أكوتاغاوا
من مخطوط عُثر عليه بعد موت المؤلف
رسالة أكوتاغاوا لصديقه عن حتمية الرحيل
السبت، 23 أكتوبر 2021 - 04:29 م
ترجمة:ميسرة عفيفى
لم يكتب أحد من المنتحرين حتى الآن عن حالته النفسية وقت انتحاره. وعلى الأرجح أن ذلك بسبب كبرياء المنتحر وعزة نفسه، أو ربما بسبب قلة اهتمامه شخصيًّا بالتحليل النفسى لذاته. وأنا أريد أن أذكر لك بوضوح هذا التحليل النفسى فى آخر رسائلى إليك. لا داعى لأن أبلغك أنت بصفة خاصة عن دوافع انتحارى من الأصل. لقد كتب هنرى رينيه فى إحدى قصصه القصيرة عن منتحر. لا يعرف بطل القصة نفسه سبب انتحاره. ويمكنك أنت أن تكتشف دوافع متنوعة للانتحار من صفحة الحوادث فى الجرائد مثل صعوبة المعيشة أو المعاناة من المرض أو المعاناة النفسية. ولكن من خلال خبرتى ليست هذه كل الدوافع. ليس هذا فقط، غالبًا ما تشير فقط إلى معالم الطريق إلى الدافع وليس الدافع نفسه. وعلى الأرجح فالمنتحر نفسه كما وصفه رينيه لا يدرى غالبًا لماذا ينتحر. الانتحار، مثل كل أفعالنا، يضم دوافع معقّدة. ولكن على الأقل فى حالتى أنا مجرد قلق غامض. قلق غامض تجاه المستقبل. ومن المؤكد أنك لن تصدق كلامى هذا. وأنا لا ألومك على ذلك لأن خبرتى خلال عشر سنين علّمتنى أن كلماتى تلك ستذهب أدراج الرياح ما لم يكن سامعها يعيش فى نفس البيئة التى أعيشها ويحيط به نفس البشر الذين يحيطون بى.
طوال العامين الماضيين ظللتُ أفكر فى الموت فقط. وهى المدة أيضًا التى قرأت فيها ماينلندر بتعمّق شديد. لا ريب أن ماينلندر كان يصف معالم الطريق المتجه إلى الموت باستخدام كلمات تجريدية فى منتهى البراعة. ولكننى أريد أن أصف نفس الشىء وصفًا أكثر تحديدًا. ولن تقف مشاعر التعاطف مع أسرتى عقبة فى سبيل ذلك مطلقًا. ومن المؤكد أنك ستصف ذلك بكلمة لا إنسانى، ولكن فيما يتعلق باللاإنسانية فأنا حقًا لا إنسانى.
عليَّ واجب أن أكتب كل شىء بصدق. (لقد شرّحت أيضًا معنى كلمة قلق غامض تجاه المستقبل. وفعلت ذلك على الأغلب فى عملى «حياة أحد الحمقى» بأقصى ما أستطيع. ولكنى تعمدتُ فقط ألا أكتب فى ذلك العمل عن الظروف الاجتماعية الخاصة بى، أى الآثار التى تركتها علىَّ حقبة الحكم الإقطاعى فى اليابان. وسبب تعمدى عدم الكتابة عن ذلك لأننا نحن البشر ما زلنا إلى حد ما حتى اليوم تحت تأثير عصور الإقطاع. ولكنى حاولت الكتابة عن أفعالى وتصرفاتى أنا على الأغلب، بغض النظر عن مسرح الأحداث والخلفية والأضواء والشخصيات التى تظهر على المسرح. وليس هذا فقط بل من المؤكد أن ثمة شكًا كبيرًا فى أنى أنا نفسى فى خضم تلك الظروف الاجتماعية أستطيع إدراكها جيّدًا). فى البداية أول ما فكرت فيه كان كيف أموت دون معاناة. والوسيلة المثلى لتحقيق ذلك هو الموت شنقًا. ولكنى عندما تخيلت منظرى وأنا أموت شنقًا وجدتُ متسعًا من الرفاهية لكى أشعر بكراهية ذلك المنظر لعدم جماله. (أتذكر أنى أحببت فتاة، ولكنى فقدت حبى لها فجأة عندما عرفت أن خطها ردىء). وكذلك الموت غرقًا لن يؤدى الغرض لأنى أجيد السباحة. ليس هذا فقط بل أنه حتى لو افترضنا حدوث المعجزة وتحقق، فالموت غرقًا أكثر عذابًا من الشنق. وهناك الموت دهسًا تحت عجلات قطار أو سيارة، ولكنه سيكون أكثر نفورًا من الناحية الجمالية السابق ذكرها. وسيكون احتمالية فشلى كبيرة عند الموت بالمسدس أو بالسكين لأن يدى ستهتز. وأيضًا الموت قفزًا من فوق بناية عالية، سيكون قبيحًا. ولهذه الأسباب قررت أن أموت باستخدام الأدوية. وعلى الأرجح فالموت بالأدوية أكثر عذوبة من الموت شنقًا. ولكنه، بخلاف كونه قبيحًا مثل الموت شنقًا، فله ميزة انعدام خطر النجاة. ولكن بالتأكيد الحصول على تلك الأدوية صعب بالنسبة لى. قررت قرارًا حاسمًا أن أنتحر، وقررت استغلال كل فرصة للحصول على تلك الأدوية. وفى نفس الوقت أيضًا حاولت اكتساب معرفة بعلم السموم.
ثم فكرتُ فى مكان الانتحار. ستعتمد أسرتى على ما سأتركه لهم بعد موتى لكى تقيم عيشها. تتكون تركتى من أرض بمساحة 330 مترًا مربعًا، والبيت الذى عليها والحقوق الفكرية لمؤلفاتى، ومدخراتى فى البنك التى تبلغ ألفى ين يًّابانى فقط. وشعرتُ بالعذاب من ألا يمكن بيع هذا البيت لو انتحرت فيه. وبالتالى شعرتُ بالغيرة من البرجوازيين الذين يملكون بيتًا آخر فى الضواحى أو المنتجعات. قد تستغرب أنتَ كلامى هذا، بل حتى أنا أشعر الآن بالدهشة من كلامى هذا. ولكنى عندما فكرتُ فى هذا الأمر فى الحقيقة شعرتُ بالضيق الشديد. ولا يمكننى أن أتفادى هذا الضيق مطلقًا. ولكنى أريد أن أنتحر بحيث لا يرى أحد جثتى بقدر الإمكان إلا أسرتى فقط.
لكن بعد أن اخترت الوسيلة زاد تعلّقى بالحياة نسبيًا. وبناء على ذلك، كان ثمة حاجة إلى محفّز ليكون قاعدة انطلق منها إلى الموت. (إننى لا أؤمن كما يؤمن الغربيون أن الانتحار إثم أو شر. فعلى أرض الواقع بوذا فى كتاب آغاما المقدس أيد انتحار أحد تلاميذه. وقد يقول علماء السوء الذين يبيعون علمهم للعامة بثمن بخس عن هذا التأييد إنه فقط فى حالة «الضرورة القصوى» لا يمكن تفاديها. ولكن من وجهة نظر طرف ثالث، حالة «الضرورة القصوى» تلك ليست حالة طوارئ غير طبيعية يجب أن يموت المرء فيها موتًا مأسويًّا وهو مكتوف الأيدى. إن كل منتحر ينتحر فقط فى حالة ضرورة قصوى بالنسبة له لا يمكنه تفاديها. ولكن على العكس، من ينتحر بجرأة قبل ذلك، يجب أن يكون فى منتهى الشجاعة). مهما قلنا فأفضل محفز مفيد هو المرأة. لقد عرض هاينريش فون كلايست، قبل أن ينتحر، على أصدقائه مرات كثيرة أن يرافقوه فى طريق (الرجال). وكذلك راسين عرض على موليير وبوالو أن يقذفا معه فى نهر السين. ولكن لسوء الحظ ليس لدىّ مثل هؤلاء الأصدقاء. ولكننى قررت أن أموت مع امرأة أعرفها. ولكن بات ذلك أمرًا لا أستطيع أن أستشير فيه واحدة منهن من أجلنا. وأثناء ذلك تولدت لدىّ ثقة بنفسى أننى أستطيع الموت بدون وجود محفّز. ولم يكن ذلك بسبب يأسى من العثور على من يموت معى. ولكن على العكس كان السبب أنى من بدأت تدريجيًّا أغدو عاطفيًّا، رغبتُ فى مراعاة مشاعر زوجتى حتى وإن كنتُ سأفارقها بالموت. وفى الوقت نفسه عرفت أن انتحار شخص واحد أسهل من انتحار شخصين معًا. ولا شك كذلك أن هذا يُسهل الأمر من خلال حرية اختيار الوقت المناسب للانتحار.
آخر شىء هو كيفية ترتيب الانتحار بمهارة بدون أن تنتبه أسرتى لذلك. بعد تجهيزات لعدة أشهر وصلتُ إلى ثقة بالنفس فى أى حال. (لا يمكننى أن أكتب تفاصيل ذلك من أجل الناس الذين يحملون تجاهى مشاعر طيبة. وفى الأصل حتى وإن كتبتُ التفاصيل هنا فمن المؤكد أنها لن تُشكّل تُهمة المساعدة على الانتحار قانونيًّا «لا أجد اسم تهمة أكثر إضحاكًا من هذه التهمة! تُرى إلى أى مدى سيزيد عدد المجرمين لو طُبق هذا القانون بحذافيره؟ الصيدليات، ومحلات بيع الأسلحة، وبائعى أمواس الحلاقة، حتى وإن قلنا إنهم لا يعلمون، فكلامنا نحن البشر ومشاعرنا ما لم تظهر إرادتنا، يجب أن تتلقى بعض الاتهام قل أو كثر. ليس هذا فقط بل إن المجتمع والقوانين ذاتها تساعد على الانتحار. وفى النهاية من المؤكد أن هؤلاء المجرمين لديهم قلوب طيبة بدرجة كبيرة») انتهيت من تلك التجهيزات ببرود، وأنا الآن ألهو مع الموت فقط. وعلى الأرجح فمشاعرى بعد ذلك هى غالبًا نفس مشاعر ماينلندر.
نحن البشر حيوانات بشرية، ولذا نخاف من الموت خوفًا غريزيًا حيوانيًا. إن ما يُسمّى بقوة الحياة فى الواقع لا يزيد عن مجرد مرادف للقوة الحيوانية. أنا أيضًا إنسان حيوانى. ولكن عند النظر إلى مللى من الطعام الأرجح أنى أفقد القوة الحيوانية تدريجيًّا. إن ما أعيش فيه حاليًّا هو عالم الأعصاب المرضى الشفاف كالثلج. فى الليلة الماضية كنتُ أتحدث مع إحدى العاهرات عن أجرتها (!) فشعرتُ حتى النخاع بالشفقة لنا نحن البشر الذين «نعيش من أجل أن نعيش». لو استطعنا أن نغرق فى نوم أبدى مذعنين، حتى ولو لم يكن فى ذلك سعادة فلا شك أنه سيكون سلامًا. ثمة شك فى متى أستطيع الانتحار بشجاعة! ولكن فى حالتى تلك دائمًا ما تكون الطبيعة أكثر جمالًا من المعتاد. من المؤكد أنك ستضحك على تناقضى لأننى أحب جمال الطبيعة ومع ذلك أخطط للانتحار. ولكن ذلك لأن جمال الطبيعة ينعكس فى عيونى عند الاحتضار. لقد رأيت وأحببت بل وفهمت أكثر من الآخرين. وهذا وحده يجعلنى وسط تراكم المعاناة والعذاب راضيًا إلى حد ما. أرجو منك أن تحتفظ بهذه الرسالة لديك ولا تنشرها لعدة أعوام بعد موتى. لأنه ربما لا يعدم الأمر أن أنتحر وكأننى قد متُ من مرض ما.
إضافة: لقد قرأت سيرة أمبادوقليس وشعرت إلى أى مدى قِدم الرغبة فى أن يصبح الإنسان إلهًا. فى حدود ما أعى فرسالتى هذه تهدف إلى عدم رغبتى فى أن أكون إلهًا. كلا، بل أريد أن أكون أقل من الإنسان العادى. من المؤكد أنك تتذكر نقاشنا قبل عشرين عامًا حول «أمبادوقليس جبل إتنا» تحت شجرة الزيزفون؟ لقد كنتُ وقتها أحد الذين يرغبون فى أن يكونوا آلهة.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة