د. أحمد مجاهد يكتب: بيكاسو وسط البلد: زيارة لبهجوري
د. أحمد مجاهد يكتب: بيكاسو وسط البلد: زيارة لبهجوري


أحمد مجاهد يكتب: بيكاسو وسط البلد: زيارة لبهجوري

أخبار الأدب

الإثنين، 27 سبتمبر 2021 - 12:43 م

في اللحظة الأولى التي شاهدت فيها لوحات الكتاب التوثيقي لمعرض (باليه بهجورى) للفنان جورج البهجورى الذي افتتح  الأحد 26 سبتمبر بقاعة أبونتو بالزمالك، قفزت فى رأسى على الفور تلك الأبيات لزميله وصديقه صلاح جاهين:«وبنت أم أنور، بترقص باليه بحيرة البجع، سلام يا جدع»

ليس لأن هذه الأبيات تتحدث عن فن الباليه، ولكن لأنها تتحدث عن بنت أم أنور.فلوحات هذا المعرض لا تصور جسد راقصة الباليه فى مثاليته المنشودة، ولا فى أوضاعه المبهرة؛ لكنها تصور فى أغلبها نساء عاديات، أعادت الدنيا القاسية نحت أجسادهن، فحذفت شيئا هنا، وأضافت أشياء هناك، لكنهن مازلن قادرات على الرقص، ومواصلة الحياة.

وقد كان اهتمام بهجورى برصد تلك المقاومة الروحية، أكبر كثيرا من اهتمامه برسم نموذج أنثوى مثالى، لملاك سقط علينا للتو  راقصا من السماء.

وتتصف لوحات هذا المعرض بما يمكن أن نطلق عليه (الاقتصاد اللونى)، مما يعطى مساحة كبيرة فى اللوحات للبياض الذى يوحى لبهجورى بالصفاء، فى مقابل الواقع الملوث، مصداقا لقول صديقه وزميله أيضا صلاح عبد الصبور:
«صافية أراك يا حبيبتى كأنما كبرت خارج الزمن»

فالمعرض يضم لوحات عديدة مرسومة بالأبيض والأسود فقط، بالإضافة إلى لوحات عديدة أخرى مرسومة بالأبيض والأسود فقط أيضا، ولكن مع استخدام مسحة شفافة من لون واحد أو لونين على الأكثر لأغراض تشكيلية معينة، مثل: الدلالة على نوع المادة المستخدمة ـ كما فى تلوين الآلات الموسيقية والمقاعد فقط باللون البنى ـ، أولإبراز الخطوط السوداء الرفيعة بصورة أكبر على بياض الصفحة، أوللتركيز على مواضع معينة فقط من الجسد، أو للتفرقة بين المستويات بلونين ـ كما هو الحال بين المايسترو الواقف، والفرقة الجالسة ـ، أو أن يكون اللون مجرد خلفية لإبراز الجسد فى بؤرة اللوحة.

أما وجود اللوحات الملونة بعيدا عن خطوط الأبيض والأسود فى هذا المعرض فهو أمر نادر، كما أننا نصادف فى كثير من تلك اللوحات النادرة استخدام اللون بوصفه قلما يرسم خطا، وليس بوصفه مساحة تملأ فراغا.

ويرجع السر فى ذلك من وجهة نظرى إلى ولع جورج باستخدام الخط الكانتورى فى الرسم، كما تجلى فى تجربته العريضة (خط واحد)، وفى لوحاته التى يرسمها كما يتنفس فى كل لحظة، لكل من حوله.

 

ويتسم هذا النوع من الرسم بالبساطة والنقاء الفطرى، فهو اختيار الحضارة الإنسانية البدائية، حيث ظهر فى العصر الحجرى بكهف لاسكو بفرنسا. ولا غرابة فى ذلك، حيث يقول يوسف فرنسيس عن جورج: «يسعى بهجورى وراء حلم ابتكار فن رسم حديث يكون عمره الآلاف من الأعوام! متأثرا بوضوح بفن مصر القديمة، الذى عاينه طفلا فى التماثيل الفرعونية بابزارات الصعيد».

وإذا كانت مسيرة الحضارة البشرية فى تطورها، لا تختلف كثيرا عن مسيرة نمو الإنسان» الفرد فى حياته العادية؛ فإن الخط الكانتورى أيضا هو اختيار الأطفال فى بداية تعلمهم رسم الأشخاص والأشجار والبيوت.

ولا يعنى هذا أنه حكر على الأطفال، لكنه وسيلة قد يفضلها كبار الفنانين أيضا وعلى رأسهم بيكاسو المثل الأعلى لبهجورى، حيث يقول: «فى فرنسا تميزت شخصيتى الفنية وتطورت كثيرا وصار لى أسلوبى الخاص فى رسم الشخصيات، وهو أقرب لرسومات بيكاسو حيث كنت أميل لأسلوبه».

ويتفق بهجورى مع بيكاسو بالإضافة إلى أسلوب رسمه للشخصيات؛ فى الخروج على القواعد الكلاسيكية، وفى الانطلاق بالشوارع والمقاهى لرسم المتسولين والبشر البسطاء ومشاهد الحياة العادية، وفى مروره فى الستينيات بتجربة الرسم التكعيبى التى كان بيكاسو أحد روادها، وفى الولع باستخدام الخط الكانتورى.

والخط الكانتورى الذى يعشقه جورج، لا ينظر فيه الرسام إلى لوحته التى يرسمها، بل ينظر إلى ما يريد رسمه فى الواقع، معتمدا على المشاعر الآنية التى يشعر بها الرسام تجاه موضوعه أثناء الرسم. وهو فى هذه الحالة أقرب ما يكون إلى من يرسم بقلبه، لا بعينه ويده.

 

ولهذا تكمن عبقرية بهجورى فى أن لوحاته مفعمة بالإحساس الشعبى، المتمثل فى نظرة العين الشقيانة الحزينة، وأثر الزمن على ملامح الوجه واستقامة الجسد؛ دون استخدام موتيفات شعبية أو تراثية، بل من خلال تقنيات تعبير غربية حديثة دمغها بموهبته الخاصة، وشفافيته الناصعة.

وحين يدخل جورج القادم من بهجورة بأقصى الصعيد، والذي عاش فى باريس 35 عاما، إلى مقاهى وسط البلد التي أدمنها كالنرجيلة، وتزين لوحاته جدران بعضها، كفارس منتظر.

أتذكر على الفور أبيات أحمد عبد المعطى حجازى، صديقه وزميله فى روز اليوسف وفى رحلة باريس أيضا، التى يقول فيها:
«يا أبناءه المتنظرين مجيئه .. هو ذا أتى!
خلع الإمارة وارتدى البيضاء والخضراء
وافترش الرمال
هو ذا أتى!»

 

هو ذا آتى حاملا أوراقه وأقلامه، ليتحدث إليكم بلغته الوحيدة التى يجيدها، فهو يقول: «لم أعرف فى حياتى غير الرسم والورقة والقلم، ولم أمارس أى هواية أخرى». هو ذا أتى لينفخ أنفاسه فوق الورق، فتدب الروح فى صوركم الميتة. هو ذا أتى ليرسمكم جميعا، ويهديكم لوحاته فى محبة بالغة.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة