أكوتاغاوا
أكوتاغاوا


من مخطوط عُثر عليه بعد موت المؤلف

رسالة أكوتاغاوا لصديقه عن حتمية الرحيل

أخبار الأدب

السبت، 23 أكتوبر 2021 - 04:29 م

ترجمة‭:‬ميسرة‭ ‬عفيفى

 

‭   ‬لم‭ ‬يكتب‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬المنتحرين‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬عن‭ ‬حالته‭ ‬النفسية‭ ‬وقت‭ ‬انتحاره‭. ‬وعلى‭ ‬الأرجح‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬بسبب‭ ‬كبرياء‭ ‬المنتحر‭ ‬وعزة‭ ‬نفسه،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬بسبب‭ ‬قلة‭ ‬اهتمامه‭ ‬شخصيًّا‭ ‬بالتحليل‭ ‬النفسى‭ ‬لذاته‭. ‬وأنا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أذكر‭ ‬لك‭ ‬بوضوح‭ ‬هذا‭ ‬التحليل‭ ‬النفسى‭ ‬فى‭ ‬آخر‭ ‬رسائلى‭ ‬إليك‭. ‬لا‭ ‬داعى‭ ‬لأن‭ ‬أبلغك‭ ‬أنت‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة‭ ‬عن‭ ‬دوافع‭ ‬انتحارى‭ ‬من‭ ‬الأصل‭. ‬لقد‭ ‬كتب‭ ‬هنرى‭ ‬رينيه‭ ‬فى‭ ‬إحدى‭ ‬قصصه‭ ‬القصيرة‭ ‬عن‭ ‬منتحر‭. ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬بطل‭ ‬القصة‭ ‬نفسه‭ ‬سبب‭ ‬انتحاره‭. ‬ويمكنك‭ ‬أنت‭ ‬أن‭ ‬تكتشف‭ ‬دوافع‭ ‬متنوعة‭ ‬للانتحار‭ ‬من‭ ‬صفحة‭ ‬الحوادث‭ ‬فى‭ ‬الجرائد‭ ‬مثل‭ ‬صعوبة‭ ‬المعيشة‭ ‬أو‭ ‬المعاناة‭ ‬من‭ ‬المرض‭ ‬أو‭ ‬المعاناة‭ ‬النفسية‭. ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬خبرتى‭ ‬ليست‭ ‬هذه‭ ‬كل‭ ‬الدوافع‭. ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬فقط،‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تشير‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬معالم‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الدافع‭ ‬وليس‭ ‬الدافع‭ ‬نفسه‭. ‬وعلى‭ ‬الأرجح‭ ‬فالمنتحر‭ ‬نفسه‭ ‬كما‭ ‬وصفه‭ ‬رينيه‭ ‬لا‭ ‬يدرى‭ ‬غالبًا‭ ‬لماذا‭ ‬ينتحر‭. ‬الانتحار،‭ ‬مثل‭ ‬كل‭ ‬أفعالنا،‭ ‬يضم‭ ‬دوافع‭ ‬معقّدة‭. ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬فى‭ ‬حالتى‭ ‬أنا‭ ‬مجرد‭ ‬قلق‭ ‬غامض‭. ‬قلق‭ ‬غامض‭ ‬تجاه‭ ‬المستقبل‭. ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أنك‭ ‬لن‭ ‬تصدق‭ ‬كلامى‭ ‬هذا‭. ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬ألومك‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬خبرتى‭ ‬خلال‭ ‬عشر‭ ‬سنين‭ ‬علّمتنى‭ ‬أن‭ ‬كلماتى‭ ‬تلك‭ ‬ستذهب‭ ‬أدراج‭ ‬الرياح‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سامعها‭ ‬يعيش‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬البيئة‭ ‬التى‭ ‬أعيشها‭ ‬ويحيط‭ ‬به‭ ‬نفس‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬يحيطون‭ ‬بى‭.‬

‭   ‬طوال‭ ‬العامين‭ ‬الماضيين‭ ‬ظللتُ‭ ‬أفكر‭ ‬فى‭ ‬الموت‭ ‬فقط‭. ‬وهى‭ ‬المدة‭ ‬أيضًا‭ ‬التى‭ ‬قرأت‭ ‬فيها‭ ‬ماينلندر‭ ‬بتعمّق‭ ‬شديد‭. ‬لا‭ ‬ريب‭ ‬أن‭ ‬ماينلندر‭ ‬كان‭ ‬يصف‭ ‬معالم‭ ‬الطريق‭ ‬المتجه‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬باستخدام‭ ‬كلمات‭ ‬تجريدية‭ ‬فى‭ ‬منتهى‭ ‬البراعة‭. ‬ولكننى‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أصف‭ ‬نفس‭ ‬الشىء‭ ‬وصفًا‭ ‬أكثر‭ ‬تحديدًا‭. ‬ولن‭ ‬تقف‭ ‬مشاعر‭ ‬التعاطف‭ ‬مع‭ ‬أسرتى‭ ‬عقبة‭ ‬فى‭ ‬سبيل‭ ‬ذلك‭ ‬مطلقًا‭. ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أنك‭ ‬ستصف‭ ‬ذلك‭ ‬بكلمة‭ ‬لا‭ ‬إنسانى،‭ ‬ولكن‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬باللاإنسانية‭ ‬فأنا‭ ‬حقًا‭ ‬لا‭ ‬إنسانى‭.‬

‭  ‬عليَّ‭ ‬واجب‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬بصدق‭. (‬لقد‭ ‬شرّحت‭ ‬أيضًا‭ ‬معنى‭ ‬كلمة‭ ‬قلق‭ ‬غامض‭ ‬تجاه‭ ‬المستقبل‭. ‬وفعلت‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬الأغلب‭ ‬فى‭ ‬عملى‭ ‬‮«‬حياة‭ ‬أحد‭ ‬الحمقى‮»‬‭ ‬بأقصى‭ ‬ما‭ ‬أستطيع‭. ‬ولكنى‭ ‬تعمدتُ‭ ‬فقط‭ ‬ألا‭ ‬أكتب‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬العمل‭ ‬عن‭ ‬الظروف‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الخاصة‭ ‬بى،‭ ‬أى‭ ‬الآثار‭ ‬التى‭ ‬تركتها‭ ‬علىَّ‭ ‬حقبة‭ ‬الحكم‭ ‬الإقطاعى‭ ‬فى‭ ‬اليابان‭. ‬وسبب‭ ‬تعمدى‭ ‬عدم‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬لأننا‭ ‬نحن‭ ‬البشر‭ ‬ما‭ ‬زلنا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬عصور‭ ‬الإقطاع‭. ‬ولكنى‭ ‬حاولت‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬أفعالى‭ ‬وتصرفاتى‭ ‬أنا‭ ‬على‭ ‬الأغلب،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬مسرح‭ ‬الأحداث‭ ‬والخلفية‭ ‬والأضواء‭ ‬والشخصيات‭ ‬التى‭ ‬تظهر‭ ‬على‭ ‬المسرح‭. ‬وليس‭ ‬هذا‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬شكًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬فى‭ ‬أنى‭ ‬أنا‭ ‬نفسى‭ ‬فى‭ ‬خضم‭ ‬تلك‭ ‬الظروف‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أستطيع‭ ‬إدراكها‭ ‬جيّدًا‭). ‬فى‭ ‬البداية‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬فكرت‭ ‬فيه‭ ‬كان‭ ‬كيف‭ ‬أموت‭ ‬دون‭ ‬معاناة‭. ‬والوسيلة‭ ‬المثلى‭ ‬لتحقيق‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬الموت‭ ‬شنقًا‭. ‬ولكنى‭ ‬عندما‭ ‬تخيلت‭ ‬منظرى‭ ‬وأنا‭ ‬أموت‭ ‬شنقًا‭ ‬وجدتُ‭ ‬متسعًا‭ ‬من‭ ‬الرفاهية‭ ‬لكى‭ ‬أشعر‭ ‬بكراهية‭ ‬ذلك‭ ‬المنظر‭ ‬لعدم‭ ‬جماله‭. (‬أتذكر‭ ‬أنى‭ ‬أحببت‭ ‬فتاة،‭ ‬ولكنى‭ ‬فقدت‭ ‬حبى‭ ‬لها‭ ‬فجأة‭ ‬عندما‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬خطها‭ ‬ردىء‭). ‬وكذلك‭ ‬الموت‭ ‬غرقًا‭ ‬لن‭ ‬يؤدى‭ ‬الغرض‭ ‬لأنى‭ ‬أجيد‭ ‬السباحة‭. ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬أنه‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬افترضنا‭ ‬حدوث‭ ‬المعجزة‭ ‬وتحقق،‭ ‬فالموت‭ ‬غرقًا‭ ‬أكثر‭ ‬عذابًا‭ ‬من‭ ‬الشنق‭. ‬وهناك‭ ‬الموت‭ ‬دهسًا‭ ‬تحت‭ ‬عجلات‭ ‬قطار‭ ‬أو‭ ‬سيارة،‭ ‬ولكنه‭ ‬سيكون‭ ‬أكثر‭ ‬نفورًا‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الجمالية‭ ‬السابق‭ ‬ذكرها‭. ‬وسيكون‭ ‬احتمالية‭ ‬فشلى‭ ‬كبيرة‭ ‬عند‭ ‬الموت‭ ‬بالمسدس‭ ‬أو‭ ‬بالسكين‭ ‬لأن‭ ‬يدى‭ ‬ستهتز‭. ‬وأيضًا‭ ‬الموت‭ ‬قفزًا‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬بناية‭ ‬عالية،‭ ‬سيكون‭ ‬قبيحًا‭. ‬ولهذه‭ ‬الأسباب‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أموت‭ ‬باستخدام‭ ‬الأدوية‭. ‬وعلى‭ ‬الأرجح‭ ‬فالموت‭ ‬بالأدوية‭ ‬أكثر‭ ‬عذوبة‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬شنقًا‭. ‬ولكنه،‭ ‬بخلاف‭ ‬كونه‭ ‬قبيحًا‭ ‬مثل‭ ‬الموت‭ ‬شنقًا،‭ ‬فله‭ ‬ميزة‭ ‬انعدام‭ ‬خطر‭ ‬النجاة‭. ‬ولكن‭ ‬بالتأكيد‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأدوية‭ ‬صعب‭ ‬بالنسبة‭ ‬لى‭. ‬قررت‭ ‬قرارًا‭ ‬حاسمًا‭ ‬أن‭ ‬أنتحر،‭ ‬وقررت‭ ‬استغلال‭ ‬كل‭ ‬فرصة‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأدوية‭. ‬وفى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬أيضًا‭ ‬حاولت‭ ‬اكتساب‭ ‬معرفة‭ ‬بعلم‭ ‬السموم‭.‬

‭   ‬ثم‭ ‬فكرتُ‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬الانتحار‭. ‬ستعتمد‭ ‬أسرتى‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سأتركه‭ ‬لهم‭ ‬بعد‭ ‬موتى‭ ‬لكى‭ ‬تقيم‭ ‬عيشها‭. ‬تتكون‭ ‬تركتى‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬بمساحة‭ ‬330‭ ‬مترًا‭ ‬مربعًا،‭ ‬والبيت‭ ‬الذى‭ ‬عليها‭ ‬والحقوق‭ ‬الفكرية‭ ‬لمؤلفاتى،‭ ‬ومدخراتى‭ ‬فى‭ ‬البنك‭ ‬التى‭ ‬تبلغ‭ ‬ألفى‭ ‬ين‭ ‬يًّابانى‭  ‬فقط‭. ‬وشعرتُ‭ ‬بالعذاب‭ ‬من‭ ‬ألا‭ ‬يمكن‭ ‬بيع‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬لو‭ ‬انتحرت‭ ‬فيه‭. ‬وبالتالى‭ ‬شعرتُ‭ ‬بالغيرة‭ ‬من‭ ‬البرجوازيين‭ ‬الذين‭ ‬يملكون‭ ‬بيتًا‭ ‬آخر‭ ‬فى‭ ‬الضواحى‭ ‬أو‭ ‬المنتجعات‭. ‬قد‭ ‬تستغرب‭ ‬أنتَ‭ ‬كلامى‭ ‬هذا،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬أنا‭ ‬أشعر‭ ‬الآن‭ ‬بالدهشة‭ ‬من‭ ‬كلامى‭ ‬هذا‭. ‬ولكنى‭ ‬عندما‭ ‬فكرتُ‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬فى‭ ‬الحقيقة‭ ‬شعرتُ‭ ‬بالضيق‭ ‬الشديد‭. ‬ولا‭ ‬يمكننى‭ ‬أن‭ ‬أتفادى‭ ‬هذا‭ ‬الضيق‭ ‬مطلقًا‭. ‬ولكنى‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أنتحر‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬أحد‭ ‬جثتى‭ ‬بقدر‭ ‬الإمكان‭ ‬إلا‭ ‬أسرتى‭ ‬فقط‭.‬

‭  ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اخترت‭ ‬الوسيلة‭ ‬زاد‭ ‬تعلّقى‭ ‬بالحياة‭ ‬نسبيًا‭. ‬وبناء‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬محفّز‭ ‬ليكون‭ ‬قاعدة‭ ‬انطلق‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭. (‬إننى‭ ‬لا‭ ‬أؤمن‭ ‬كما‭ ‬يؤمن‭ ‬الغربيون‭ ‬أن‭ ‬الانتحار‭ ‬إثم‭ ‬أو‭ ‬شر‭. ‬فعلى‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬بوذا‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬آغاما‭ ‬المقدس‭ ‬أيد‭ ‬انتحار‭ ‬أحد‭ ‬تلاميذه‭. ‬وقد‭ ‬يقول‭ ‬علماء‭ ‬السوء‭ ‬الذين‭ ‬يبيعون‭ ‬علمهم‭ ‬للعامة‭ ‬بثمن‭ ‬بخس‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التأييد‭ ‬إنه‭ ‬فقط‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬‮«‬الضرورة‭ ‬القصوى‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تفاديها‭. ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬طرف‭ ‬ثالث،‭ ‬حالة‭ ‬‮«‬الضرورة‭ ‬القصوى‮»‬‭ ‬تلك‭ ‬ليست‭ ‬حالة‭ ‬طوارئ‭ ‬غير‭ ‬طبيعية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬المرء‭ ‬فيها‭ ‬موتًا‭ ‬مأسويًّا‭ ‬وهو‭ ‬مكتوف‭ ‬الأيدى‭. ‬إن‭ ‬كل‭ ‬منتحر‭ ‬ينتحر‭ ‬فقط‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬ضرورة‭ ‬قصوى‭ ‬بالنسبة‭ ‬له‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬تفاديها‭. ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬من‭ ‬ينتحر‭ ‬بجرأة‭ ‬قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬فى‭ ‬منتهى‭ ‬الشجاعة‭). ‬مهما‭ ‬قلنا‭ ‬فأفضل‭ ‬محفز‭ ‬مفيد‭ ‬هو‭ ‬المرأة‭. ‬لقد‭ ‬عرض‭ ‬هاينريش‭ ‬فون‭ ‬كلايست،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينتحر،‭ ‬على‭ ‬أصدقائه‭ ‬مرات‭ ‬كثيرة‭ ‬أن‭ ‬يرافقوه‭ ‬فى‭ ‬طريق‭ (‬الرجال‭). ‬وكذلك‭ ‬راسين‭ ‬عرض‭ ‬على‭ ‬موليير‭ ‬وبوالو‭ ‬أن‭ ‬يقذفا‭ ‬معه‭ ‬فى‭ ‬نهر‭ ‬السين‭. ‬ولكن‭ ‬لسوء‭ ‬الحظ‭ ‬ليس‭ ‬لدىّ‭ ‬مثل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأصدقاء‭. ‬ولكننى‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أموت‭ ‬مع‭ ‬امرأة‭ ‬أعرفها‭. ‬ولكن‭ ‬بات‭ ‬ذلك‭ ‬أمرًا‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أستشير‭ ‬فيه‭ ‬واحدة‭ ‬منهن‭ ‬من‭ ‬أجلنا‭. ‬وأثناء‭ ‬ذلك‭ ‬تولدت‭ ‬لدىّ‭ ‬ثقة‭ ‬بنفسى‭ ‬أننى‭ ‬أستطيع‭ ‬الموت‭ ‬بدون‭ ‬وجود‭ ‬محفّز‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬بسبب‭ ‬يأسى‭ ‬من‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يموت‭ ‬معى‭. ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬كان‭ ‬السبب‭ ‬أنى‭ ‬من‭ ‬بدأت‭ ‬تدريجيًّا‭ ‬أغدو‭ ‬عاطفيًّا،‭ ‬رغبتُ‭ ‬فى‭ ‬مراعاة‭ ‬مشاعر‭ ‬زوجتى‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كنتُ‭ ‬سأفارقها‭ ‬بالموت‭. ‬وفى‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬انتحار‭ ‬شخص‭ ‬واحد‭ ‬أسهل‭ ‬من‭ ‬انتحار‭ ‬شخصين‭ ‬معًا‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬كذلك‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬يُسهل‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حرية‭ ‬اختيار‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب‭ ‬للانتحار‭.‬

‭ ‬آخر‭ ‬شىء‭ ‬هو‭ ‬كيفية‭ ‬ترتيب‭ ‬الانتحار‭ ‬بمهارة‭ ‬بدون‭ ‬أن‭ ‬تنتبه‭ ‬أسرتى‭ ‬لذلك‭. ‬بعد‭ ‬تجهيزات‭ ‬لعدة‭ ‬أشهر‭ ‬وصلتُ‭ ‬إلى‭ ‬ثقة‭ ‬بالنفس‭ ‬فى‭ ‬أى‭ ‬حال‭. (‬لا‭ ‬يمكننى‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬تفاصيل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يحملون‭ ‬تجاهى‭ ‬مشاعر‭ ‬طيبة‭. ‬وفى‭ ‬الأصل‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كتبتُ‭ ‬التفاصيل‭ ‬هنا‭ ‬فمن‭ ‬المؤكد‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تُشكّل‭ ‬تُهمة‭ ‬المساعدة‭ ‬على‭ ‬الانتحار‭ ‬قانونيًّا‭ ‬‮«‬لا‭ ‬أجد‭ ‬اسم‭ ‬تهمة‭ ‬أكثر‭ ‬إضحاكًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬التهمة‭! ‬تُرى‭ ‬إلى‭ ‬أى‭ ‬مدى‭ ‬سيزيد‭ ‬عدد‭ ‬المجرمين‭ ‬لو‭ ‬طُبق‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬بحذافيره؟‭ ‬الصيدليات،‭ ‬ومحلات‭ ‬بيع‭ ‬الأسلحة،‭ ‬وبائعى‭ ‬أمواس‭ ‬الحلاقة،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬قلنا‭ ‬إنهم‭ ‬لا‭ ‬يعلمون،‭ ‬فكلامنا‭ ‬نحن‭ ‬البشر‭ ‬ومشاعرنا‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تظهر‭ ‬إرادتنا،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتلقى‭ ‬بعض‭ ‬الاتهام‭ ‬قل‭ ‬أو‭ ‬كثر‭. ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬المجتمع‭ ‬والقوانين‭ ‬ذاتها‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬الانتحار‭. ‬وفى‭ ‬النهاية‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬المجرمين‭ ‬لديهم‭ ‬قلوب‭ ‬طيبة‭ ‬بدرجة‭ ‬كبيرة‮»‬‭) ‬انتهيت‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التجهيزات‭ ‬ببرود،‭ ‬وأنا‭ ‬الآن‭ ‬ألهو‭ ‬مع‭ ‬الموت‭ ‬فقط‭. ‬وعلى‭ ‬الأرجح‭ ‬فمشاعرى‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬هى‭ ‬غالبًا‭ ‬نفس‭ ‬مشاعر‭ ‬ماينلندر‭.‬

‭  ‬نحن‭ ‬البشر‭ ‬حيوانات‭ ‬بشرية،‭ ‬ولذا‭ ‬نخاف‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬خوفًا‭ ‬غريزيًا‭ ‬حيوانيًا‭. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يُسمّى‭ ‬بقوة‭ ‬الحياة‭ ‬فى‭ ‬الواقع‭ ‬لا‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬مجرد‭ ‬مرادف‭ ‬للقوة‭ ‬الحيوانية‭. ‬أنا‭ ‬أيضًا‭ ‬إنسان‭ ‬حيوانى‭. ‬ولكن‭ ‬عند‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬مللى‭ ‬من‭ ‬الطعام‭ ‬الأرجح‭ ‬أنى‭ ‬أفقد‭ ‬القوة‭ ‬الحيوانية‭ ‬تدريجيًّا‭. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬أعيش‭ ‬فيه‭ ‬حاليًّا‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬الأعصاب‭ ‬المرضى‭ ‬الشفاف‭ ‬كالثلج‭. ‬فى‭ ‬الليلة‭ ‬الماضية‭ ‬كنتُ‭ ‬أتحدث‭ ‬مع‭ ‬إحدى‭ ‬العاهرات‭ ‬عن‭ ‬أجرتها‭ (!) ‬فشعرتُ‭ ‬حتى‭ ‬النخاع‭ ‬بالشفقة‭ ‬لنا‭ ‬نحن‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬‮«‬نعيش‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬نعيش‮»‬‭. ‬لو‭ ‬استطعنا‭ ‬أن‭ ‬نغرق‭ ‬فى‭ ‬نوم‭ ‬أبدى‭ ‬مذعنين،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬سعادة‭ ‬فلا‭ ‬شك‭ ‬أنه‭ ‬سيكون‭ ‬سلامًا‭. ‬ثمة‭ ‬شك‭ ‬فى‭ ‬متى‭ ‬أستطيع‭ ‬الانتحار‭ ‬بشجاعة‭! ‬ولكن‭ ‬فى‭ ‬حالتى‭ ‬تلك‭ ‬دائمًا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬الطبيعة‭ ‬أكثر‭ ‬جمالًا‭ ‬من‭ ‬المعتاد‭. ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أنك‭ ‬ستضحك‭ ‬على‭ ‬تناقضى‭ ‬لأننى‭ ‬أحب‭ ‬جمال‭ ‬الطبيعة‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬أخطط‭ ‬للانتحار‭. ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬جمال‭ ‬الطبيعة‭ ‬ينعكس‭ ‬فى‭ ‬عيونى‭ ‬عند‭ ‬الاحتضار‭. ‬لقد‭ ‬رأيت‭ ‬وأحببت‭ ‬بل‭ ‬وفهمت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭. ‬وهذا‭ ‬وحده‭ ‬يجعلنى‭ ‬وسط‭ ‬تراكم‭ ‬المعاناة‭ ‬والعذاب‭ ‬راضيًا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭. ‬أرجو‭ ‬منك‭ ‬أن‭ ‬تحتفظ‭ ‬بهذه‭ ‬الرسالة‭ ‬لديك‭ ‬ولا‭ ‬تنشرها‭ ‬لعدة‭ ‬أعوام‭ ‬بعد‭ ‬موتى‭. ‬لأنه‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬يعدم‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬أنتحر‭ ‬وكأننى‭ ‬قد‭ ‬متُ‭ ‬من‭ ‬مرض‭ ‬ما‭.‬

إضافة‭: ‬لقد‭ ‬قرأت‭ ‬سيرة‭ ‬أمبادوقليس‭ ‬وشعرت‭ ‬إلى‭ ‬أى‭ ‬مدى‭ ‬قِدم‭ ‬الرغبة‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬الإنسان‭ ‬إلهًا‭. ‬فى‭ ‬حدود‭ ‬ما‭ ‬أعى‭ ‬فرسالتى‭ ‬هذه‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬رغبتى‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬إلهًا‭. ‬كلا،‭ ‬بل‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬الإنسان‭ ‬العادى‭. ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أنك‭ ‬تتذكر‭ ‬نقاشنا‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬عامًا‭ ‬حول‭ ‬‮«‬أمبادوقليس‭ ‬جبل‭ ‬إتنا‮»‬‭ ‬تحت‭ ‬شجرة‭ ‬الزيزفون؟‭ ‬لقد‭ ‬كنتُ‭ ‬وقتها‭ ‬أحد‭ ‬الذين‭ ‬يرغبون‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬آلهة‭.‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة