لديه هو نفسه بتجدده وتحوله الدائم.  وفى هذه النصوص أيضا يجمع محفوظ بين الحضور الواقعى للذات عبر لحظات خاطفة من مراحل العمر، والحضور الحلمى الفانتازى المفارق للواقع بما يضفى على الكتابة حركية الخيال الحر المنطلق كما فى الأحلام، فيستطيع أن يعبر عن حكمة الحياة المتراكمة بخبراتها المتنوعة، كما يقدم خلاصة تجربته الإبداعية والإنسانية بحمولاتها المعرفية والفلسفية، ورؤيته للوجود والواقع فى قمة نضجه الإنسانى والإبداعى، وفى شكل أدبى بالغ التكثيف، وبليغ الدلالة، فقد تعلمت دروسًا كثيرة من محفوظ لعل أهمها محاولة تعرّف كيف استطاع محفوظ أن يقدم للدنيا ولبلاده ولأبناء ثقافته ذلك الإبداع الفريد المتواصل بعمقه ومحليته وعالميته واتساع أفقه وتحولاته معا، بحيث إننى كلما غصت فى أعماق ذلك البحر المحيط  تكشفت لى عوالم جديدة مدهشة.

تعلمت أيضا أن تواصل اهتمام الكتاب من أجيال مختلفة باستدعاء نجيب محفوظ فى كتب كاملة تحمل اسمه أو تتناول أعماله أو تحاورها أو حتى تتمرد عليها بحكم اختلاف الأجيال وتجدد الرؤى، ذلك كله إنما يعيده إلينا حيًا متجولًا بين السطور، وكأنه ما زال يمارس هواية تجواله اليومى ولقاءاته الأسبوعية مع الكتاب والحرافيش بكامل حضوره النابض بموهبته العالمية، وعمقه الإنسانى، وروحه المصرية الأصيلة، وتعليقاته الساخرة الودود.

تعلمت أيضًا الدرس الأهم من قوله: «مغادرة رغبة الكتابة هى يوم موتي». 

وها نحن نستحث لدينا رغبة الكتابة التى لا تفتر، ونحتفل بذكرى وفاة نجيب محفوظ فى 30 أغسطس 2006،  وكأنه ميلاد جديد.
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة