للفنان:  سلفادور دالى
للفنان: سلفادور دالى


أبداع

مرة أخرى.. المطلق والنسبى فى الآداب والفنون

أخبار الأدب

الأحد، 05 سبتمبر 2021 - 03:18 م

إبراهيم عبد المجيد
 

هذا حديث من باب الخبرة فى الحياة الأدبية، ومن باب الخبرة فى القراءة والتاريخ. آفة الفنون أن توضع لها أصول حاسمة، لأن الإبداع هو ابن الروح وليس ابن العقل. لو كانت الأمور كما يتصور البعض لما تقدمت الفنون. أكثر ناس واجهوا العسف من الحكام عبر التاريخ هم الأدباء. بعضهم قتل وبعضهم سجن وبعضهم أُجبر على المنفى لأن ما يكتبونه لا يعجب الحكام، ونسى الحكام أن الأدباء أبناء الروح أكثر مما هم أبناء العقل، وأنهم متيمون بما هو جانج وخارج عن المألوف. إذا فكر الكاتب فى هدف اجتماعى مما يكتب فسيأتى عمله ساذجا أقرب إلى النصائح والإرشادات جدير بأن يكون مقالا لا عملا فنيا. 


لا يوجد كاتب موهوب أو كاتب حقيقى مغرم بما هو سائد باعتباره أمرا عظيما. دائما يطمح إلى عالم أجمل  يقيمه بين صفحاته، أو قديما على جدران المعابد، أو فى الحكايات يطوف بها البلاد، لذلك كل من وضعوا أسوارا للابداع يتحرك بينها الأدباء أو المبدعون لم تنتج أعمالا تتجاوز الزمان. يمكن أن يرى المبدع فى نظام سياسى أملا فيكتب عنه رأيا، لكن حين يفكر أن يجعل رؤيته عملا فنيا، تضيع منه الفنون لأن لا شيء نهائى فى روح المبدعين. لكن أحب هنا أن ابتعد عن هذا وادخل فى منطقة أكثر شيوعا بين الكتاب، وهو اعتبار البعض إنتاجهم لا مثيل له، وإنتاج غيرهم لا يستحق الاهتمام. هذا جدل قديم فى تاريخ الأدب. كل المدارس الفنية حين ظهرت انتقدت ما قبلها، واعتبرت ما تفعله هو البداية الحقيقية، أو الرؤية الحقيقية، وأن ما تفعله هو ثورة على ما قبلها. هذا جدل قرأناه عبر التاريخ، لكن الحقيقة أن التاريخ احتفظ بكل الإبداعات العظيمة للسابقين واللاحقين. 
فى الفن التشكيلى مثلا اعتبرت الحركة التأثيرية نفسها بداية حقيقية، لكن بعدها جاءت حركات أخرى مثل تكعيبية بيكاسو وسيريالية سلفادور دالى وهكذا. فى الأداب كانت الرواية الرومانتيكية والمسرح الرومانتيكى ثورة على الكلاسيكية، لكن بعدها جاءت الطبيعية مع إميل زولا وكتّاب اللاشعور مثل جيمس جويس واستمرت المدارس ولم تنفى مدرسة أخرى، ولا تزال تتالى المدارس. فى الشعر العربى حدثت ثورة على الشعر العمودى التقليدى وجاءت مدرسة الديوان ثم المدرسة الرومانتيكية ثم الشعر الحر حتى وصلنا إلى قصيدة النثر ولم تنف واحدة أخرى فكما نحب شعر عبد المنعم رمضان وفريد أبو سعدة وحسن طلب ومحمد سليمان وجمال القصاص وغيرهم، نحب شعر إبراهيم ناجى وعلى محمود طه وأبو القاسم الشابى، ونحب شعر أحمد شوقى وحافظ، وقبلهم نحب الشعر العربى القديم جاهلى أو فى العصور الإسلامية. من لا يحب المتنبى أو المعرى أو قبلهما حتى طرفة بن العبد. الاختلاف فى الشكل والبناء الفنى لا يعنى الاختلاف فى القيم الإنسانية للموضوع.


 لاحظ أن المدرسة الوحيدة فيما أعرف التى لم تأت بأدب إنسانى حقيقى هى ما سُمى يوما بالواقعية الاشتراكية، لأنها وضعت حدودا وآفاقا للكتابة ترضى عنها الدولة السوفييتية وقتها، حتى مكسيم جوركى الذى يعتبره البعض كذلك لم يكن كذلك والله. وحين انتقلت هذه المدرسة إلى مصر وروّج لها بعض الماركسيين، قفز يوسف ادريس وتجاوزهم جميعا، هو الابن العاق لكل فكرة مسبقة، ولكل معنى ساذج عن التعليمية فى الأدب. حتى هنا فصراع المذاهب الأدبية طبيعي، لكن مشكلته حين يعتبر البعض أن ما ومن قبلهم، أو غيرهم، لا معنى له، بينما ما أنتجوه رغم جديد آفاقه هو من رحم القديم، لأنه إما انقلابا عليه، أو تطويرا له فى اتجاه آخر وبرؤى وطريقة أخرى. 


يصل عدم الاعتراف من البعض بما قبله إلى درجة تصور أن العالم يبدأ معه أو معهم إذا كانوا مجموعة من الكتاب. ويصل الأمر إلى درجة من السوء كبيرة حين يلوى بعض النقاد التابعين للتيار الجديد الحقائق، ويعتبرون أن البداية هنا فقط، بل ولا يهتمون بأحد آخر مواكب لنفس المرحلة لأنه خارج الجماعة. هذه سلوكيات لا تجدها إلا فى البلاد المتخلفة مثل بلادنا، لأنه حتى لو ادعت عكس ذلك، فهى ابنة فكرة الرجل الواحد والرأى الواحد فى السياسة تلقى بظلالها على الأدب والفن، حتى لو لم يكن من هو جديد رجلا واحدا. 


عادة يكون الحديث عن الحرية لمثل هؤلاء، وكيف أن الإنتاج الذى بشروا به أو ينحازون له، هو ابن الحرية والتمرد، لكنهم حين يمارسون حياتهم العملية فى النقد أو المتابعة لا يتوقفون إلا عند من بدأوا معهم، أو اقتنعوا أو بشروا بهم، وكثيرا ما يأخذ الأمر شكلا عمليا فى الحياة إذا كان أحدهم فى منصب ثقافي، وله يد فى اختيار الكتاب فى مهام ثقافية خارج البلاد فيختار من ينتمى إليهم، أو يمنع النشر لغيرهم، بل لا يتأخر عن الكيد لغيرهم، ويتصل بمن يتصور أنهم أهله وعشيرته ضاحكا قائلا «شفت صاحبك كان عايز ينشر كتاب عندنا ورفضت، أو كان جاى له دعوة سفر وسألونى قلت لهم لا. خدوا فلان أحسن». لقد عشت هذا ولن أحكى تفاصيله ورحم الله من رحل وأطال عمر الحي.. بعضهم طبعا إذا شاءت الظروف وكان متحكما فى جائزة يتصرف نفس التصرف، وهؤلاء لا أقف عندهم، وأرجو لا يقف عندهم أحد فالعالم أكبر منهم. وكما أن الإبداع ابن الروح فهناك فى روح الكون ما هو مكافأة لكل موهوب، فقط عليه ألا يتوقف عند هذه السلوكيات التى هى بنت التخلف السياسى الذى يعكس نفسه على سلوك بعض الأدباء. أنا أو نحن ولا أحد. تماما كفكر الزعامة السياسية. كل الإبداعات هى بنت النسبية رغم أن مبدعها وهو يبدعها يشعر أنها المطلق فى حياته وفى الحياة نفسها. ولو كانت هى المطلق ما تحركنا عن الحكى الشفاهى القديم مثلا، ولا عن الشعر القديم مثلا، ولا عن أى شىء تم إبداعه يوما ما على هذه الأرض.
 كلمة المطلق فى الفنون يمكن أن تجد لها مكانا فى أحاديث المقاهى ونميمتها، لكنها فى الحقيقة خارج إطار الفن. أحيانا تأخذ مسارا سيئا حين يرى بعض الكتاب الأصغر سنا، أن من قبلهم لم ينتجوا شئيا مهما، ويتصورون أنهم بذلك يفسحون الطريق لأنفسهم، فى الوقت الذى يكون فيه من هم أكبر سنا مات أكثرهم، وليس لهم حتى وجود فى المناصب الثقافية، لأنهم أصلا غير موجودين فى الحياة والأنشطة. هذه أيضا من حماقات العالم المتخلف. واحد من هؤلا كتب يوما منذ سنوات على صفحته بالفيسبوك، معلقا على خروج عدد من الكتاب الكبار قيمة وعُمرا، من القائمة القصيرة لجائزة البوكر«خلصنا من ... أبوهم العواجيز ولاد ال ....» يتيح الفيسبوك لهذه الترهات المكان ويفرح قائلها ولا يدرك أنه يسئ إلى نفسه أمام الغير. أى أن مشكلة المطلق والنسبى خرجت من صراع الأدباء مع الأنظمة إلى صراع الكتاب، فصارت شيئا لا قيمة له رغم أهميتها الشديدة.


 لا مطلق فى الفنون وكل الإبداع نسبى، ولا نفى من مدرسة لأخرى، ولا من عمر لعمر، ولا من كاتب لآخر إلا إذا كان الآخر غير موهوب، وهذا يتم دون تدخل من أحد. هى الظروف الاجتماعية والرؤى الفلسفية تتغير فتتغير معها الكتابة شكلا، وتبقى ثوابتها الإنسانية فى جوهر الإبداع.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة