فوزي فهمي
فوزي فهمي


‬حاتم‭ ‬حافظ يكتب : فوزي فهمي .. المثقف العضوى

أخبار الأدب

السبت، 23 أكتوبر 2021 - 04:08 م

د‭. ‬حاتم‭ ‬حافظ

 

ليس‭ ‬بوسع‭ ‬أى‭ ‬من‭ ‬تلاميذ‭ ‬دكتور‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭ ‬الكتابة‭ ‬عنه‭ ‬باجتناب‭ ‬الشخصي،‭ ‬ليس‭ ‬فحسب‭ ‬لأن‭ ‬علاقته‭ ‬كأستاذ‭ ‬بتلاميذه‭ ‬تجاوزت‭ ‬حدود‭ ‬قاعات‭ ‬الدرس‭ ‬ولكن‭ ‬أيضا‭ ‬–‭ ‬وربما‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬العامل‭ ‬الحاسم‭ ‬–‭ ‬لأنه‭ ‬كأستاذ‭ ‬–‭ ‬حتى‭ ‬داخل‭ ‬قاعات‭ ‬الدرس‭ ‬–‭ ‬اشتغل‭ ‬بوجدان‭ ‬ووعى‭ ‬تلاميذه‭ ‬وأسس‭ ‬لهما،‭ ‬بل‭ ‬واعتبرهما‭ ‬المهمة‭ ‬الموكلة‭ ‬إليه‭ ‬كأستاذ،‭ ‬أو‭ ‬كخوجة‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يحب‭ ‬أن‭ ‬يصف‭ ‬نفسه‭ ‬وكما‭ ‬كان‭ ‬يحب‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نصفه‭.‬

فى‭ ‬كل‭ ‬الأكاديميات‭ ‬ثمة‭ ‬أساتذة‭ ‬أسطوات‭ ‬فى‭ ‬تخصصاتهم،‭ ‬يعرفون‭ ‬كل‭ ‬اللازم‭ - ‬بل‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬اللازم‭ ‬أحيانا‭ - ‬فى‭ ‬إطار‭ ‬العلوم‭ ‬التى‭ ‬يعملون‭ ‬بها،‭ ‬لكنهم‭ ‬يظلون‭ ‬مجرد‭ ‬أسطوات‭ ‬ناقلين‭ ‬لمعرفة،‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬حجم‭ ‬المعرفة‭ ‬التى‭ ‬ينقلونها‭ ‬لتلاميذهم‭. ‬وثمة‭ ‬أساتذة‭ ‬–‭ ‬بخلاف‭ ‬إلمامهم‭ ‬الكبير‭ ‬بموضوع‭ ‬علمهم‭ ‬–‭ ‬يعون‭ ‬أن‭ ‬عمل‭ ‬الأكاديمية‭ ‬ليس‭ ‬فى‭ ‬نقل‭ ‬المعرفة‭ ‬والعلوم‭ ‬ولكن‭ ‬فى‭ ‬تأسيس‭ ‬طرق‭ ‬التفكير‭ ‬وفى‭ ‬تجذير‭ ‬الوعى‭ ‬النقدى‭ ‬وفى‭ ‬إلهام‭ ‬وجدان‭ ‬الطلاب‭. ‬الخوجة‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭ ‬كان‭ ‬الاستثناء‭ ‬الذى‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬النمطين‭ ‬من‭ ‬الأساتذة‭.‬

يحتفظ‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬بذكرى‭ ‬استنارة،‭ ‬بلحظة‭ ‬ملهمة‭ ‬كاشفة‭ ‬تشبه‭ ‬لحظة‭ ‬تلقى‭ ‬الوحي‭. ‬موضوع‭ ‬الذكرى‭ ‬ليس‭ ‬بالأهمية‭ ‬بمكان،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬لحظة‭ ‬الاستنارة‭ ‬تلك‭ ‬تنفك‭ ‬صلتها‭ ‬بموضوعها‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬لأنها‭ ‬فى‭ ‬ذاتها‭ ‬هى‭ ‬جوهر‭ ‬المعرفة‭ ‬والوعى‭ ‬معا‭. ‬الأمر‭ ‬أشبه‭ ‬بلحظة‭ ‬اكتشاف‭ ‬آدم‭ ‬وحواء‭ ‬لعريهما،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لخصوصيتهما،‭ ‬ولخصوصية‭ ‬علاقتهما‭ ‬بالعالم،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬مُهمّا‭ ‬أبدا‭ ‬ارتباط‭ ‬ذلك‭ ‬الاكتشاف‭ ‬بالخطيئة‭ ‬أو‭ ‬بسواها،‭ ‬بالتهام‭ ‬تفاحة‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شجرة‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬بالتهام‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭. ‬هى‭ ‬لحظة‭ ‬اكتشاف‭ ‬بريئة‭ ‬وبديعة‭ ‬براءة‭ ‬وإبداع‭ ‬يلغيان‭ ‬ما‭ ‬سواهما‭. ‬فى‭ ‬كل‭ ‬محاضرة‭ ‬تقريبا‭ ‬كان‭ ‬يلح‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬–‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬–‭ ‬لديه‭ ‬وجود‭ ‬فعلى‭ ‬ووجود‭ ‬واع‭ ‬ووجود‭ ‬نشط‭. ‬ويلح‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬المثقف‭ ‬–‭ ‬وهى‭ ‬صفة‭ ‬جديرة‭ ‬بكل‭ ‬شخص‭ ‬أن‭ ‬يتصف‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬من‭ ‬الأنحاء‭ ‬–‭ ‬هو‭ ‬الشخص‭ ‬الذى‭ ‬بمقدوره‭ ‬تجاوز‭ ‬وجوده‭ ‬الفعلى‭ ‬الذى‭ ‬يتشاركه‭ ‬مع‭ ‬باقى‭ ‬جنسه‭ ‬–‭ ‬وهو‭ ‬وجود‭ ‬جسدى‭ ‬وحسى‭ ‬بالأساس‭ - ‬باتجاه‭ ‬وجوده‭ ‬الواعى‭ ‬الذى‭ ‬يتطلب‭ ‬إلمامه‭ ‬بالمعرفة‭ ‬فى‭ ‬حدودها‭ ‬القصوى‭ ‬–‭ ‬وهو‭ ‬أيضا‭ ‬وجود‭ ‬يتشارك‭ ‬فيه‭ ‬مع‭ ‬أقرانه‭ ‬بالوجدان‭ ‬والعقل‭ - ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينتقل‭ ‬–‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الأهم‭ ‬–‭ ‬إلى‭ ‬الوجود‭ ‬النشط‭ ‬الذى‭ ‬يجعله‭ ‬عضوا‭ ‬ناشطا‭ ‬فى‭ ‬مجتمعه‭.‬

كان‭ ‬يمكن‭ ‬لهذا‭ ‬الإلحاح‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مجرد‭ ‬تزيد‭ ‬لولا‭ ‬أنه‭ ‬كمثقف‭ ‬عضوى‭ ‬دلل‭ ‬بوجوده‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يلح‭ ‬عليه‭ ‬يقع‭ ‬ضمن‭ ‬الممكن‭ ‬واللازم‭ ‬والضرورى‭ ‬أيضا‭. ‬كان‭ ‬أستاذا‭ ‬فى‭ ‬قاعات‭ ‬الدرس‭ ‬لكنه‭ ‬أيضا‭ ‬كان‭ ‬رئيسا‭ ‬لأكاديمية‭ ‬الفنون،‭ ‬وعضوا‭ ‬فى‭ ‬مجلس‭ ‬الشورى،‭ ‬وعضوا‭ ‬فى‭ ‬عدة‭ ‬لجان‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها،‭ ‬ومسئولا‭ ‬فى‭ ‬فترات‭ ‬عن‭ ‬مكتبة‭ ‬الأسرة‭. ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يغب‭ ‬فى‭ ‬أى‭ ‬يوم‭ ‬عن‭ ‬محاضرته‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬الجميع‭ ‬يعرف‭ ‬موعدها‭ ‬بدقة‭ ‬فإنه‭ ‬أيضا‭ ‬لم‭ ‬يتكاسل‭ ‬عن‭ ‬عمله‭ ‬خارج‭ ‬قاعات‭ ‬الدرس،‭ ‬وفى‭ ‬كل‭ ‬فضاء‭ ‬كان‭ ‬يتحرك‭ ‬فيه‭ ‬كان‭ ‬يمارس‭ ‬دوره‭ ‬كمثقف‭ ‬عضوي،‭ ‬سواء‭ ‬كإدارى‭ ‬فذ‭ ‬أو‭ ‬ككاتب‭ ‬للمقال‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬أو‭ ‬كناشط‭ ‬فى‭ ‬الثقافة‭ ‬المصرية‭.‬

الذين‭ ‬يعرفون‭ ‬أكاديمية‭ ‬الفنون‭ ‬يعرفون‭ ‬أن‭ ‬الأكاديمية‭ ‬افتقرت‭ ‬لسنوات‭ ‬إلى‭ ‬التنظيم‭ ‬الكافى‭ ‬الذى‭ ‬يجعل‭ ‬منها‭ ‬مؤسسة‭ ‬جديرة‭ ‬بهذا‭ ‬اللقب،‭ ‬وبداية‭ ‬من‭ ‬معهد‭ ‬الفنون‭ ‬المسرحية‭ ‬الذى‭ ‬شغل‭ ‬منصب‭ ‬العميد‭ ‬فيه‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬إعداد‭ ‬لائحة‭ ‬دراسية‭ ‬مكتملة‭ ‬لإعداد‭ ‬طالب‭ ‬الفن‭ ‬ليس‭ ‬فحسب‭ ‬ليكون‭ ‬عارفا‭ ‬بمجال‭ ‬تخصصه‭ ‬ولكن‭ ‬أيضا‭ ‬ليكون‭ ‬منفتحا‭ ‬على‭ ‬الفنون‭ ‬الأخرى‭ ‬التى‭ ‬تؤهله‭ ‬ليكون‭ ‬مثقفا‭ ‬بالمعنى‭ ‬الحقيقى‭ ‬للكلمة‭. ‬طالب‭ ‬الفنون‭ ‬المسرحية‭ ‬صار‭ ‬بفضل‭ ‬هذه‭ ‬اللائحة‭ ‬يدرس‭ ‬كافة‭ ‬الفنون‭ ‬سواء‭ ‬التى‭ ‬تتصل‭ ‬بتخصصه‭ ‬اتصالا‭ ‬مباشرا‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التى‭ ‬تبنى‭ ‬وعيه‭ ‬كفنان‭ ‬مثقف‭. ‬ولتحقيق‭ ‬هذه‭ ‬الغاية‭ ‬استقدم‭ ‬خبراء‭ ‬ممتازين‭ ‬عدة‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مجال‭. ‬كطالب‭ ‬مثلا‭ ‬شرفت‭ ‬بأن‭ ‬أتتلمذ‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الفنان‭ ‬التشكيلى‭ ‬الكبير‭ ‬جمال‭ ‬قطب‭ ‬والموسيقار‭ ‬سليم‭ ‬سحاب‭ ‬ا‭ ‬استقدمهما‭ ‬لتدريس‭ ‬مقررات‭ ‬‮«‬التذوق‮»‬‭ ‬الفني،‭ ‬ولعل‭ ‬اسم‭ ‬المقرر‭ ‬بذاته‭ ‬–‭ ‬وهو‭ ‬الذى‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬الاسم‭ - ‬كاشف‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الوعى‭ ‬الذى‭ ‬تأسست‭ ‬اللائحة‭ ‬به،‭ ‬فليس‭ ‬المهم‭ ‬الإلمام‭ ‬بالموسيقى‭ ‬ولا‭ ‬بالفن‭ ‬التشكيلى‭ ‬ولكن‭ ‬الأهم‭ ‬تذوقهما‭.‬

وكإدارى‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬مشاهدته‭ ‬وهو‭ ‬يناقش‭ ‬البستانى‭ ‬فى‭ ‬أنواع‭ ‬النباتات‭ ‬التى‭ ‬يقوم‭ ‬بزراعتها‭ ‬فى‭ ‬فناء‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬وفى‭ ‬مناقشة‭ ‬عمداء‭ ‬المعاهد‭ ‬فى‭ ‬احتياجات‭ ‬معاهدهم،‭ ‬وفى‭ ‬متابعة‭ ‬انتظام‭ ‬الدراسة‭. ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬أبدا‭ ‬يوم‭ ‬أطلعنى‭ ‬–‭ ‬بسعادة‭ ‬كبيرة‭ - ‬على‭ ‬الرسالة‭ ‬المرسلة‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬المعاهد‭ ‬الفنية‭ ‬فى‭ ‬أسبانيا‭ ‬التى‭ ‬تستأذن‭ ‬استلهام‭ ‬لائحة‭ ‬الأكاديمية‭ ‬المصرية‭ ‬فى‭ ‬تأسيس‭ ‬لائحتها‭ ‬الجديدة‭!‬

هذه‭ ‬الفرادة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أبدا‭ ‬إلا‭ ‬ملمحا‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬التأسيس‭ ‬الذى‭ ‬خضع‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬أستاذه‭ ‬الناقد‭ ‬الكبير‭ ‬محمد‭ ‬مندور‭ ‬الذى‭ ‬ظل‭ ‬سنوات‭ ‬عمره‭ ‬كلها‭ ‬يدين‭ ‬له‭ ‬بالفضل‭ ‬فى‭ ‬تشكيل‭ ‬وعيه،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الخلاف‭ ‬الكبير‭ ‬الذى‭ ‬ميز‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬–‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬يسارية‭ ‬مندور‭ ‬وليبرالية‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭ ‬–‭ ‬فإنه‭ ‬حرص‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬لحظات‭ ‬حياته‭ ‬على‭ ‬الإعراب‭ ‬عن‭ ‬التقدير‭ ‬والامتنان‭ ‬البالغ‭ ‬لأستاذه‭. ‬وفى‭ ‬ظنى‭ ‬أن‭ ‬الدور‭ ‬الذى‭ ‬لعبه‭ ‬مندور‭ ‬فى‭ ‬تأسيس‭ ‬وعى‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬الدور‭ ‬الذى‭ ‬لعبه‭ ‬الأخير‭ ‬مع‭ ‬كافة‭ ‬تلاميذه،‭ ‬والذى‭ ‬–‭ ‬بدوره‭ ‬–‭ ‬أوصانا‭ ‬بأن‭ ‬نلعبه‭. ‬من‭ ‬اللافت‭ ‬جدا‭ ‬أنه‭ ‬مثلا‭ ‬كان‭ ‬يقدم‭ ‬تلاميذه‭ ‬باعتبارهم‭ ‬أصدقاء،‭ ‬وهى‭ ‬العلاقة‭ ‬التى‭ ‬جمعته‭ ‬بأستاذه‭ ‬طوال‭ ‬سنوات‭ ‬تلمذته‭ ‬على‭ ‬يديه‭. ‬كان‭ ‬مندور‭ ‬أستاذه‭ ‬وصديقه‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭ ‬صديقا‭ ‬لكل‭ ‬تلاميذه‭. ‬صداقة‭ ‬تجاوزت‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬الأوقات‭ ‬جغرافيا‭ ‬الأكاديمية‭ ‬لتصل‭ ‬لأقصى‭ ‬تخوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬لدى‭ ‬تلاميذه‭. ‬بالنسبة‭ ‬لى‭ ‬لم‭ ‬يتدخل‭ ‬دكتور‭ ‬فوزى‭ ‬فى‭ ‬تعيينى‭ ‬بالأكاديمية‭ ‬فقط‭ ‬لكنه‭ ‬أيضا‭ ‬أرسلنى‭ ‬لطبيبه‭ ‬الخاص‭ ‬حين‭ ‬مرضت‭ ‬وقام‭ ‬بالاتصال‭ ‬بالأستاذ‭ ‬خيرى‭ ‬شلبى‭ ‬بنفسه‭ ‬حين‭ ‬علم‭ ‬بأنى‭ ‬أستعد‭ ‬للتقدم‭ ‬لطلب‭ ‬يد‭ ‬ابنته،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬عرض‭ ‬الحضور‭ ‬معى‭ ‬لطلب‭ ‬يدها‭ ‬كأب‭! ‬وبعد‭ ‬حصولى‭ ‬وزملاء‭ ‬آخرين‭ ‬على‭ ‬الدكتوراه‭ ‬أصر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يمنح‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬مقررا‭ ‬من‭ ‬مقرراته‭ ‬لتدريسها‭ ‬مدللا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الأستاذية‭ ‬الحقيقية‭ ‬فى‭ ‬تمكن‭ ‬الأستاذ‭ ‬من‭ ‬إعداد‭ ‬أساتذة‭.‬

تتصل‭ ‬النقطة‭ ‬الأخيرة‭ ‬بجانب‭ ‬مهم‭ ‬من‭ ‬شخصيته‭. ‬فقد‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬كتاب‭ ‬المسرح‭ ‬الواعدين‭ ‬جدا،‭ ‬ومن‭ ‬الظلم‭ ‬الفنى‭ ‬التسامح‭ ‬مع‭ ‬التسمية‭ ‬التى‭ ‬أطلقها‭ ‬البعض‭ ‬عليه‭ ‬وعلى‭ ‬آخرين‭ ‬ممن‭ ‬كتبوا‭ ‬للمسرح‭ ‬من‭ ‬أساتذة‭ ‬الأدب‭: ‬مسرح‭ ‬الدكاترة،‭ ‬لأن‭ ‬المسرحيات‭ ‬الثلاث‭ ‬التى‭ ‬كتبها‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭ ‬تمايزت‭ ‬عن‭ ‬كتابات‭ ‬أقرانه‭ ‬بإمكاناتها‭ ‬الدرامية‭ ‬المتفردة‭ ‬ولغتها‭ ‬الشاعرية‭ ‬البديعة،‭ ‬ولعل‭ ‬مسرحية‭ ‬عودة‭ ‬الغائب‭ ‬بالذات‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭. ‬كتب‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭ ‬عودة‭ ‬الغائب‭ ‬مستلهما‭ ‬مسرحية‭ ‬أوديب‭ ‬الملك‭ ‬لسفوكليس،‭ ‬وبسبب‭ ‬جرأتها‭ ‬أعرب‭ ‬الرائد‭ ‬العظيم‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬عن‭ ‬حسده‭ ‬لفوزى‭ ‬فهمي،‭ ‬فالحكيم‭ ‬–‭ ‬بحسب‭ ‬كلامه‭ ‬–‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لديه‭ ‬الشجاعة‭ ‬الكافية‭ ‬للتركيز‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬أوديب‭ ‬بأمه،‭ ‬وسلك‭ ‬فى‭ ‬مسرحيته‭ ‬مسلك‭ ‬سفوكليس‭ ‬فى‭ ‬التلميح‭ ‬لهذه‭ ‬العلاقة‭ ‬دون‭ ‬التصريح‭ ‬بها،‭ ‬أما‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭ ‬فقد‭ ‬تمادى‭ ‬بشجاعة‭ ‬شاب‭ ‬مثقف‭ ‬فكتب‭ ‬مشاهد‭ ‬حب‭ ‬بين‭ ‬أوديب‭ ‬وأمه،‭ ‬وباقتدار‭ ‬بالغ‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬مزج‭ ‬الحب‭ ‬الرومانسى‭ ‬بين‭ ‬الزوج‭ ‬والزوجة‭ ‬وبين‭ ‬الأمومة‭ ‬الساكنة‭ ‬فى‭ ‬عمق‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬جوكاستا‭ ‬وأوديب‭.‬

بعد‭ ‬ثلاث‭ ‬مسرحيات‭ ‬توقف‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭ ‬عن‭ ‬كتابة‭ ‬المسرح‭ ‬–‭ ‬رغم‭ ‬نجاح‭ ‬أعماله‭ ‬مسرحيا‭ ‬–‭ ‬لانشغاله‭ ‬بعمله‭ ‬كأستاذ‭ ‬–‭ ‬أو‭ ‬كخوجة‭ ‬–فاستبعد‭ ‬مشروعات‭ ‬مسرحية‭ ‬كثيرة‭ ‬كان‭ ‬يستعد‭ ‬لكتابتها،‭ ‬ورغم‭ ‬إلحاح‭ ‬هذه‭ ‬المشروعات‭ ‬عليه‭ ‬فى‭ ‬فترات‭ ‬مختلفة‭ ‬فإنه‭ ‬وجد‭ ‬عزاءه‭ ‬دائماً‭ ‬فى‭ ‬عدد‭ ‬الكتاب‭ ‬المسرحيين‭ ‬الذين‭ ‬ساهم‭ ‬فى‭ ‬تشكيل‭ ‬وعيهم‭ ‬وفى‭ ‬دفعهم‭ ‬للحياة‭ ‬المسرحية‭ ‬مثل‭ ‬الكاتب‭ ‬الكبير‭ ‬لينين‭ ‬الرملى‭ ‬مثلا‭ ‬رغم‭ ‬أنهما‭ ‬كانا‭ ‬بمثابة‭ ‬زميلين‭ ‬نظرا‭ ‬للتقارب‭ ‬العمرى‭ ‬بين‭ ‬الاثنين‭ (‬ثمانى‭ ‬سنوات‭ ‬تقريبا‭). ‬ووجد‭ ‬عزاءه‭ ‬فى‭ ‬مد‭ ‬المكتبة‭ ‬العربية‭ ‬بعدد‭ ‬كبير‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬الحديثة‭ ‬المترجمة‭ ‬التى‭ ‬صاحبت‭ ‬مهرجان‭ ‬المسرح‭ ‬التجريبى‭ ‬الذى‭ ‬ظل‭ ‬رئيسه‭ ‬طوال‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬وهى‭ ‬الكتب‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬يختارها‭ ‬بنفسه‭ ‬وبسببها‭ ‬ظل‭ ‬متابعا‭ ‬لكافة‭ ‬إصدارات‭ ‬العالم‭. ‬ووجد‭ ‬عزاءه‭ ‬فى‭ ‬تلاميذه‭ ‬الذين‭ ‬سعد‭ ‬بهم‭ ‬وسعدوا‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمسين‭ ‬عاما‭ ‬تقريبا‭.‬

ورغم‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الجهد‭ ‬حرص‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬على‭ ‬التعفف‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬محاولات‭ ‬زملائه‭ ‬وتلاميذه‭ ‬لتكريمه‭ ‬أو‭ ‬لترشيحه‭ ‬لأية‭ ‬جائزة،‭ ‬وكان‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬يفسر‭ ‬هذا‭ ‬التعفف‭ ‬بأنه‭ ‬حصل‭ ‬بالفعل‭ ‬على‭ ‬التكريم‭ ‬الأعظم‭ ‬–‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ ‬–‭ ‬حين‭ ‬كتب‭ ‬عنه‭ ‬أستاذه‭ ‬محمد‭ ‬مندور‭ ‬مقالا‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬يصحح‭ ‬المفاهيم‮»‬‭. ‬ومناسبة‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬أن‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭ ‬تحدى‭ ‬أستاذه‭ ‬فى‭ ‬لحظة‭ ‬تمرد‭ ‬وتجاهل‭ ‬اقتراحه‭ ‬بموضوع‭ ‬بحثه‭ ‬للتخرج‭ ‬وعكف‭ ‬طوال‭ ‬العام‭ ‬على‭ ‬إعداد‭ ‬بحثه‭ ‬المتميز‭ ‬جدا‭ ‬‮«‬موت‭ ‬البطل‭ ‬التراجيدي‮»‬‭ ‬والذى‭ ‬فاجأ‭ ‬به‭ ‬مندور‭ ‬نهاية‭ ‬العام،‭ ‬ورغم‭ ‬غضب‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التمرد‭ ‬فإنه‭ ‬كتب‭ ‬عنه‭ ‬مقالا‭ ‬يشيد‭ ‬فيه‭ ‬بدراسته‭ ‬عن‭ ‬البطل‭ ‬التراجيدى‭ ‬ويعترف‭ ‬فيه‭ ‬بأنه‭ ‬صحح‭ ‬المفاهيم‭ ‬الراسخة‭.‬

وربما‭ ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬ظل‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭ ‬طوال‭ ‬سنوات‭ ‬أستاذيته‭ ‬الأكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬تجاوز‭ ‬لحظات‭ ‬تمرد‭ ‬تلاميذه،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬نظرة‭ ‬السعادة‭ ‬لكل‭ ‬تلميذ‭ ‬يبدى‭ ‬تمردا‭. ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬لأى‭ ‬منا‭ ‬الاختلاف‭ ‬معه‭ ‬فى‭ ‬الرأي،‭ ‬ومهما‭ ‬كان‭ ‬الرأى‭ ‬الذى‭ ‬نعبر‭ ‬عنه‭ ‬طائشا‭ ‬أو‭ ‬متطرفا‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬جاهلا‭ ‬كان‭ ‬يحترمه‭ ‬ويناقشه،‭ ‬يختصمه‭ ‬أو‭ ‬يعترف‭ ‬بجدارته،‭ ‬لكنه‭ ‬أبدا‭ ‬لم‭ ‬يحقر‭ ‬من‭ ‬أى‭ ‬رأى‭ ‬مهما‭ ‬تطرف‭ ‬فى‭ ‬جهله‭.‬

أتذكر‭ ‬–‭ ‬وليسمح‭ ‬لى‭ ‬القاريء‭ ‬بأن‭ ‬أميل‭ ‬للشخصى‭ ‬–‭ ‬أنى‭ ‬بعد‭ ‬عملى‭ ‬معه‭ ‬كمعيد‭ ‬لمدة‭ ‬عام‭ ‬أنى‭ ‬قررت‭ ‬ألا‭ ‬أعمل‭ ‬معه‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭. ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬اكتشفت‭ ‬أنى‭ ‬–‭ ‬بسبب‭ ‬الكاريزما‭ ‬الفائقة‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬يتمتع‭ ‬بها‭ ‬–‭ ‬صرت‭ ‬أقلده‭ ‬بل‭ ‬وضبطت‭ ‬نفسى‭ ‬أضحك‭ ‬ضحكته‭ ‬فقررت‭ ‬ألا‭ ‬أعيش‭ ‬فى‭ ‬جلباب‭ ‬أبي‭! ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬انزعج‭ ‬من‭ ‬تهربى‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬معه‭ ‬فأبدا‭ ‬لم‭ ‬يسألنى‭ ‬عن‭ ‬السبب‭ ‬احتراما‭ ‬لإرادتى‭ ‬ورغبة‭ ‬فى‭ ‬عدم‭ ‬إلزامى‭ ‬بشيء،‭ ‬وبعدها‭ ‬بسنوات‭ ‬صارحته‭ ‬بالسبب‭. ‬كان‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬الاقتراب‭ ‬منه‭ ‬دون‭ ‬الوقوع‭ ‬فى‭ ‬فخ‭ ‬هذه‭ ‬الكاريزما‭ ‬الاسثنائية‭.‬

وأتذكر‭ ‬أنى‭ ‬طوال‭ ‬سنوات‭ ‬قربى‭ ‬منه‭ ‬حاولت‭ ‬مرارا‭ ‬إقناعه‭ ‬بتسجيل‭ ‬ذكرياته‭ ‬ورفض‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬رغم‭ ‬إلحاحي،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عرف‭ ‬رغبة‭ ‬الصديق‭ ‬سيد‭ ‬محمود‭ ‬–‭ ‬وكان‭ ‬وقتها‭ ‬رئيسا‭ ‬لتحرير‭ ‬جريدة‭ ‬القاهرة‭ ‬–‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬أجرى‭ ‬معه‭ ‬حوارا‭ ‬عن‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعترف‭ ‬بأن‭ ‬لديه‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬الإفصاح‭ ‬عنه،‭ ‬خصوصا‭  ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬عازفا‭ ‬عن‭ ‬الإعلام‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬جدا‭.‬

عاش‭ ‬فوزى‭ ‬فهمى‭ ‬عازفا‭ ‬عن‭ ‬الإعلام‭ ‬زاهدا‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬تكريم‭ ‬–‭ ‬مستحقاً‭ ‬–‭ ‬وأفنى‭ ‬حياته‭ ‬لكل‭ ‬قناعة‭ ‬ولكل‭ ‬عقيدة‭ ‬آمن‭ ‬بها،‭ ‬وكانت‭ ‬حياته‭ ‬أفكاره‭ ‬وأفكاره‭ ‬حياته،‭ ‬آمن‭ ‬بأن‭ ‬المثقف‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ناشطا‭ ‬فى‭ ‬مجتمعه‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬استنارته‭ ‬وتشكيل‭ ‬وعيه‭ ‬ووجدانه،‭ ‬فكان‭ ‬مثال‭ ‬المثقف‭ ‬الذى‭ ‬آمن‭ ‬به،‭ ‬ولم‭ ‬يدخر‭ ‬طاقة‭ ‬فى‭ ‬سبيل‭ ‬ذلك،‭ ‬فى‭ ‬قاعات‭ ‬الدرس،‭ ‬وخارجها،‭ ‬وفى‭ ‬كل‭ ‬فضاء‭ ‬استدعاه‭ ‬للعمل‭.‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة