وداع‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭
وداع‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭


‬سعيد‭ ‬المصرى يكتب فى‭ ‬وداع‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭ ‬: ‭ ‬ رمز‭ ‬العطاء والنزاهة‭ ‬والاستغناء

أخبار الأدب

السبت، 23 أكتوبر 2021 - 03:59 م

د. سعيد المصرى

ما كنت أتصور يوما أن أكتب فى رثاء العظيم فوزى فهمي، فهذا رجل شامخ بحكمته فى وجودنا ولا مجال لأن يرحل عنا وإلا هوت أعمدة اليقين فوق رؤوسنا. ولا حيلة لنا أمام مباغتة الموت حين يختطف منا أعز ما لدينا من قامات نزهو بها ونفتخر. وأحسب أن هؤلاء العظماء يصنعون فى حياتهم، بعقولهم وضمائرهم الحية، ما يخلد أسمائهم عبر الزمن. قلبى يعتصر ألما على فقد الاستاذ الدكتور فوزى فهمى الذى رحل عنا تاركا وراءه  إنجازات عظيمة ومواقف إنسانية نبيلة وقيم نتعلم منها معنى العطاء والتجرد والنزاهة.

كان فوزى فهمى نموذجا للمثقف الذى نذر حياته من أجل أن تبقى العلاقة بين المثقف والدولة متوازنة بما يمنح المثقفين دورا كبيرا فى إثراء العمل الثقافى والفنى والابداعى بحرية، وأن يظل تأثيرهم الإبداعى كبير فى تحقيق الرقى الإنسانى دون قيود، وأن تظل الدولة داعمة للإبداع الفنى والادبى والعلمى ورعاية الموهوبين من الأطفال والنشء والشباب بلا حدود.لم يتخذ فوزى فهمى لنفسه فى إدارة العمل الثقافى الطريق الاسهل فى أن يصبح مجرد موظف عام يُسير الأعمال على نحو ما تقوده الرياح، ولا ان يكون بيروقراطيا عقيما يبرئ ذمته بالتنفيذ الحرفى للوائح والقوانين والإجراءات بحيث يكبل روح العمل الثقافى ويفقده حيويته، بل كان مثقفا وصاحب رؤية أهلته لأن يكون رجل دولة متميز فى مجال العمل الثقافى.

لقد صنع فوزى فهمى المعجزة فى فض الاشتباك بين الدولة والمثقفين بعيدا عن الوقوع فى مستنقع الشعبوية، ودون أن يتحول العمل الثقافى إلى ساحة احتراب أو صراع مع الدولة، خاصة حين يصبح منفذا للعمل السياسى المباشر فى ظل انغلاق المجال العام والمجال السياسي. وتجلى ذلك فى كثير من الإنجازات البارزة والتى سوف يذكرها التاريخ فى مجالات تعليم الفنون بأكاديمية الفنون، واكتشاف ورعاية الموهوبين والنابغين وتنمية ثقافة الطفل، وفى مجال تعزيز الوصول بالثقافة الجماهيرية إلى كل الفئات فى كل مكان.

كان فوزى فهمى بحكم قربه من السلطة ودوائر صنع القرار رجلا من الطراز الفريد يجيد فن إدارة العلاقة بين الدولة والثقافة بحكمة بالغة، كان مدركا لأهمية حرية الابداع ومدافعا صلبا عن العمل الثقافى لكى يبقى حرا وقادرا على القيام بدوره فى تحقيق التنمية الثقافية.وكان أيضا قادرا على إدارة الصراعات بين المثقفين من مختلف الأطياف برشاقة بالغة والاستفادة بتنوعهم فى إثراء العمل الثقافى والفني.

وكل من يقترب من حياة فوزى فهمى وشخصيته يدرك أنه رجل مختلف ولديه سمات وقدرات أهلته لأن يكون قادرا على كسب احترام الجميع: الدولة، وجماعة المثقفين، والعاملين فى الشأن الثقافي، بما فى ذلك الذين اختلفوا معه.كان نموذجا للإنسان المترفع عن الصغائر والمكاسب التى يلهث ورائها كثير من الناس،ولديه اعتزاز بالنفس وشعور بالتحقق والاستغناء قل أن يتكرر. لقد ظل فوزى فهمى طيلة حياته مخلصا فى عطائه للعمل الثقافى بلا مقابل، وزاهدا فى المناصب والأموال والجوائز وصغائر الأشياء التى يتهافت عليها كثير من المثقفين الذين يصبحون عبئا على وزارة الثقافة وإعاقة عدالة دورها فى الوصول بالثقافة والفنون لجميع الفئات بلا استثناء.

ولن ينسى المجلس الأعلى للثقافة فى عهد الوزير الأسبق فاروق حسني، يوم أن رُشح فوزى فهمى لنيل أرفع جائزة للدولة واعتذر ورفض قبول الجائزة وقدم درسا مهما فى النزاهة مبررا ذلك بقوله: « أن عضويته بالمجلس تتعارض أخلاقيا مع حصوله على أى جائزة يمنحها المجلس». وللأسف لم يلتفت أحد، فى ذلك الحين لهذا الموقف النبيل والنزيه واستغلاله الأمثل فى المضى قدما نحو المزيد من تعزيز مصداقية المجلس الأعلى للثقافة. وكل ما حدث فقط هو الدهشة البالغة التى أصابت الجميع وبدأ الكل يتساءل: كيف لرجل لا يملك إلا معاشه الصغير ولم يحصل على جوائز طيلة حياته أن يتنازل بسهولة عن جائزة فنية رفيعة ومعها مبلغ مالى كبير وميدالية ذهبية تغرى لعاب الكثيرين. لقد تشكك البعض فى مدى مصداقية هذا الموقف وظنوا أن ما فعله فوزى فهمى مجرد حركة تمثيلية من رجل يسعى إلى الشهرة وسوف يعقبها التهام مزيد من المكاسب، وخاب ظن هؤلاء لأن الرجل ظل على موقفه متعففا، ويومها قال قولته المشهورة« لست غنيا وإنما مستغنيا»  وهكذا عاش فوزى فهمى يعمل فى صمت لخدمة العمل الثقافى دون أن يحصل على أى مكاسب أو جوائز لكى يبقى خالدا بموقفه الاستثنائي. ويبدو أن لهذا الرجل النبيل نصيب من اسمه بحيث يظل فوزه بكرامته وخُلقه ونُبله أعلى وأقيم من أى جائزة.

وقد أهله ذلك لأن يبقى عملاقا بمبادئه مدافعا عن الحق بكل قوة غير عابئ بأى مصالح أو مكاسب أو لومة لائم، وأن يضع نفسه منذ أن بلغ سن التقاعد فى خدمة العمل الثقافى بلا حدود وبلا أى مقابل. وأشهد أنه كان لى عونا وسندا بكل صدق وأمانه فى كثير من المواقف حين كنت أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة. 

رحم الله استاذنا العالم الجليل والإنسان العظيم والملهم فوزى فهمى واسأل الله أن يلهمنا جميعا الصبر على فقد هذا النموذج الفريد فى الانسانية والرقي.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة