كاريكاتير لجمعة
البستان
فاطمة على تكتب : «جمعة فرحات» .. يثير العقل ولا يُخدره بالضحك
السبت، 30 أكتوبر 2021 - 03:55 م
فى فترة حياة الفنان الكبير جمعة فرحات رسام الكاريكاتور الغالب عليه الفكر السياسى القومى العربى قدم الكثير من الرسومات الهامة والـتأريخية لقضية شعب فلسطين التى ضمتها أحد كتبه الهامة «سلام الدم» حافظاً لها وتأريخاً لأحداث معاصرة للقضية بالرسم وليس بالكلمات .. قدم بها شهادته لأحداث عاصرها وعاصرناها وعاصرتها أجيال وساسة عرب وشعوب من العالم تابعوها.. وقد جعل خطوط قلمه الكاريكاتوري رسوماً ناظر منظومة محكمة من الفكرالصهيونى فى كيفية ابتلاع الأرض وسرقة التاريخ ويُفسر فكراً دون كلمات.. وظل «جمعة » الرسام المثقف يدعم ذهن مشاهديه ويمدهم ببعد آخر ومفاهيميه تتواصل بها الثقافات بين الفن والسياسة وكلاهما لغة عالمية حتى لا تبدو رسومه ومادته التى جعلها «للمقاومة» مشهد معزول عن عمل العقل ومتعة التأمل وذلك إضافة للجمالية البصرية للخط وما يرسم.. ثم رحل فى هدوء تاركاً جزءاً من روحه وفكره عاصفاً فوق أوراق الرسم..
وقد شاهدت للراحل الرائع رسم تناظرى بين الأدب وأحداث الواقع رسم أدهشنى ولم يُضحكنى رغم ما يُطلق عليه فن كاريكاتورى .. لأن الراحل جمعة الكاريكاتورى لا يعمل على جذب الابتسامة بل يعمل على أخذك مباشرة إلى مناطق العقل النقدى .. الرسم هو تعبير صارخ وصريح عن الوضع الفلسطينى والسارق الصهيونى .. الرسم مستوحى من رواية «العجوز والبحر» للأديب العالمى «إرنست هيمنجواى» لذلك العجوز الذى خاض البحر ليلة بأكملها للإصطياد وربط صيده الثمين على جانب مركبه البسيط الغير مُهيئ للصيد الضخم.. وفى أثناء عودته جذب صيده قروش البحر يمزقونه ويلتهموه قطعة قطعة.. وكان العجوز يحاربهم بالضرب بمجداف مركبه الخشبى الضعيف وطوال رحلة العودة كان يتناقص جسد سمكته العملاقه حتى لم يبق منها إلا هيكلها العظمى.. فى رسم جمعة هذا المُبكى اللامُضحك .. العجوز هو الزعيم الفلسطينى «ياسر عرفات» .. وقروش البحر الخمسة التى أحاطت مركبه هى للسارق الصهيونى ملتهم الأرض ومُزيف التاريخ .. وقد لخص جمعة من الظاهر ما حدث فوق الأرض الفلسطينية لحكاية العجوز الذى أحاطته الحيتان وأكلت سمكته الغنيمة.. هذا الرسم أرى فيه أن أفكار الأشياء بطريقة ما هى الحقيقة الحقيقية.
جمعه ذهن وقلم مثقف
هذا الرسم المفاهيمى لرسام مثقف لم يكن هدفه ممارسة هذا الفن الخطير للإضحاك بل ليستفز العقل العربى للاستفاقه وليس للضحك .. وأيضاً برسوماته الفلسفية فى عالمنا السياسى الطاحن أضاف مفاهيم كثيرة وأيضاً نقد وتعبير وتفسير واستهجان وربطه بشكل وثيق بجمال الرسم وسهولته وفى نفس الوقت بعمقه كمفهوم وفلسفة وموقف ..
فكان بمجموع رسوماته بالرصد الحديث لتبعيات سرقة الأرض الفلسطينية قدم الصورة الانتقادية الدرامية إلى حد البكاء على النفس.. لتصبح المفارقة بين الواقع وما على السطح الورقى المرسوم أكثر غرابة حين نتطلع لرسوماته حول شخصية السياسى الصهيونى سارق الأرض والتاريخ المنتفخ شراهة دوما وأقرب للروبوت الوحشى.. يضعها تحت الميكروسكوب النفسى رغم أننا جميعا نعيشها فى الواقع وللأسف تعايش معها نسبياً الشعب المسروق.
وهو لم يخجل كعربى من انتقاد الذات بل والسخرية منها عله تحدث استفاقة .. إستفاقة مؤلمة لكن يجب أن تحدث .. ولم تحدث.. لكن جمعة حاول المقاومة بالخط التى كانت تقودنا دوماً مرة أخرى إلى منطقة التواجه الذى لا يقبل أى تفسيرات غير ذاته .. وجهًا لوجه مع واقع وحشى لا يصلح معه الانسحاب إلى الرؤى الداخلية وحسب.. فكان قلمه فى مواجهة ذلك الواقع الوحشى.. وقد واجهه بتحريك قلمه على الورق بشكل سحرى جاذب لعقول متابعيه وقراء الجرائد والمجلات التى عمل بها الصادرة بلغتنا وبلغة العالم .. وأيضاً بمجموعة كتبه الناقدة منسقا أدواته بذكاء بين اليد والعين والذهن لصناعة موقف وليس مجرد كاريكاتور، بل موقف كاريكاتورى لأن الواقع أصلاً كاريكاتورى غير منطقى.
أسلوب ثنائيات وتقابلات الصورة
اعتمد الفنان جمعة على الثنائيات وإحداث المقابلات بينهما داخل الصورة ليُثير العقل ويُظهر المفارقة ويوضح كلا منهما الآخر .. وهذه المفارقة تحقق الهدف دون شرح كلمات.. فرسومه تقدم نفسها كما بدأ واضحاً بليغاً فى كتابه «سلام الدم» الذى يُعد مرجعية بصرية لتاريخ وفعل الفكر الصهيونى فى مقابل ثنائيته أو طرفه الثانى التى لا يفارقه فى الواقع وهو المقاوم الفلسطينى.. كلاهما يؤرخ للآخر بالرسم والقلم الرابيدو الأسود دون ضجيج أو صراخ لون.. فمهما صرخ اللون فإن صراخ الواقع أعنف وأشرس لأن مادته الدماء.. إلا أنه جعل الخط المجرد صارخ فى ذاته.. وهذا التناظر فى الرسم هو صورة للتناظر النفسى المحرك للقلم وللفكرة بين موقفين وضعهما الفنان جمعة أحدهما فى مواجهة الآخر.. فى مواقف تناظرية لا تدعو للضحك كاريكاتورياً بل هى بكائيات تؤرخ لاستمرار اغتصاب فلسطين.
وإلى جانب اهتمام الفنان بالتناظر نجده يتعامل مع بُعدين مباشرين كى يؤكد من وراء رسمه على البعد الرابع الزمنى القائم منذ بدايته على تشويه الحقائق .. متخطياً البعد الثالث لأنه الواقع ونحن نعيشه بالفعل .. ونرى التباين فى رسومات جمعة بين التسطيح ثنائى الأبعاد لسطح الورقة ووهم الحجم ثلاثى الأبعاد التى يعتمد على إقامتها بإعتماد بعض رسوماته على المنظور الذى ظهر فى عدد قليل من لوحاته .. كرسمه الذى يضم نجمة داوود التى يُقام داخلها كمكعبات مجسمة حياة صهيونية ومستوطنات فى القلب بينما ملقاة بعيداً خارج الأطراف خيام لاجئين أصحاب الأرض الفلسطينيين .. كذلك فى رسمه لـ «لعبة الشطرنج».. وأيضاً رسمه بمنظورين لرسمين فى كلاهما تبدأ نجمة داوود من أسفل الورقة ممتدة إلى عمقها حيث قبة الصخرة والمسجد الأقصى وفى إحدهما تخرج «يد تخنق حمامة بيضاء تحلق» .. وفى االثانية «تنتهى برأس ثعبان» بفم مفتوح كى يلتهم المسجد .. وأيضاً تكرر الفم المفتوح لابتلاع كل ما هو أمامه فى رسمين آخرين إحدهما فم لرئيس وزراء صهيون مفتوح عن آخره لالتهام المسجد ويد أخرى داعمة على الجانب المقابل تدفع بالمسجد إلى داخل الفم .. ورسم الفم الآخر ضم فماً ضخماً لمستوطن صهيونى انشق وجهه عن فم ضخم مفتوح وأمامه اثنين من زعماء صهيون يدفعون بالأرض الفلسطينية إلى داخل الفم ليلتهمها بالكامل.. ولنلاحظ أن الأيادى والأفواه هما ما ركز عليهما الفنان جمعة فالأيادى أداة السارق لفعل السرقة.. والأفواه التى ابتلعت كل ما سرق.. ولازالت على ذات الشهية لالتقام كل ما على الأرض.
القاسم المشترك بين السارق والمسروق
العلاقة بين سارق الأرض .. والمسروقة أرضه.. قدمها كثيراً الفنان جمعة صاحب الرأى ووجهة النظر المؤرخ لأجيال لم تشهد ولم تقرأ عما يحدث على الأرض الفلسطينية.. فنجد دائماً فى متناظرات رسمه نجد تلاقى السارق والمسروق وجهاً لوجه كطرفين ربطت مصيرهما معا أرض فلسطين.. لنجد أحدهما يحدق فى الآخر بجرأة ساخراً جشعاً وسعيداً وهو الصهيونى ورغم أنه السارق إلا أنه يحدق بجرأة وثقة.. والآخر إرادته مقيدة رغم أنه صاحب الحق.. وأعتقد أن العنصر المبكى فى تلك المقابلات فى رسوم جمعة أكسبتها غضب عارم وشعبية كبيرة.. حتى أصبحا كالعلامة التجارية لشعبية السارق ووحدة المسروق..
مجموع لوحاته سيزيفية المعاناة
هذه المشاهد العبثية التى رسمها جمعة لقدر توحش وبجاحة السارق بدت من العبث أن أصبح يتقن أدائها الشخصان المتقابلان كالقاتل والمقتول وتكرار فعل القتل اليومى بصور مبتكرة بذلك التواجه اليومى والتكرار الأبدى.. فكل يوم يتكرر نفس فعل الاغتصاب.. تماما ككل يوم على «سيزيف» فى الأسطورة حمل صخرته والصعود بها لأعلى جبل النار الليلى لتهبط من أعلى ليهبط وراءها يلتقطها فوق ظهره ليصعد من جديد إلى لا نهاية.. لا تستقر الصخرة، ولا هو يتوقف عن مقاومة سقوطها .. وهذا ما رأيته واضحاً من سلسلة أعمال جمعة والمواقف التى تجمع صعوداً وهبوطاً نفسياً وفيزيقياً بين الصهيونى والفلسطينى .. ويستمر ممارسة الواقع دون أن يرفض أحدهما القيام بدوره .. فهناك ما يشبه اتفاق وعقد ضمنى للتشارك معا وعدم تنازل أحدهما فى هذا التمرين اليومى من شخصان يمثلان جهتان متمردتان إلى الوقت الحالى.. دون أى عائد أو فائدة إلا بذل الجهد والروح تماماً كإنسان يمشى إلى الأبد.
مجموع رسومات الفنان الراحل الكبير عن الصهيونى والفلسطينى والسرقة والضياع نرى من مجموع أوراقها الزاحفة بخطوطها مدفوعة بقوة دفع من الفعل الصهيونى يقابله بالتناظر رد فعل فلسطينى أو استسلام ضمنى للفعل.. لذلك امتدت هذه الرسومات لتكمل الحلقه بـ«المقاومة» وكثرت الرسومات ولم يتغير ما على الأرض.. لكنها أوراق للتاريخ قد تملأ يوماً ما تبقى من ذاكرتنا البالية أو المغيبة أو التى ملت من كثرة تكرار نفس الأفعال وصدماتها بين صعود وهبوط على التوالى فوق مساحة أرض محدودة من نفس كتيبة الفاعلين.. إنها من أكثر الرسومات استحالة التى بدت لنا كأنها ستستمر فى ديمومة أبدية .. وإن كفت وتوقفت فإن رسومات جمعة تؤرخ بمرارة عن انهزام جمعى داخلى محفوظ داخل التاريخ وداخل كتابه التأريخى «اسلام الدم» الذى برسوماته هو نوع من الكتاب الوجودى الحزين المتشائم فضلاً عن كونه يثير كثير من الأسئلة العميقة للغاية والأكثر عبثاً فى تاريخ البشرية.. بدت للآن رسوماته لصراع الأرض فى تصاعد وانحدار بشكل رهيب .. ولم توصلنا لشىء.. إلى اللا مكان.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة