من فن الواسطى
من فن الواسطى


البستان

كرمات الأولياء في الرواية

د.محمد أبوالفضل بدران

الإثنين، 18 أكتوبر 2021 - 02:36 م

«لحظاتُنَا كلُّها كرامات، وليس هنالك كرامة أفضل من كرامة العِلم» مقولة للشيخ محمد الطيب الحساني، ربما توضح لنا إلى أى مدى يكون حضور  الكرامات فى التصوف وأثرها فى أدبيـّاته.
إننى أرى أن الكرامات جنس أدبى مستقل بذاته؛ يتلامس مع القصة بل ربما يكون أساسها؛ بيد أنه يختلف عنها فى كون الكرامة حكاية مقدسة لدى الصوفيين، ولا أهدف إلى الدخول فى تيه السؤال عن حقيقة حدوث الكرامة أو عدم حدوثها، ومن ثم فإن ما سأستشهد به من نصوص مدونة أو شفهية ليس بالضرورة حدوثها أو رضا أبطالها عنها فالمقصد هنا النص وما يصاحبه من علاقات مرتبطة بظروف نشأته.

 

وقد اتجه الأدباء إلى التراث الصوفى يوظفونه فى إبداعهم، سواء أكانوا صوفيين أم غير صوفيين وقد لعبت الكرامات دور النبوءة فى الرواية

 وظف الأدباء العرب الكرامة فى الشعر والنثر، ولعل الكرامات أكثر واقعية - من وجهة نظرهم - قياساً إلى الصدفة مثلاً، ناهيك عن أن الكرامات أثرى خيالاً من الحبكات الأخرى

النص الكراماتى هو نص روائى لا متناه، يستطيع أن يواكب العصور كى يتجاوزها وهو التدوين الشعبى للأحداث والدّول، والتأريخ الهلامى لسيرة الأولياء أو ما يُطلق عليه حيث يبدع الشعب فى تخليد حياة أوليائه

قدم أحمد شمس الدين الحجاجى رؤية نقدية تكاد تكون من أدق التحليلات النقدية لرواية «عرس الزين» للطيب صالح فى كتابه «صانع الأسطورة» إذ اتكأ على التراث الصوفى فى تحليل أحداث الرواية وشخصية الزين بطل الرواية

وقد قمت بدراسة معظم الكتب التى حوت الكرامات وقد كان بذهنى أنها خاصة بكتب التراث إلا أننى فوجئت بأن ما يُطبع الآن فى المطابع العربية  وكذلك الإسلامية يعادل بل يفوق ما دُوّن فى كتب التراث.

وتتخذ هذه الكتب مسميات كثيرة مثل: الكرامات، سِير الأولياء، المناقب، الشطحات، النفحات، الأعاجيب، الخوارق، المدَد، البركة وأحيانًا المعجزات. إن مصطلح «المدد» الذى لا يخلو منه مجلس صوفى أو كتاب صوفى هو تجسيد للِهبة الـمُنتظرة من الأولياء، ولعل «المدد» هو الكلمة المردًّدة فى جنبات الأضرحة والمزارات المقدسة على أفواه الناس ذوى الحاجات الذين يؤمنون بالكرامات ويتناقلون روايتها مخلّفين لنا - بوعىٍ أو بغير وعىٍ - تراثاً أدبيا جديراً بالدراسة وحَريّاً بالنقد والتحليل.

فى إطار محاولتى المتواضعة لتجميع الكرامات الشفهية  لحظت أن هذا التراث الحى أدعى بجامعاتنا ومؤسساتنا العلمية أن تتجه إلى جمعه وتدوينه ومن ثَم إلى دراسته وتحليله بحيث لا يُكتفى بتقديسه من منطلق صوفى أو نبذه من منطلق عقلانى بتحميله وِزْر بؤرة الّلا وعى فى العقلية الغيبية لدى الإنسان المعاصر. وقد بات واضحاً فى مجال المعرفة أن المنتج غير العقلانى يلعب دوراً كبيراً فى صنع التاريخ، وفى تحريك مجرياته ومن هنا فإن إهماله بدعوى إغراقه فى الغيبيات يُفقدنا جانباً كبيراً من دراسة المجتمع أدبياً واجتماعياً وسياسياً وتاريخياً. ولقد جمعت الكثير من الكرامات الشفهية وانتقيت منها على سبيل المثال والتدليل وتيقنت أنها مادة جديرة بالتدوين ومن ثَم التحليل إلا أن الهدف لم يكن التدوين فهذا يحتاج إلى فريق وجهد جهيد.

- ما الكرامة؟
الكرامة: هى خرق العادة من قِبَل وليّ، ومن حيث النظرية فلا فارق بين الكرامة والمعجزة إلا أن الكرامة تختص بالأولياء أما المعجزة فهى مختصة بالأنبياء وتهدف المعجزة إلى التحدى، الكرامات هى مادة الحديث فى السَّمر، ووسيلة وعظية فى المساجد، والأداة الوحيدة للترقّى فى المقامات لدى معظم الطرق الصوفية، وهى الحدث أو الغرض الجديد الذى يتكئ عليه الأدب العربى والإسلامى الحديث ولاسيما فى الرواية، ولذلك أرى أهمية دراستها وبحثها.

إن النص الكراماتى هو نص روائى لا متناه، يستطيع أن يواكب العصور كى يتجاوزها وهو التدوين الشعبى للأحداث والدّول، والتأريخ الهلامى لسيرة الأولياء أو ما يُطلق عليه حيث يبدع الشعب فى تخليد حياة أوليائه وكتابة سِيَر حياتهم وفق رؤيته لهم، ولهذا فقد أخطأ المؤرخون كثيراً عندما أزاحوا الكرامات الصوفية جانباً إذ أهملوا بذلك جانباً خصباً من طرائق البحث فى الوجه الآخر للمجتمع أشبه بالتأريخ الشعبى للحياة كما يتصورونها ويتمنّونها.

شطحات المحبين
 قد يشطح الصوفى فى ملفوظاته وأفعاله وما يؤثر عنه من كرامات، ويُرجِعون هذا الشطح إلى حالة السُّكر التى تنتابهم وهى نابعة عن السُّقيا التى عبر عنها عز الدين المقدسى (ت 660هـ=1262م) فى قوله:
فإنْ كنتُ فى سُكرى شطحتُ فإنني/  حَكمتُ بتمزيقِ الفؤادِ الـمُـفَتّتِ/
ومِن عجبٍ أنَّ الذين أُحبُّهـــم/   وقد أَعْلَقُوا أيدى الهوى بأَعِنّةِ/
ســقَوْنى وقالوا :لاتُغَنّ ! ولو سَقَوا  جبالَ حُنَيْنٍ ما سَـقَوْنى لغَـنّتِ
هذه السّقيا هى المعادل الموضوعى للإلهام أو هى الإلهام ذاته الذى يجعل لغة المتصوفة لغة شاعرية؛ لغة تمنح الأشياء مسمّياتها من جديد؛ فهى غياب حضور اللفظ وحضور غياب المعنى.

ولقد كانت الكرامات منهلا خصباً للأدب العالمى حيث وُظّفت توظيفاً انتشل الأدب من التقريرية للخيال اللا محدود والرؤى الشعرية التى تركت بصماتها على الأسلوب الأدبى للفنون؛ وقد استُقبل النص الكراماتى التراثى استقبالاً أثْرَى الحكْى الأدبي؛ وفى خلال عملية الاستقبال استطاع الأدباء أن ينتجوا نصا مغايرا للنص التراثى ومتجاوزاً له أيضاً، وهذا ما نراه فى النصوص الأدبية المستقبِلة للنص الكراماتى ولاسيما فى الرواية.

توظيف الكرامة أدبيا
 • وظف الأدباء العرب الكرامة فى الشعر والنثر، ولعل الكرامات أكثر واقعية - من وجهة نظرهم - قياساً إلى الصدفة مثلاً، ناهيك عن أن الكرامات أثرى خيالاً من الحبكات الأخرى، بيد أن هذا التوظيف جاء للإيمان بالكرامات فى أحايين كثيرة كما أنه قد جاء ساخراً منها فى بعض الأحيان.

 • وفى المقامات نجد جانباً كبيرا منها وقد أوشكت السفينة على الغرق إلا أن ولياً ينقذها فعلى سبيل المثال يسوق أبوبكر بن محسن باعبود الحضرمى فى «المقامات النظرية» على لسان الراوى الناصر بن فتاح وقد تكالبت الهموم عليه حاكياً «فقيل لي: لو نذرت بنذر معلق بحصول المراد للسيد الولى المدفون بأحسن أباد، لحصل مرادك وكَبَتَّ حسادك.

 • فنذرت له بما يليق بحالى ويبلغه مالى وعلقت النذور بإدراك آمالى، فما مضت من الأيام عدة من الشهور إلا وتفتحت أبواب الفرح والسرور، فعزمت العزم الصحيح، وصرت لزيارة ذلك الضريح»

 • ويحكى كيف عاش هناك وقتا من الزمن سعيدا بيد أنه يتعرض لعملية نصب واحتيال فيفقد كل ما لديه ويعود مجرداً من المال.

 • وسواء كان المؤلف مع الكرامات أو ضدها فإنه فى مؤلفه يتعامل مع الكرامات كجنس أدبى دون أن يقصد؛ فالكرامات ترقى بنصه الأدبى وتكون عامل تشويق ومصدر إدهاش للمتلقى.

 • وهذا التوظيف لا يتوقف على الكرامات فحسب بل يصل إلى توظيف التصوف بشكل عام، وقد تحدث Reuven Snir فى مقاله «الصوفية الجديدة فى الشعر العربى الحديث» عن موجة إحياء التصوف أدبياً حيث يرى «أن إحياء الشعر العربى فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر هى بداية ظهور جوانب صوفية فى الشعر العلمانى مثل شعراء الكلاسيكية الجديدة (...)»

 • ويرى Reuven Snir أنهم ركزوا على المديح النبوى ولم يتطرقوا إلى مبادئ التصوف والحب الإلهى؛ إلا أن التغير قد حدث عند شعراء الرومانسية الذين ركزوا على الذاتية وتجربتهم مع وحدة الوجود، وكذلك أدخلوا عناصر أسطورية ومنهم المسلمون والمسيحيون، بعد الحرب العالمية الثانية التى أضعفت عند الناس إيمانهم بالتقدم التكنولوجى والعلمى فى خدمة الإنسان ويلحظ أن هنالك اتجاها إلى العودة إلى القيم الصوفية النقية ووضح هذا فى أشعار الشعراء المسلمين الذين وجدوا فى التصوف ملاذا يهربون إليه.

 • ويخلط Reuven Snir بين المديح النبوى والتصوف فليس كل من قرض المديح النبوى صوفيا وإلا لعددنا جميع شعراء المديح من القدماء والمحدثين شعراء صوفيين! ويضع كل الشعراء الرومانسيين فى بوتقة الصوفية ولذلك فشعراء  أبوللو كإبراهيم ناجى وعلى محمود طه والشابى شعراء صوفيون وهو خلط عجيب ينبئ عن سوء فهم لماهية الشعر الصوفى وتوظيف الشعراء للمفاهيم والرموز الصوفية.

 • ويصل Reuven Snir إلى ذروة خطئه عندما يقول: «وانتشار الأدب الصوفى منذ منتصف القرن التاسع عشر متأثر بمدارس غربية مثل الرومانسية والسريالية والرمزية» وكأن كل الظواهر الأدبية فى الأدب العربى يجب أن تكون مستقاة من الفكر الغربى وهو افتراض خاطئ منهجياً إذ لم  يدرك أن التراث الصوفى قد وُظّف قبل ظهور هذه المدارس فى الغرب.

 • وقد اتجه الأدباء إلى التراث الصوفى يوظفونه فى إبداعهم، سواء أكانوا صوفيين أم غير صوفيين وقد لعبت الكرامات دور النبوءة فى الرواية التى كانت فى الأعمال الأدبية القديمة تأتى إما من الآلهة أو من الكهنة أوْ من العرافين كمأساة أوديب القائمة على نبوءة تتحقق بحذافيرها.

 • تميل فيلاند روتراود إلى أن «الروايات والقصص القصيرة المصرية فى القرن العشرين التى تدور كلها أو أجزاء كبيرة منها عن الاعتقاد الشعبى قليلة» وتأخذ أمثلة على ذلك أعمال  محمود تيمور (سيدنا)، وأحمد خيرى سعيد وتوفيق الحكيم، ويحيى حقي، وعبد الحميد جودة السحار، ونجيب محفوظ، ومحمود البدوي، ومحمود السعدني. وطه حسين (الأيام، شجرة البؤس) ؛ ومحمد جبريل: مصر فى قصص كتابها المعاصرين.

 • وتمضى قائلة «قبل بضع عشرات السنوات كانت اعتقادات سكان المدن ومعاملاتهم متأثرة بالمعتقدات الشعبية أكثر من الآن. ولذلك فإننا نجد أن الأعمال التى تصور التصورات والطقوس الشعبية (...) ظهرت أو تدور أحداثها قبل الحرب العالمية الثانية أو خلالها. «وربما كان هذا ينطبق على أعمال من الأدب الأوربى لكن الشعر العربى لم ينفصل عن تصورات الطقوس الشعبية والمعتقدات الشعبية  

 • قد يكون توظيف المعتقدات الشعبية «كمنظور حياة لها جاذبية وسط التغيرات الاجتماعية والثقافية التى تحدث فى مصر فى هذه الفترة؛ إنه البساطة، والرغبة فى البساطة تزداد فى بيئة تسيطر عليها تعقيدات الحياة والتطورات الحديثة يحس فيها الإنسان بعدم الثقة؛ الإنسان يتكل على أشياء كثيرة تعد من وجهة نظر العلم لاعقلانية، ويكسب بالذات لهذا حب هؤلاء الذين يقفون شاكين ضد فرص العلم الحديث» وهذا وإن كان صحيحا إلا أن ربطه بفترة معينة يخالف الواقع.

 • وفى إطار تعليق فيلند على رواية بين القصرين لنجيب محفوظ تقول: «لكن هذا لا يعنى أن نجيب محفوظ يقبل تقديس الأولياء لكنه يحاول أن ينمى تفهما للدور الدينى فظاهرة المعتقدات الشعبية التى لا يمكن أن تُفهم من خلال التحمس للتنوير أى من خلال الاهتمام المتحمس  بالاعتقادات الساذجة كرد فعل على نقدها الشكي».

 • وقد وظف الأدباء شخصية المجذوب فى القصة والرواية والمسرحية واستفادوا منه. وسأحاول التدليل على ماذهبت إليه بأمثلة من الإبداع المعاصر وهى مجرد أمثلة لأن الحصر ليس من مقصد هذا البحث:
الرؤيا فى الأدب الروائى كبديل للنبوءة
 • توظف الكرامة الصوفية توظيفاً أدبياً فى الأدب الروائى الحديث لا سيما فى حاجة المبدع إلى تنبؤ بمصير بعض الشخصيات. وحيث إن النبوءة محرمة دينياً وكذلك قراءة الغيب ولحاجة النفس البشرية إلى تشجيع ضد حوادث الزمن المستقبلية يلجأ الأدب إلى سد هذه الحاجة؛ ولذا صاح أبو تمام عندما وجد المنجمين حول الخليفة العباسى المعتصم بالله يحذرونه من فتح عمورية، صاح فى عقلانية تنويرية:

 • السـيف أصدق أنباءً من الكتب فى حده  الحدّ بين الجد واللعب
 • بيض الصفائح لا سود الصحائف  فى متونهن جلاء الشك والريب
 • وعندما حضر المنجِّم فى رواية «وا إسلاماه» لعلى أحمد باكثير مجلس جلال الدين قال له: «إنك يا مولاى ستهزم التتار ويهزمونك وسيولد فى أهل بيتك غلام يكون ملكاً عظيما على بلاد عظيمة ويهزم التتار هزيمة ساحقة (...) فالتفت إلى المنجم قائلاً: يا هذا لا يعلم الغيب إلاّ الله (...) وأرادت جهان خاتون أن تلاطفه (...): إن المنجم أحقر من أن يعرف الغيب يا مولاي.»

 • هنا نرى أن الموقف الروائى يحتاج إلى رؤية مستقبلية لا تتعارض مع معرفة الغيب ولذا يلجأ على أحمد باكثير إلى الرؤية المنامية التى لا تخالف الشرع بل توافقه وحيث إن الرؤيا قد تصدق أو تكذب لكن رؤية النبى (صلى الله عليه وسلم) فى المنام حق كما ورد فى الحديث: «من رآنى فقد رآنى حقاً فإن الشيطان لايتمثل بي» ومن هنا يرى قطز النبى فى المنام، وقال له: «قم يا محمود فخذ هذا الطريق إلى مصر فستملكها وتهزم التتار.» لكن  ما يفشل فيه باكثير فنياً هو تحقق النبوءة والكرامة معاً وهو الذى كافح التنبؤ إلا أنه صادف وحدث مستقبلاً. بينما يجعل محمد لبيب البوهى فى روايته «عين جالوت» التنجيم مصاحبا لهولاكو، والرؤيا المنامية مصاحبة لقطز الذى يرى النبى (صلى الله عليه وسلم)  كما ورد عند باكثير ويقول له ستملك مصر وتهزم التتار.

- وتتكرر الرؤيا أكثر من مرّة ثم قال له الهاتف الكريم «فى نبرات تقطر أسى: ثم تُقتل فهل تخشى القتل؟
 • - الموت  فى سبيل الله غايتى فهل سأموت شهيداً؟
 • - أجل.
 • - الحمد لله.»
 • لكن العجيب هو تحقق النبوءة من المنجمين ومن رؤى المسلمين وكأن كل فريق لديه طريقته فى معرفة الغيب. لكن ذلك قد يضعف بالبناء الفنى فى الرواية غير التاريخية؛ حيث معرفة القارئ لمصير الأشخاص منذ البدء بينما معالجة الحدث التاريخى روائيا محسومة المصير للشخصيات التاريخية فى ذهن المتلقي. فباكثير والبوهى مثلا لا ينتويان خلق صورة جديدة لقطز تتعارض مع التراث التأريخى لشخصيته وإنما يسيران فى ركب الكم التاريخى للشخصيات التى هى مرسومة مسبقا فى ذهن المتلقى الإسلامي. لكن النبوءة هنا وإن كانت غير ضرورية لمعرفة القارئ الأحداث المستقبلية؛ لكنها حذرة من جانبين: الأول أنها لا تتحدث إلا عن المصير النهائى للشخصية وهذا المصير معلوم مسبقا بينما تترك تفاصيل هذا المصير ورحلة الشخصية حتى ملاقاة مصيرها فى يد الكاتب وهى مجهولة بالنسبة للمتلقي.

• الثاني: أن الكاتب يود أن يقول للمتلقى إن ما تعرفه أنت من خلال كتب المؤرخين يجب أن تنساه وتتعامل مع رؤى جديدة قائمة على خيال إبداعى يساعد المتلقى على تقبل مغايرة المبدع للمؤرخ.  

 • و ساعد ذلك على تحرر المبدعين من أحداث التاريخ التراكمية «بحيث لم يصبح الماضى فى أيديهم قطعة جامدة وإنما بعثوا فيه الحياة فانعكست عليه ظلال الحاضر، ولتكتسب بذلك قيمة فنية» كما ساعد ذلك على خلق شخصيات من نوع ما أسماه عبد المحسن طه بدر باختيار المؤلف لبعض شخصياته حتى «تدع له مجالاً لاستعراض معلوماته فى موضوع معين حبيب إلى نفسه»

 • فى رواية «أضلاع الصحراء» يوظف إدوار الخراط الكرامة المحرضة على الجهاد والمبشرة بالنصر. فالشيخ عبدالله يتنـزل عليه «جواد أبيض دقيق السيقان عريض الصدر ينهض برأسه فى شموخ وعليه رجل جليل أبيض اللحية أبيض العمامة أبيض الوجه كاللبن الحليب فى ثياب سابغة بيض من الصوف الرقيق. والجواد ينـزل من سقف الحجرة يشقه فى لين من غير صوت كأنه سحابة من بخار متطاير القوام لكنه ثابت (...) والراكب الأبيض يبتسم للشيخ فيضوء العالم كله بنور لم ير له الشيخ مثيلاً قط (...) وراكب الجواد الأبيض يقول بصوته الرخيم ويكرر - أبشر يا عبدالله لا ترع فإنك لوافٍ بالعهد وقائم بالأمانة إن شاء الله.»

 •  ويفسر الجنود هذه الكرامة وهم على أهبة الاستعداد لمقاتلة الفرنجة «كرامة لله كرامة لله، رؤيا، الشيخ رأى رؤيا، جواد أبيض نزل من السماء، الحمد لله النصر لجنود السلطان (...) النصر للسلطان والجنود العرب.» ونلحظ توظيف التراث الدينى الإسلامى لدى إدوار الخراط دون تنسيق بل أقرب إلى كوكتيل ديكورى للأحداث حتى ينقل الجو الإسلامى فى افتعال فنى فى أحداث روايته؛ فهنا نلمح توظيف الإسراء والمعراج ومجئ جبريل والبراق فى مقابل الرجل والجواد ومقولة الرجل للشيخ عبدالله موازية لمقولة خديجة عندما أتاها النبى (صلى الله عليه وسلم) بعد أن جاءه لأول مرة جبريل فى غار حراء فترجّل إلى خديجة التى هّدأت من روعه قائلة له: أبشر يا بن العم. وهذه الرواية من أضعف الروايات فنا وأسلوبا؛ وتوظيف الكرامات هنا توظيف مقحم لم يخدم الغرض.

نماذج من الرواية العربية
• يقف يحيى الطاهر عبد الله بشكل واضح ضد الكرامات التى يرى أنها ضد العقل وأنها سبب رئيسى للتخلف والجهل ففى روايته الطوق والأسورة يسخر من الشيخ موسى «قطب البلد وحاميها، رحل من يومين، وقد بكته السماء قبل رحيله بيوم بأمر من الله الذى له ملك السموات والأرض» ويصف لنا الخبر وقد تجمع المريدون يُنشدون ويذكرون حتى منتصف الليل انتظاراً لطلعة الشيخ البهية من خلوته ولكن لم يخرج.» النفوس داخلها الشك، فتكلم المحبون بهمس، ثم ارتفع القول وتضارب: «نكسر الباب» من يجرؤ، كشف الستر عقابه شديد، سمعته بالأمس ينادى الله حبيبه: خذني، نادى الله بصوت مرتفع سمعته، بصوت كابد العشق،فى الأيام الأخيرة كان دائم الحديث عن الرحيل وعن الموت مفرق الأحبة والجماعات، يا ناس ربما طال به الوقت وهو هناك يطوف بمكة المكرمة، لا، هنا مكانه، ونحن حِمله الثقيل، فلننتظر عودته.»

 • وتتوالى الكرامات فى «الطوق والأسورة»: «شممت عطر الجسد وما شممت عفنه؛ الخشبة طارت طيراناً؛ ونحن ما حملنا الخشبة، هى التى سبحت فى الجو كغمامة مسرعة، (...) ليلة مماته من كل عام سنحييها بالدف والطبل وبالمزمار وبالخيل سنتسابق، وبالعصى سنلعب وسنقيم الأذكار ونطعم الطعام.(...) أحباب الشيخ - وكل البلد أحبابه - جمعوا المال ليبنوا الضريح، تشاوروا فى أمر النقيب الذى سيتولى النذور، (...)وحُسم النقاش بالآتي:
 • 1- البعد عن العدل ولو بشبر واحد لايعلم عاقبته إلا الله.
 • 2- للمحب والمريد الذى يطلب الشفاعة حق تقرير المزار.
 • 3- يقيم خليل البياض فى الضريح - حيث دُفن الشيخ - ويتلقى النذور.
 • 4- يقيم يوسف سليم فى الحجرة -فقد كانت خلوة الشيخ فى الحياة - ويتلقى النذور.»
 • إذا القضية هى النذور التى يقدمها الناس طالبو البركة ممن لديه القدرة على تحقيق الكرامات ولذلك لا نجد ضريحا دون صندوق لجمع النذور، ولقد قامت وزارة الأوقاف بوضع ضوابط لصرف هذه الأموال الكثيرة وحددت نسبةً تئول للنقيب، ومن هنا صار منصب النقيب مُدرًّا  للأموال، إضافة إلى ما يصاحبه من وجاهة ولاسيما فى أيام مولد الولى حيث يخرج ممتطيا الفرس -فى معظم الموالد -تتابعه العيون والقلوب تبركا به إذ يمثل فى نظر بعض الناس باب الشيخ وحاجبه ؛ ومن هنا يقاوم يحى الطاهر هذا المنصب الكَسْبى الذى يستغل جهل بعض الناس وسذاجتهم.

 • فى رواية «أيام الإنسان السبعة» لعبد الحكيم قاسم تأخذ الكرامات حيزا كبيرا فى بناء الرواية فهى تدور فى عالم الطرق الصوفية والدراويش فالشيخ الحاج كريم صاحب الكرامات المتتالية تزوج أبوه بامرأة من الأولياء من محافظة الشرقية «وحينما ماتت طار نعشها يكاد يقتلع أكتاف الحاملين تريد أن تدفن فى جوار آلها الصالحين لكن الجد الكبير وقف بجوار النعش يبكى ويتوسل لها أن تبقى، وما استقرّ النعش إلا بعد أن وُعد ببناء مقام له قبة وهلال لا تزال ترى قائمة فى مقبرة القرية إلى اليوم» وهنا يلح عبد الحكيم قاسم على توظيف الأضرحة لدرجة أنها تُستخدم لإقناع الميتة بالدفن فى مكان بعيد عن الأهل فى مقابل المريدين وذوى الحاجات الذين سيتقاطرون على الضريح حباً وطمعاً. وقد ساعد ذلك على وجود فن معمارى للأضرحة والقباب يتبارى فيه المعماريون فى تصميم القباب وزخرفتها بآيات قرآنية ورسومات فنية توحى بجلال صاحب المقام وتضفى هالة من القدسية على المكان وهذا يساعد على تواتر الكرامات المنسوبة لصاحب المقام.

 • وعندما يغضب الشيخ «ويثور ويطوح بالزجاجة الفارغة [كوكاكولا] بعيدا فتطير كأنما نبت لها جناحان تطير وتقع وتتقافز إلى أن تستقر واقفة على قضيب القطار سليمة لا تضطرب ولا تميل. يهلل الدراويش للكرامة ويتقاطر الناس وتنتشر الحكاية»

 • وفى محاولة عبد الحكيم قاسم لخلق صراع جدلى حول الكرامات والتصوف أوجد شخصية عبدالعزيز الذى يحاول أن يغير المفاهيم التقليدية السائدة ساخراً من هذا الكم العدمى الذى يقف دون التغيير وتصل قمة المواجهة بين عبدالعزيز وأبيه عندما ينفجر الابن فى وجه أبيه والإخوان «أمم من غير عقل.. من غير تفكير..أمم بتدوس زى البهايم.. مش عارفين رايحين فين.. مش عارفين جايين منين..(...) بتعملوا ايه.. رايحين فين.. جايين منين.. يا عباد الأصنام»

 • ويدافع الشيخ كريم عن نفسه وعن إخوانه ومريديه: «عباد أصنام..؟ الله يلعنك.. احنا قلوبنا مليانه بمحبة أولياء الله»

 • ويرى روجر ألن فى موقف عبد العزيز الدرامى تجاه هذه الطقوس الصوفية ذروة الحدث التى «تماثل فى تأثيرها تحطيم القنديل فى جامع السيدة زينب الذى قرأنا عنه فى رواية يحيى حقى المشهورة «قنديل أم هاشم» (...) غير أنه بينما كانت الأحداث التى تلت التحدى فى رواية حقى تستهدف تصوير إمكانية الحلول الوسط والمصالحة فإن مسار التغيير الذى لا يرحم فى رواية عبدالحكيم قاسم لا يسمح بأى تطور من هذا النوع.» والحقيقة أن ما توصل إليه روجر ألن يخالف سياق الأحداث فى الرواية حيث نرى فى نهاية الرواية عبدالعزيز وقد اقتنع بما لم يقتنع به من قبل ويندم على ما فعل؛ ويعيد التفكير فى الأمور من جديد؛ وقد يكون ذلك انهزامية إلا أن جميع أبطال الرواية ينهزمون فى النهاية فالشيخ كريم تنسد شرايينه ويفلس؛ وعلى خليل يقاوم العلة؛ وامرأة عمر فرهود تشرف على الموت وابنهما الوحيد أزهرى فاشل؛ والشحات يقتل امرأة الشركسي؛ وسميرة تضطر للتخلى عن حبيبها عبد العزيز وتُزوج بغيره؛ ويضطر عبدالعزيز إلى هجر الكلية نحو الزراعة بيد أنه يفشل فيها أيضاً؛ وكأن لعنة قد أصابت الجميع. والعايق يصاب بالعمى مؤملاً فى كرامة تعيد إليه بصره، وهو الذى كان يردد أيام زمان «هوّا فيه ياست شيخ من غير كرامة ؟»؛ وربما كانت انهزامية أبطاله مؤشراً لموقفه.

 • وقد لحظت السيدة هيلارى كيل باتريك أن «شخصيات عبد الحكيم قاسم عدة أنواع؛ نوع ضحية (...) وآخرون يظهرون بالقوة ولكنهم غير قادرين عن الدفاع عن الآخرين» وربما كان هذا صحيحا إلى حد ما.

 • لكن تشابه موقف عبدالعزيز فى رواية قاسم مع موقف اسماعيل فى «قنديل أم هاشم» ليحيى حقى صحيح إلى حد كبير فقد عاد اسماعيل بعد أن درس طب العيون بأوربا ليفاجأ بأمه فى أول ليلة بعد عودته وهى تسكب زيت قنديل أم هاشم فى عينى فاطمة فيصرخ: «حرام عليك الأذية، حرام عليك، أنت مؤمنة تصلين فكيف تقبلين أمثال هذه الخرافات والأوهام؟
 • ونطقت أمه أخيراً:
 • يابنى ده ناس كتير يتباركوا بزيت قنديل أم العواجز، جربوه وربنا شفاهم عليه...احنا طول عمرنا جاعلين تكالنا على الله وعلى أم هاشم ده سرها باتع.
 • أنا لا أعرف أم هاشم ولا أم عفريت.
وسمع صوت أبيه كأنما يصل إليه من مكان سحيق.

 • ماذا تقول.. هل هذا كل كا تعلمته فى بلاد برّه؟
كل ما كسبنا منك أن تعود إلينا كافرا»
وتفقد فاطمة بصرها، لكن انهزامية البطل تقوده فى النهاية إلى استشفائه عينى فاطمة ببركة أم هاشم وبالطب الحديث، ويرى أحمد ابراهيم الهوارى أنه «هكذا آمن اسماعيل بالشعب، ثم آمن بما يؤمن به الشعب من تراث، ويستوعب التراث التبرك بالأضرحة بوصفه من الشعائر التى يؤمن بها الشعب (...) هذه محاولة للتوفيق بين الدين والعلم».
لكن أن يأتى اسماعيل لفاطمة بزيت قنديل أم هاشم لا يعد هذا توفيقاً بين الدين والعلم بل هو سوء فهم للدين ورضوخ لمفاهيم خاطئة وقتل للروح العلمية وانهزامية للبطل.
وقد قدم أحمد شمس الدين الحجاجى رؤية نقدية تكاد تكون من أدق التحليلات النقدية لرواية «عرس الزين» للطيب صالح فى كتابه «صانع الأسطورة» إذ اتكأ على التراث الصوفى فى تحليل أحداث الرواية وشخصية الزين بطل الرواية الذى جاء فى الرواية ولياً من أولياء الله فهو «مجذوب غير سالك لحظاته كلها محو» وربما كان هذا التحليل من أوائل التحليلات النقدية التى أظهرت حضور الكرامات فى النص الروائى وجماليات توظيفها لغة وتشخيصاً.

 • ففى رواية عُرس الزين للطيب صالح يبدأ المؤلف فى تشخيص ولى يدعى الزين حيث يبدأ فى تأريخ Hagiographie لحياته منذ مولده فهو «أول ما مس الأرض انفجر ضاحكاً، وظل هكذا طوال حياته.»

 • وهذا يطابق صنع الولى فى السّيَر الصوفية لكبار الأولياء حيث يحدث حدث خارق يجذب الانتباه فى لحظة ميلاد الولي؛ هذا الحدث يضع المولود فى طبقة الأولياء حيث يغاير أقرانه ويكتسب مكانة تليق بقدسيته. وحتى يتم البناء الولائى للشخصية يأتى المؤلف بشخصية الشيخ الحنين بما يكتنفه من غموض فى أصله وتصرفه ما بين الظهور والغيبة «يحلف أحدهم أنه رآه فى مروى فى وقت معين، بينما يقسم آخر أنه شاهده فى كرمه - فى ذلك الوقت نفسه - وبين البلدين مسيرة ستة أيام. ويزعم أناس أن الحنين يجتمع برفقة من الأولياء السائحين الذين يضربون فى الأرض يتعبدون.» ولا يصاحب الحنين من أهل البلدة غير الزين يأكل عنده ويقول عنه «الزين راجل مبروك» وشخصية الحنين هى شخصية تسند شخصية الزين وتدعم ولايته.

 • ويمضى المؤلف معطياً الزين الفتوة فقد كاد يقتل سيف الدين رغم أن الجمع قد أمسك به إلا أنه ممسوس بما توحيه هذه الصفة من قوى خارقة يمتلكها ولم ينج سيف الدين إلا عندما ظهر الحنين وصاح: «الزين..المبروك..الله يرضى عليك» وهنا فقط تركه. ويتوب سيف الدين على يد الحنين؛ وهو مستجاب الدعوة،  ويستخدم الطيب صالح فى روايته مصطلح المعجزة مرادفاً للكرامة ففى عام وفاته «توالت الخوارق معجزة تلو معجزة؛ بشكل يأخذ اللب، لم تر البلد فى حياتها عاماً رخياً مباركا مثل (عام الحنين) كما أخذوا يسمونه.» «وواصل حاج على تعداد المعجزات التى حدثت ذلك العام» لكنه لا يلبث قليلاً حتى يستخدم مصطلح الكرامات وبدا الأمر لديه مختلطاً؛ فالناظر الأزهرى ضد الكرامات دائماً ويكره الزين لأنه تزوج من الفتاة التى كان يتمنى لوظفر بالزواج منها لولا فارق السن «وقال الناظر: يا رجل ما دخلنا فى موضوع الكرامات؟» وأنه يحلل شخصية الزين الذى يعتقد الناس بولايته بينما يرى أن «الناس أفسدوه بمعاملتهم له كأنه شخص شاذ، وأن كون الزين ولياً صالحا حديث خرافة.»

 • والحنين تنبأ للزين أنه سيتزوج أحسن بنت فى البلد وتصدق النبوءة ويتزوج الزين من نعمة  بنت الحاج إبراهيم أجمل فتاة فى القرية.ويتساءل الجميع عن سر هذا الزواج غير المتكافئ وتتعدد التفسيرات ففريق يُرجع ذلك إلى دعوة الزين المستجابة؛ وفريق آخر يرى أن عناد نعمة هو الذى دفعها لهذا القرار؛ بيد أن حليمة بائعة اللبن روت أن «نعمة رأت الحنين فى منامها فقال لها: «عرِّسى الزين؛ اللى تعرّس الزين ما بتندم». وأصبحت الفتاة فحدثت أباها وأمها فأجمعوا على الأمر.» أى أن الرؤيا هى التى تحدد مستقبل الشخصية الروائية.

 •  ورغم أن الطيب صالح يناصر المعسكر المناقض للكرامات فى القصة  إلا أنه ينتابه شعور صوفى وهو يصف لنا اختفاء الزين لساعات فى ليلة عُرسه، والأفراح مقامة على قدم وساق، ويبدأ الجميع فى البحث عن العريس فلا يجدونه إلا بعد لأْى وحيداً جالساً فى الظلام أمام قبر الشيخ الحنين!

 • والرواية تتكئ على التراث الكراماتى فى وصف الشخصيات والأحداث فى توظيف يقوم بمهمة الحكى ويعمل على توثيق العلاقة بين القارئ والأديب، فالبداية لم تكن صدفة وقد ألقى الكاتب بإرهاصات الميلاد التى صاحبت الزين مما جعل القارئ فى حالة انجذاب للرواية يتتبع هذه الشخصية التى ألقى عليها التراث الكامن فى ذهن كل قارئ صفات الولاية حسب المفهوم الصوفى للولي؛ مما جعل المتلقى مشاركاً فى صنع شخصيات الرواية وما على الأديب إلا أن يشحذ ذهن المتلقى بكرامة حتى يتسيّد النص الكراماتى فى الرواية؛ إلا أن خطورة ذلك تنبع من عدم سيطرة الأديب على شخصياته التى لا يشكلها وحده فى هذه الحالة بل تتشكل وفق ثقافة المتلقى ورؤاه وحده بحيث يكون قادراً على خلق شخصياته وحده التى قد تكون متصارعة مع شخصيات الأديب ذاته.

 • وفى «عُرس الزين» لا يوجد حدث وإنما الرواية تدور حول مقولة عن حدث لم يحدث، وتتحول المقولة إلى مادة يصف الكاتب من خلالها شخصياته مطوراً النص الكراماتى - حتى لو بدا متعارضاً معه- فى بناء النص الكراماتى الروائي.
لقد قدم أحمد شمس الدين الحجاجى رؤية نقدية لرواية «الزين» انتبه فيها لصنع الأسطورة عند الطيب صالح الذى استطاع «أن يستخدم الأسطورة فى عمله الفنى وأن يوظفها كأداة لنقل عالمية التجربة الإنسانية وهو لم يصنع أكثر من أن يعيش واقعه وينقل هذا الواقع بمعتقداته تماما كما يتحرك أمامه»

 • فى كيفية وفاة الولى بلال فى رواية مريود للطيب صالح أيضاً تبدو الولاية من معرفة لحظة الموت إذ جاء المسجد لابسا كفنه آمًّا الناس وبعد الصلاة يوصيهم بمراسيهم جنازته ويموت فى إرهاصات روحية واضحة.

 • فى أعمال جمال الغيطانى ولاسيما فى «التجليات» يتكئ على التراث الصوفي، بيد أن روايته «هاتف المغيب» تُبنى على الكرامات فتتحول الحكايات عن رجال البريّة وهم إخوة سبعة أبحروا فى سفينة إلى أمكنة مجهولة إلى علامات استفهام لأسئلة ثكلى الإجابة. فعندما مات رسول ملك المغرب إلى ملك المشرق بنى على قبره ضريح «إنه الضريح الوحيد هنا، الكل يسعى إليه، المرأة عند زواجها لا بد أن تأتى مع أقرب صاحباتها، ثم تستحم عند مدخل الضريح، ترتدى ملابسها وتدخل منفردة لتتلو الشهادتين. كل ما يتقنهما الأهالي، بعضهم يحفظ الفاتحة ولكن كل بصيغ مختلفة. سمع عن أمرٍ غريب: اتجاه العذراوات منهن بعد البلوغ إلى الضريح والبقاء بعض الوقت حتى يزيل الشيخ بكارتهن بنفسه فتقع البركة! ويؤكد الجميع أنه فى حالات معينة وظروف خاصة يجيب على كل من يناديه أو يمد يده خارج التربة المرتفعة حوالى متر عن الأرض ليصافح المستجير به أو القادم لأمر ما. يؤكد أحمد بن عبدالله أنه رأى سحابة تظلل الضريح وينـزل منها ما يشبه خيوط الحرير يصعد عليها شخص لم يتحقق من هويته وفور اكتمال طلوعه ارتفعت الغمامة ومضت بعيداً»

 • «وتذكر الروايات المتناقلة أُمَّـاً بقى جنينها خمس سنوات ونزل مكتمل الأسنان، وعُدّ من الخوارق الغريبة لأنه مشى على الفور وقبّل ضريح الشيخ.»

 • ويكرر الغيطانى ذكر الحادثة الأخيرة فى خططه: «وقبّل طفل صغير ضريح ولي». وفى موضع آخر يتحدث الغيطانى عن الأضرحة التى تحتل جزءاً كبيراً فى الحدث الروائى «أعيد بناء السور وتحصينه، كما شُيدت الأضرحة للصالحين المشهور أمرهم عند كل ركن من السور ضريح؛ عدا الجهة المطلة على البحر الأعظم، هناك ثلاثة يرقدون تحت قباب خضراء ترى من بعد سحيق كما يؤكد البحارة الذين أوغلوا (...) طفنا بضريح سيدى عبدالقادر، ورد إلى ديارنا من المشرق، وفى الليالى التى يكتمل فيها القمر يسمع صوته من داخل القبر إذا أُلقى السلام عليه من عابر سبيل.

 

 • اجتزنا العتبة المؤدية إلى الداخل، هدوء فى سائر عناصر الموجودات، رقة فى الضوء، فى الفراغ، فى وجوه الخلق، حطوا بى فى مكانى المعتاد عند قدومى للزيارة، إلى يمين الداخل حيث أقيم صلاتى وأبدى نسكي، وأتأمل ما كان منى وما يمكن أن يكون (...)»

 • فى «متون الأهرام» للغيطانى نجد نظرة صوفية للأهرام التى يخلع عليها الكاتب صفة القداسة ويتعامل معها على أنها القطب والغوث حامل الأسرار ويبهت جميع شخصيات روايته معليًا من المكان (الأهرام). فهى «مقصد الشيخ تهامى، لب اهتمامه، بؤرة تفكيره، سبب وجوده فى هذه المدينة، فى هذا الموضع، من مكانه فوق الرصيف كان يطوف بالأهرام» «حضور الأهرام مهيمن، قوي، يؤطر الموجودات» «ينتهى عندها الأفق ويقع الخط الفاصل بين الأرض والفراغ العلوى» «هذا البناء المهيمن، المشرف، الملغز، المحيط، الدال، الجلي، الغامض، الراسخ، الصاعد، الثابت، الساري، القريب فى بعده، البعيد فى قربه»

 • كما أن معظم شخصيات الرواية يتعاملون بحس صوفى تبعثه الكرامات المنتظرة ولذلك فهم يجيئون من المغرب والمشرق قاصدين الأهرام، بل إن أحدهم يأتى بناء على توجيه شيخه ويقضى سنوات عمره راصدا الأهرام متطلعا نحوها «غير عابئ بشئ الا إلمامه بكل ما يمكن أن يعينه على معرفة الأهرام والعودة فى يوم، شهر ما، سنة ما، لحظة معينة يمثل فيها بين يدى شيخه»

 • ويتحرك بناءً على رؤية شيخه مناما حيث يوجهه من المغرب؛ والطفل الذى ينحدر من أسرة تتسلق الأهرام طمعا فى قروش النّظار من السائحين والعابرين تظهر عليه كرامات الأهرام منذ الصغر» «يؤكد كل من رآه أنه كان دائم التطلع إلى جهةالأهرام، إلى الغرب، لو حملته أمه يستدير إذا جاءت به يرتفع صراخه، مع الوقت أدركت فلم ترضعه إلا اذا جلست وظهرها إلى الأهرام. عندئذ تعلق شفتاه بثديها، وإذ يكتفى يدركه الندم العميق» وهذه الكرامات تذكرنا بكرامات الأولياء فى المهد لكن الفارق أن النص التراثى كان ينسب الكرامات إلى الولى القادم (الطفل ذاته) بينما يطور الغيطانى المفهوم إلى نسبة الكرامات إلى المكان المقدس وهو الأهرام الذى يخلع عليه صفات الولى القطب الغوث.

 • يبنى عبد الرحمن فهمى روايته «رحيل شيخ طريقة» على الكرامات محاولاً القضاء عليها فى حرب واضحة؛ وتبدأ الرواية بعودة مهندس الإلكترونيات الدكتور مهدى صالح من أمريكا ليشارك فى دفن والده الذى كان شيخاً لإحدى الطرق الصوفية واختلف الابن معه فهاجر إلى أمريكا حيث درس ويعمل هناك وكان الأب قد أوصى ألاً يدفن إلا فى حضور ابنه الذى ودً أن يخلفه شيخاً للطريقة من بعده، يتجه الابن إلى المستشفى حيث يتقابل مع إخوته الستة الذين يكبرهم ـ والمريدين الذين نزحوا من كفر المهادوة حتى يدفنوا شيخهم، ومن هنا تبدأ المفارقات فالمريدون يلتفون حوله فى حب يقبلون يديه لأنه شيخهم لكنه يرفض ذلك، ويقابلهم بعقلانية ترفض التصوف تماماً.

 • ويبدأ عبد الرحمن فهمى فى التهكم من الطرق والكرامات والتصوف يشكل عام فمهدى «بنى مستقبله على أن يعيش فى أمريكا إلى الأبد، وأبحاثه فى الإلكترونيات قد ترشحه لجائزة نوبل، ثم إنه متزوج من أمريكية وله منها ولد وبنت لا يعرفان من العربية إلا اسميهما صالح وزينب، فكيف يهدم هذا كله ليلبس العمامة الخضراء ويشتغل مايسترو لحلقات الذكر!!»

 • ويتجه مهدى نحو المشرحة لاستلام الجثة ويفتح الموظف ثلاجة المشرحة حيث توجد جثتان فقط ويناول المغسل جثة الشيخ صالح ليغسلها ولا يستطيع أن يرى جثة أبيه لانهمار دموعه ثم تبدأ الكرامات:

 • 1 ـ يدنو المغسل من مهدى ويقول له: «عندما كشفت عن جثة المرحوم أدركت أن الملائكة قد سبقتنا وغسّلته.
 • - نعم؟!! قالها مهدى وهو ينظر إليه فى حدّة.»
 • 2- يتذكر مهدى حواراً دار بينه وبين أبيه «لكن هناك علوماً أخرى اسمها علوم المكاشفة، يعنى علوم الباطن، وهى علوم لا يعرفها الإنسان من الكتب، بل من نور يشرق فى قلب الواصلين من أولياء الله فيكشف لهم عن أسرار الوجود فى لمح البصر.
 • فقال مستنكراً: يكشف أسرار الوجود فى لمح البصر؟؟
 • فردد الشيخ فى إصرار: نعم يكشف أسرار الوجود فى لمح البصر.
 • - يعنى الولى الواصل يعرف فى لمح البصر أن الذرّة مثلاً تتكون من الكترونات تدور حول البروتون؟
 • - مؤكد.(...)
 • - بابا هل تصدق حقاً أن سيدى الطشطوشى عرف تركيب الذرة من مئات السنين؟
 • - ليس سيدك الطشطوشى وحده، بل كل ولى صالح ترقى إلى درجة الواصلين.»
 • 3- فى الطريق يركب مهدى بجوار سائق عربة الموتى ويفقد السائق القدرة على التحكم وتحدث حادثة ويفقد مهدى الوعى ثم يسترده على صيحات هنداوى المجذوب «صلوا على حضرة النبي، بركة الشيخ (...) شفتم بركة الشيخ؛ السيارة واقفة على طرف الريَّاح ولكن رأسها إلى السماء، الشيخ يريد أن يصعد إلى السماء لا أن ينـزل إلى الماء، اذكروا الله يا غجر، الله حي، الله حي» ويقترح مهدى أن تُنقل الجثة إلى سيارة أخرى بعد أن تيقن من تلف السيارة إثر الحادث لكن هنداوى يأمر السائق «اركب يا اسطى ودوّر ؛اركب وقل: يابركة حضرة النبي!

 • وهمّ مهدى بأن يعترض (...) قفز السائق إلى مقعده فى السيارة، وأدار المحرك فدار « وهنا يبدأ الصراع الداخلى لدى مهدى فكيف لهذا المجذوب الأمى أن يعرف أكثر منه، وهل فى الأمر كرامة؟ ومن ثم فالعقل ليس قادراً على أن يستوعب كل الأشياء!

 • وفى أثناء الرواية يناقش عبد الرحمن فهمى قضية الكرامات مناقشة صريحة وهل هنالك وسيلة للعلم خارج نطاق العقل؟ وتتخذ المناقشات صراعا فى نفسية البطل بين العقل واللا عقل ويتأرجح البطل فى انهزامية أمام أمه التى تؤمن بالكرامات ليتدخل المؤلف منهياً الرواية بمشهد غريب إذ أن الجنازة تقترب من المقبرة وسرعان ما يأتى المحافظ وقيادات المحافظة فى كوكبة من الشرطة ويأخذون الجثمان عنوةً إلى مبنى مجاور بحجة الصلاة عليه، ويمتعض مهدى لهذا الموقف لاسيما عندما يرى السفير الروسى والسيد كوزيموف المستشار الثقافى بالسفارة الروسية اللذيْن بصحبة المحافظ الذى يشرح له الأمر: إن الجثة التى أحضرتموها من المستشفى هى جثة والد الرفيق كوزيموف، وكان قد مات فى المستشفى وقد استبدلها موظف الثلاجة خطأ!! وتتم عملية مبادلة الجثث سراً ويخرج الجثمان ليوارى بالتراب وسط صيحات المريدين.ويقفل مهدى راجعاً إلى أمريكا.

 • فى نهاية الرواية يقرر أن «المسألة كامنة فى أعمق أعماق الإنسان (...) الحل هو مجابهة الباطل حتى الموت، فهى التى تنصر الحق فيستقر، ويغير حياة الناس إلى الأفضل، سقراط شرب السم فبدأت الفلسفة»

 •  يلجأ عبدالرحمن بن هدوقة فى روايته «الجازية والدراويش» إلى الكرامات فى رواية ناقشت فى ثناياها العديد من الآراء الفلسفية؛ ولذا لم يكن تناول المؤلف للكرامات تناولا بسيطا بل اعتمد عليها فى بنائية الأحداث؛ مضفياً على الأحداث قداسة صوفية بحيث تحولت بعض شخصياته إلى أبطال صوفيين غدت الرواية -تبعاً لذلك- تدويناً فلسفياً لمناقبهم وسيرهم.
يبنى سالم حمِّيش روايته «العلاّمة» عن الحلم والرؤيا عند ابن خلدون ويحاول تفسير كتابات ابن خلدون ورؤاه وتناقضاته مقتطعا مقتطفات من كتابات ابن خلدون محّللا لها وقد أضرت تلك المقتطفات بالبناء الروائى الذى اتكأ كليّة على نصوص ابن خلدون فكاد أن يهوي؛ فابن خلدون يُملى على  كاتبه «حمُّو» «إنى لست من ناكرى كنه الحلم والعجايب بل من مستطيبيه عند مقامه الأنسب الأرضى، ولست من رافضى الحكايات الغريبة اللطيفة، ذات الإيحاءات القديمة  الجديدة بل من مستقبليها بالتهليل والترحاب فى دوائر التخيل والإيهام»
ويضيف حميش على لسان ابن خلدون «وأذكر أنى فى لجة الهول كنت أدعو الله أن يهبنى قدرة على إيقاف الموت الكثير باجراء الخوارق والكرامات، وكان أن تيسّرت لى هذه الموهبة أثناء رؤاى المنامية وأحلامى اليقظة فأعتقت أرواحا، وأزلت آلاما، واخترعت علاجاً، حتى إذا انتبهت وجدت نفسى تهذى وتعود إلى شرخها وعجزها»
أى أن حميش يتخذ من رؤية الكرامات لدى ابن خلدون مدخلا نحو تحقيق أمنيات لا يقدر على تحقيقها يقظة، وفى الرؤيا يورد سالم حميش رؤية لابن خلدون وقد أعّد للسفر نحو الحج من مصر وقد «استيقظ على وقع رؤيا منامية غريبة، رأى نفسه فيها وهو يودع أم البنين (زوج كاتبه حمو الحيحي) وقد صارت زوجته! فيرحل إلى مدينة شرقية قريبة حيث يقابل حفيد جنكيزخان تيمور الأعرج، وما إن دخل عليه الحيحى حتى شرع يحكى له الشق الثانى من الرؤيا دون الأول» ومن عجب أن ما رآه مناما - حسب الرؤية الروائية - قد تحقق فبعد عودته وجد كاتبه الحيحى قد مات؛ وترملت امرأته فتزوجها ابن خلدون، أى أن حميش يسوق الكرامات بديلا عن النبوءة وتمهيدا للأحداث التالية.

وشرع بعد ذلك نحو دمشق حيث كان تيمور يحاصرها فالتقاه وحاوره وكتب عنه، وربما أخفى ابن خلدون شغفه بلقيا تيمور موعزاً للقارئ أن «شيخى إمام المعقولات محمد بن إبراهين الآبلي، رحمة الله عليه قد تنبأ لى برؤية ذلك الكائن الذى سار على نهج أسلافه فى تدويخ بلاد الإسلام هموما وتحريقا، ومخض عبادها بطشا وترهيبا» وقد ورد ذلك فى كتاب التعريف صراحة إذ روى ابن خلدون «وكان شيخى رحمه الله إمام المعقولات محمد بن ابراهيم الآبلى متى فاوضته فى (شأن الثائر تيمور) أو سايلته عنه يقول: أمره قريب، ولا بد لك إن عشت أن تراه»

وربما وظف ابن خلدون تلك الرؤى والكرامات دفعا لاتهامه بلقاء تيمور وقد أهلك الحرث والنسل فى بلاد الإسلام إلا أن ابن خلدون يوهم القارئ أن لقاءه تم حيث كان قضاء لا مفر منه، بيد أننا لو قرأنا ما نقله ابن عربشاه فى كتابه «عجائب المقدور فى أخبار تيمور» عن لقاء ابن خلدون وتيمور الذى استضافهم فى وليمة لعرفنا ما اتخذه ابن خلدون الذى تغلّب عليه هوى التأريخ والتدوين والرحّالة على هوى الدين والناس يقول ابن عربشاه.: «وكان من جملة الآكلين: قاضى القضاة ولى الدين؛ كل ذلك وتيمور يرمقهم وعينه الـخُزْر تسرقهم، وكان ابن خلدون أيضا يصوب نحو تيمور الحدَق، فإذا نظر إليه أطرق، وإذا ولى عنه رمق، ثم نادى وقال بصوت عال «يا مولاى الأمير الحمد لله العلى الكبير، لقد شرَّفتُ بحضورى ملوك الأنام، وأحييت بتواريخى ما ماتت لهم من أيام، ورأيت من ملوك الغرب فلانا وفلانا، وحضرت لدى كذا وكذا سلطانا، وشهدت مشارق الأرض ومغربها. وخالطتُ فى كل بقعة أميرها ونائبها، ولكن لله المنـّة إذ امتد بى زمانى، ومنّ الله على بأن أحيانى حتى رأيتُ من هو الملك على الحقيقة، والـمُلكُ بشريعة السلطنة على الطريقة فإن كان طعام الملوك يؤكل لدفع التلف فطعام مولانا الأمير يؤكل لذلك، ولنيل الفخر والشرف»، فاهتز تيمور عجبا، وكاد يرقص طربا (...)
وتبدو فلسفة الكرامات فى توظيفها السيكلوجى لسبر أغوار نفس ابن خلدون فكما يروى سالم حميش - فى روايته «العلاّمة» يزور مقابر دمشق ويفاجأ برجل «عجوز عار إلا من مئزر، كز الوجه أغبره، أملص الرأس، أشعث اللحية، عديم الأسنان، نأتئ العظام كأنه خرج من قبر فخاطبه قائلا: ترحمت عيهم جميعا إلا علي؛ أنا أويس القرنى اتبعنى يا سيدى أدلك على قبرى».

هنا يلجا سالم حميش الى التبرير لأحداث ستقع إذ أن أويس القرنى «اختفى فى الغار تاركا شاهديه فى حالة حيرة وذهول، واستفحلت حالتهما لما شاهدا الرجل نفسه متربعا على رأس نخلة سامقة بباب المقبرة، وهو يبكى ويصيح: «أرى الجامع نسرا مكسّر الجناح،‍‍‍ أرى قبعة مكفهرة ذاهلة! من يعد لدمشق مآتمها الأخرى»

وهذه الكرامة رؤية يود من خلالها سالم حميش أن يسوقنا إلى مبدأ القدر النازل لا محالة مرة أخرى إذ سرعان ما دخل تيمور الذى أكد لابن خلدون أنه لن يمس دمشق فأشعل فيها النار وأحرق قبة المسجد الأموي، وهذا الجرم ليس لأن تيمور قد أخطأ ونكث بوعده ولكن كما يرى حميش لأن أويس القرنى قد تنبأ فى كرامة صارت مطية لما سيحدث أى أنه قد يُبرئ تيموراً ويبرئ صاحبه ابن خلدون أيضا.  

فى رواية «دنقلة» لإدريس على نقد ضد الكرامات بشكل واضح فالكاتب لا يؤمن بحدث فوق طاقة البشر، بل إن كل شخصيات روايته مسؤولون عما يحدث منهم ولهم، ولا مجال للصدف فعوض شلالى أحد أبطال الرواية يعرف مصيره حين  اتخذ طريقه نحو المقاومة وعندما يعود إلى النوبة يكون كل هّمه وهمّ رفاقه «كيفية تثوير أهل النوبة الذين يعبدون الأولياء بعد الله» ويتذكر عوض شلالى كيف أن أستاذه مليجى قد واجهه أمام  أهل قريته لأنه «علم الأطفال أن الشيخ عبد الرحيم صاحب الكرامات والقباب الخمس فى البر الغريى كان رجلا عاديا لايشفى أو يغيث ولهذا قالوا عنه كافر رغم دينه الإسلامي» ويحاول إدريس على أن يقنعنا على لسان عوض أن الكرامات كذب ولا جدوى منها ويصل إلى ذروة الإنكار عندما يصرح «أيها الإخوة، جئت أعلمكم: الشيخ الشاذلى الذى تسيرون الأيام الطويلة لزيارة مقامه والتبرك به هو مجرد خرافة، فماذا يتوقع سوى لغة السيف عقابا (....) فى كل قرية ومدينة كذبة كبيرة يسمونها الولي»

 • لكن هذه الخطابية الزاعقة قد أضرت البناء الروائى الذى غدا موقفا ضد الكرامات فى مواضع قد فرضت على شخصيات الرواية وأحداثها وربما كان هذا موقف الكاتب الذى ودّ لو يعبر عنه بشكل مباشر إذ أن أحداث روايته الثانية «انفجار جمجمة» تتهكم من الكرامات والمقامات أيضاً؛ فبلال أحد بطلى الرواية يُقتل على الحدود المصرية الليبية وتُترك جثته فوق أسلاك الحدود وكل طرف يعلن عدم وقوع الجثة فى دائرة حدوده، «وأنت مبدد هنا، معرض للفناء، ومعلق بين مدينتين، مبروكة تخلد جسدك، فينسجون حولك الأساطير، وقد يقيمون لك ضريحا ويطلقون عليه مقام سيدى بلال أو الشيخ مسخوط أو مولانا سيدى أبو صارى (....) وستتوافد على مقامك العاقرات من نساء العرب من شتى المدن للتبرك بمقامك ووضع النذور فى صندوقك، وحتما ستقع مشاكل معقدة عند توزيع حصيلة الصندوق بين أهل الصحراء الذين خلدوك، وأهل المدينة الذين طاردوك».

 • وقد يلجأ بعض الأدباء ممن بنوا رواياتهم على الكرامات إلى محاولة تبرير بنيتهم هذه كما فعل الهامى عمارة فى روايته «الساكن والمسكون» حيث كتب»عزيزى القارئ :ظاهرة الدرويش أو المبروك من الظواهر المألوفة فى حياتنا ومن حولنا؛ وقد تجنب الناس الاقتراب من معظم الظواهر والأفعال الخارقة التى تنسب اليهم، فهو تيه محفوف بالمخاطر.
 • هذه الرواية هى سرد أمين لوقائع جرت بالفعل وقد كتبت كما حدثت ودون محاولة منى لتفسير ما حدث»
 • وهو بهذا يبرر ما حدث فى الرواية من أحداث موهما القارئ أنه لم يك إلا ناقلا لما حدث.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة