فوزي فهمي
حاتم حافظ يكتب : فوزي فهمي .. المثقف العضوى
السبت، 23 أكتوبر 2021 - 04:08 م
د. حاتم حافظ
ليس بوسع أى من تلاميذ دكتور فوزى فهمى الكتابة عنه باجتناب الشخصي، ليس فحسب لأن علاقته كأستاذ بتلاميذه تجاوزت حدود قاعات الدرس ولكن أيضا – وربما ذلك كان العامل الحاسم – لأنه كأستاذ – حتى داخل قاعات الدرس – اشتغل بوجدان ووعى تلاميذه وأسس لهما، بل واعتبرهما المهمة الموكلة إليه كأستاذ، أو كخوجة كما كان يحب أن يصف نفسه وكما كان يحب لنا أن نصفه.
فى كل الأكاديميات ثمة أساتذة أسطوات فى تخصصاتهم، يعرفون كل اللازم - بل وأكثر من اللازم أحيانا - فى إطار العلوم التى يعملون بها، لكنهم يظلون مجرد أسطوات ناقلين لمعرفة، مهما كان حجم المعرفة التى ينقلونها لتلاميذهم. وثمة أساتذة – بخلاف إلمامهم الكبير بموضوع علمهم – يعون أن عمل الأكاديمية ليس فى نقل المعرفة والعلوم ولكن فى تأسيس طرق التفكير وفى تجذير الوعى النقدى وفى إلهام وجدان الطلاب. الخوجة فوزى فهمى كان الاستثناء الذى يجمع بين هذين النمطين من الأساتذة.
يحتفظ كل منا بذكرى استنارة، بلحظة ملهمة كاشفة تشبه لحظة تلقى الوحي. موضوع الذكرى ليس بالأهمية بمكان، بمعنى أن لحظة الاستنارة تلك تنفك صلتها بموضوعها فيما بعد لأنها فى ذاتها هى جوهر المعرفة والوعى معا. الأمر أشبه بلحظة اكتشاف آدم وحواء لعريهما، ومن ثم لخصوصيتهما، ولخصوصية علاقتهما بالعالم، فلم يعد مُهمّا أبدا ارتباط ذلك الاكتشاف بالخطيئة أو بسواها، بالتهام تفاحة ما من شجرة ما أو بالتهام شيء آخر. هى لحظة اكتشاف بريئة وبديعة براءة وإبداع يلغيان ما سواهما. فى كل محاضرة تقريبا كان يلح على أن الإنسان – كل إنسان – لديه وجود فعلى ووجود واع ووجود نشط. ويلح على أن المثقف – وهى صفة جديرة بكل شخص أن يتصف بها على نحو من الأنحاء – هو الشخص الذى بمقدوره تجاوز وجوده الفعلى الذى يتشاركه مع باقى جنسه – وهو وجود جسدى وحسى بالأساس - باتجاه وجوده الواعى الذى يتطلب إلمامه بالمعرفة فى حدودها القصوى – وهو أيضا وجود يتشارك فيه مع أقرانه بالوجدان والعقل - قبل أن ينتقل – وهذا هو الأهم – إلى الوجود النشط الذى يجعله عضوا ناشطا فى مجتمعه.
كان يمكن لهذا الإلحاح أن يكون مجرد تزيد لولا أنه كمثقف عضوى دلل بوجوده على أن كل ما يلح عليه يقع ضمن الممكن واللازم والضرورى أيضا. كان أستاذا فى قاعات الدرس لكنه أيضا كان رئيسا لأكاديمية الفنون، وعضوا فى مجلس الشورى، وعضوا فى عدة لجان لا حصر لها، ومسئولا فى فترات عن مكتبة الأسرة. ورغم أنه لم يغب فى أى يوم عن محاضرته التى كان الجميع يعرف موعدها بدقة فإنه أيضا لم يتكاسل عن عمله خارج قاعات الدرس، وفى كل فضاء كان يتحرك فيه كان يمارس دوره كمثقف عضوي، سواء كإدارى فذ أو ككاتب للمقال على مدار سنوات طويلة أو كناشط فى الثقافة المصرية.
الذين يعرفون أكاديمية الفنون يعرفون أن الأكاديمية افتقرت لسنوات إلى التنظيم الكافى الذى يجعل منها مؤسسة جديرة بهذا اللقب، وبداية من معهد الفنون المسرحية الذى شغل منصب العميد فيه عمل على إعداد لائحة دراسية مكتملة لإعداد طالب الفن ليس فحسب ليكون عارفا بمجال تخصصه ولكن أيضا ليكون منفتحا على الفنون الأخرى التى تؤهله ليكون مثقفا بالمعنى الحقيقى للكلمة. طالب الفنون المسرحية صار بفضل هذه اللائحة يدرس كافة الفنون سواء التى تتصل بتخصصه اتصالا مباشرا أو تلك التى تبنى وعيه كفنان مثقف. ولتحقيق هذه الغاية استقدم خبراء ممتازين عدة فى كل مجال. كطالب مثلا شرفت بأن أتتلمذ على يد الفنان التشكيلى الكبير جمال قطب والموسيقار سليم سحاب ا استقدمهما لتدريس مقررات «التذوق» الفني، ولعل اسم المقرر بذاته – وهو الذى أطلق عليه الاسم - كاشف عن ذلك الوعى الذى تأسست اللائحة به، فليس المهم الإلمام بالموسيقى ولا بالفن التشكيلى ولكن الأهم تذوقهما.
وكإدارى كان يمكن لنا مشاهدته وهو يناقش البستانى فى أنواع النباتات التى يقوم بزراعتها فى فناء الأكاديمية، وفى مناقشة عمداء المعاهد فى احتياجات معاهدهم، وفى متابعة انتظام الدراسة. ولا أنسى أبدا يوم أطلعنى – بسعادة كبيرة - على الرسالة المرسلة من أحد المعاهد الفنية فى أسبانيا التى تستأذن استلهام لائحة الأكاديمية المصرية فى تأسيس لائحتها الجديدة!
هذه الفرادة لم تكن أبدا إلا ملمحا من ملامح التأسيس الذى خضع هو نفسه له على يد أستاذه الناقد الكبير محمد مندور الذى ظل سنوات عمره كلها يدين له بالفضل فى تشكيل وعيه، وعلى الرغم من الخلاف الكبير الذى ميز كل منهما أيديولوجيا – ما بين يسارية مندور وليبرالية فوزى فهمى – فإنه حرص فى كل لحظة من لحظات حياته على الإعراب عن التقدير والامتنان البالغ لأستاذه. وفى ظنى أن الدور الذى لعبه مندور فى تأسيس وعى فوزى فهمى كان هو نفسه الدور الذى لعبه الأخير مع كافة تلاميذه، والذى – بدوره – أوصانا بأن نلعبه. من اللافت جدا أنه مثلا كان يقدم تلاميذه باعتبارهم أصدقاء، وهى العلاقة التى جمعته بأستاذه طوال سنوات تلمذته على يديه. كان مندور أستاذه وصديقه كما كان فوزى فهمى صديقا لكل تلاميذه. صداقة تجاوزت فى كل الأوقات جغرافيا الأكاديمية لتصل لأقصى تخوم الإنسانية لدى تلاميذه. بالنسبة لى لم يتدخل دكتور فوزى فى تعيينى بالأكاديمية فقط لكنه أيضا أرسلنى لطبيبه الخاص حين مرضت وقام بالاتصال بالأستاذ خيرى شلبى بنفسه حين علم بأنى أستعد للتقدم لطلب يد ابنته، بل إنه عرض الحضور معى لطلب يدها كأب! وبعد حصولى وزملاء آخرين على الدكتوراه أصر على أن يمنح كل منا مقررا من مقرراته لتدريسها مدللا على أن الأستاذية الحقيقية فى تمكن الأستاذ من إعداد أساتذة.
تتصل النقطة الأخيرة بجانب مهم من شخصيته. فقد يغيب عن البعض أن فوزى فهمى كان أحد كتاب المسرح الواعدين جدا، ومن الظلم الفنى التسامح مع التسمية التى أطلقها البعض عليه وعلى آخرين ممن كتبوا للمسرح من أساتذة الأدب: مسرح الدكاترة، لأن المسرحيات الثلاث التى كتبها فوزى فهمى تمايزت عن كتابات أقرانه بإمكاناتها الدرامية المتفردة ولغتها الشاعرية البديعة، ولعل مسرحية عودة الغائب بالذات دليل على ذلك. كتب فوزى فهمى عودة الغائب مستلهما مسرحية أوديب الملك لسفوكليس، وبسبب جرأتها أعرب الرائد العظيم توفيق الحكيم عن حسده لفوزى فهمي، فالحكيم – بحسب كلامه – لم تكن لديه الشجاعة الكافية للتركيز على علاقة أوديب بأمه، وسلك فى مسرحيته مسلك سفوكليس فى التلميح لهذه العلاقة دون التصريح بها، أما فوزى فهمى فقد تمادى بشجاعة شاب مثقف فكتب مشاهد حب بين أوديب وأمه، وباقتدار بالغ تمكن من مزج الحب الرومانسى بين الزوج والزوجة وبين الأمومة الساكنة فى عمق العلاقة بين جوكاستا وأوديب.
بعد ثلاث مسرحيات توقف فوزى فهمى عن كتابة المسرح – رغم نجاح أعماله مسرحيا – لانشغاله بعمله كأستاذ – أو كخوجة –فاستبعد مشروعات مسرحية كثيرة كان يستعد لكتابتها، ورغم إلحاح هذه المشروعات عليه فى فترات مختلفة فإنه وجد عزاءه دائماً فى عدد الكتاب المسرحيين الذين ساهم فى تشكيل وعيهم وفى دفعهم للحياة المسرحية مثل الكاتب الكبير لينين الرملى مثلا رغم أنهما كانا بمثابة زميلين نظرا للتقارب العمرى بين الاثنين (ثمانى سنوات تقريبا). ووجد عزاءه فى مد المكتبة العربية بعدد كبير جدا من الكتب الحديثة المترجمة التى صاحبت مهرجان المسرح التجريبى الذى ظل رئيسه طوال سنوات طويلة، وهى الكتب التى كان يختارها بنفسه وبسببها ظل متابعا لكافة إصدارات العالم. ووجد عزاءه فى تلاميذه الذين سعد بهم وسعدوا به على مدار أكثر من خمسين عاما تقريبا.
ورغم كل هذا الجهد حرص طوال الوقت على التعفف عن كل محاولات زملائه وتلاميذه لتكريمه أو لترشيحه لأية جائزة، وكان طوال الوقت يفسر هذا التعفف بأنه حصل بالفعل على التكريم الأعظم – من وجهة نظره – حين كتب عنه أستاذه محمد مندور مقالا بعنوان «الجيل الجديد يصحح المفاهيم». ومناسبة هذا المقال أن فوزى فهمى تحدى أستاذه فى لحظة تمرد وتجاهل اقتراحه بموضوع بحثه للتخرج وعكف طوال العام على إعداد بحثه المتميز جدا «موت البطل التراجيدي» والذى فاجأ به مندور نهاية العام، ورغم غضب الأخير من هذا التمرد فإنه كتب عنه مقالا يشيد فيه بدراسته عن البطل التراجيدى ويعترف فيه بأنه صحح المفاهيم الراسخة.
وربما لهذا السبب ظل فوزى فهمى طوال سنوات أستاذيته الأكثر قدرة على تجاوز لحظات تمرد تلاميذه، بل إنه كان ينظر نظرة السعادة لكل تلميذ يبدى تمردا. كان يمكن لأى منا الاختلاف معه فى الرأي، ومهما كان الرأى الذى نعبر عنه طائشا أو متطرفا أو حتى جاهلا كان يحترمه ويناقشه، يختصمه أو يعترف بجدارته، لكنه أبدا لم يحقر من أى رأى مهما تطرف فى جهله.
أتذكر – وليسمح لى القاريء بأن أميل للشخصى – أنى بعد عملى معه كمعيد لمدة عام أنى قررت ألا أعمل معه مرة أخرى. فى ذلك الوقت اكتشفت أنى – بسبب الكاريزما الفائقة التى كان يتمتع بها – صرت أقلده بل وضبطت نفسى أضحك ضحكته فقررت ألا أعيش فى جلباب أبي! ورغم أنه انزعج من تهربى من العمل معه فأبدا لم يسألنى عن السبب احتراما لإرادتى ورغبة فى عدم إلزامى بشيء، وبعدها بسنوات صارحته بالسبب. كان من الصعب الاقتراب منه دون الوقوع فى فخ هذه الكاريزما الاسثنائية.
وأتذكر أنى طوال سنوات قربى منه حاولت مرارا إقناعه بتسجيل ذكرياته ورفض فى كل مرة رغم إلحاحي، حتى بعد أن عرف رغبة الصديق سيد محمود – وكان وقتها رئيسا لتحرير جريدة القاهرة – فى أن أجرى معه حوارا عن سيرته الذاتية. لم يكن يعترف بأن لديه ما يمكن الإفصاح عنه، خصوصا أنه كان عازفا عن الإعلام سنوات طويلة جدا.
عاش فوزى فهمى عازفا عن الإعلام زاهدا فى كل تكريم – مستحقاً – وأفنى حياته لكل قناعة ولكل عقيدة آمن بها، وكانت حياته أفكاره وأفكاره حياته، آمن بأن المثقف يجب أن يكون ناشطا فى مجتمعه يعمل على استنارته وتشكيل وعيه ووجدانه، فكان مثال المثقف الذى آمن به، ولم يدخر طاقة فى سبيل ذلك، فى قاعات الدرس، وخارجها، وفى كل فضاء استدعاه للعمل.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة