د. حسين عبد البصير يكتب : استعادة مجد الأقصر القديمة
د. حسين عبد البصير يكتب : استعادة مجد الأقصر القديمة


د. حسين عبد البصير يكتب : استعادة مجد الأقصر القديمة

أخبار الأدب

الأحد، 05 ديسمبر 2021 - 05:17 م

كنت كلما استمعت للأغنية الشهيرة: الأقصر بلدنا بلد سواح. أشعر بحاجز هائل بينى وبين المدينة، ذلك أنها لا تخصني، فهى بلد للسياح، القادمين من بقاع الأرض المختلفة، لا لكى يعمروها، فقط كى يستمتعوا بآثارها الخالدة ومعابدها الشاهقة الفخمة، والتنزه فى شوارعها والجلوس على مقاهيها وأماكن لهوها، وركوب الفلايك فى بحرها، هى لهم، بلدهم، وليست بلدنا، لن أتجاوز إن قلت حتى بدا لى أهلها كذلك، لن يتعاملوا معى، وأنا جارهم القريب ، من أسوان، كمصرى منهم ويشبههم كثيرا، سيتعاملون معى كما السائح الغريب، يزننى فى باله من وزن جيبى فقط، ولن يكرمنى، كرم الجوار وللجيرة سبعة حقوق كما ورد فى الأثر القديم، ذلك الأثر الذى خلدته جدران المعابد التى أشعر وأنا بينها وفى محيط فضائها بغربة أشد.
غربة المعابد، ووادى الملوك تحديدا، كنت أسائل نفسى كثيرا، هل نحن حقا أحفاد من نحتوا هذه الصروح الباهرة الجمال بكل هذه الدقة المعمارية والهندسية وقبل ذلك الجمالية، هل نحن أحفاد صناع هذه الحضارة أم أنهم انقرضوا تماما، كما تذهب بعض المرويات، شايعها الجهل وخذلان الواقع والتردى العام، عين هنا تأخذنى للجلال والإكبار، وأخرى تتردى لسخونة ولهيب الشمس، تزيد من غربتى وتضاعفها، وأطالع الكتب وألهث وراء التدوينات القديمة محاولا إيجاد رابط بينى وبين أجدادى المزعومين أولئك، ذلك كى أحفظ بعض توازنى وأنسب ذاتى لتلك السلالة من بناة الحضارة الأوائل، ليس لأنهم سادوا العالم القديم، ونحن الآن كما ترى، لكن هذا النهر العظيم فى كل مرة كان يطمئننى ويردنى لصوابي، وكأنما أستمع لحابى فى تجليه الحار وهو يهدر واهبا الحضارة للناس عبر تفاعلهم معا.
كانت الطمأنة تأتينى فى ذلك الحس الشعبى الدافق الذى مُرر ببراعة وعبقرية فريدة، حتى وإن وصمها البعض بالتحايل على سنوات الاحتلال الطويلة، منذ لحظة سقوط الدولة الفرعونية الحديثة، وقال البعض انكفاء المصريين على تراثهم عقب زوال دولتهم ومجدهم وحضارتهم، أيا ما كان الأمر، كنت أجد فى ذلك النسغ الخافت فى وضوحه، الهادر فى تجليه، ذلك العون والمدد، بأننا أحفاد عظام الفراعين مهما جار الزمان وتقلبت الأيام والأحوال، ما بين تجليات العنخ إلى دورة الفصول الزراعية للحكم والأمثال العميقة فى تطبيقاتها اليومية، لدورة الحياة وزفة المولد واحتفالات القديسين والأولياء، تلك المواكب التى لم تبتعد كثيرا عن مواكب آلهة مصر المحليين فى أقاليمهم، حتى رأيت مراكب أبى الحجاج ودورتها وطوافها حول المعبد وتفاعلات البشر والمراكب والنيل والأهازيج والمدائح والأذكار وسعار النشاط الدنيوى حتى تأكدت تماما من ذلك الرابط الذى يحاول الكثير طمسه والتنصل منه، وكأن الفراعنة سبة أو لعنة يجب تجاوزها ووصمها بأحط الصفات يكفى فقط أن تتأمل تجليات لفظة: مساخيط. حتى تدرك مدى الاستهانة والتقليل والتنكر الفاضح؛ رغم ذلك كله كنت أنتظر لحظة التجلى، القيامة الجديدة لهذا الكامن.
على الجانب الأخر كنت أرى بعينى وأستمع لتلك الكشوف الأثرية التى تجرى، خاصة فى طريق الكباش، رغم الاتهامات والتقليل منها، غير أنى كنت أراها بداية لطريق طويل، فقط علينا أن نخطو الخطوات الأولى، بعدها ستتابع الخطوات وتتوالى، وقد كان حتى بدا إن حلما قديما أخذا فى التبلور، حتى إذا انتشرت أخبار عن الاحتفال بافتتاح الطريق، وربط ما كان مربوطا ومتصلا فى قديم أيامنا على هذه الأرض، هنا ما بين أكبر تجلى للعمارة الفرعونية فى أوج لحظات عزها وانتصاراتها التى عمت المعمورة فى ذلك الزمان، كأنما الرابط، الطريق، ليس بين معبدين عظيمين، لكنه رابط بين زمنين: زمن الأجداد وزمن الأحفاد، بين عصرين، بين لحظتين، إعادة التأكيد على تلك الروح السارية، ودحضا لمقولة الانقطاع التى ترددها كثير من الطنطنات الفارغة الجوفاء.
كنت أقول فى نفسى إن احتفالا كهذا يجب أن يكون أسطوريا، يوازى تماما ويكافئ أرض الأساطير المقام فوقها، يعادل أسطورة العظمة ويربطنا بها برابط لا ينفصم، وكل تخوفاتى ألا يكون الأحفاد على نفس القدر من الدقة والأسطورية التى كان يرفل فيها أجدادهم، إن حدثا كهذا يجب أن يكون مدويا يبهر العالم الحديث، كما أبهرت مصر عالمها القديم، هذا الإبهار ليس معتمدا على ما هو قديم، آثار ومعابد وغيرها، لكن بقدرتها الحديثة والحداثية، فى رحاب أعظم صروح العبادة والفن والجمال القديم، كيان واحد، يتخلق بعضه من بعض، كأنما هو قيامة جديدة ودلالة على قدرة المصريين المحدثين، أن يكونوا مثل أجداهم الأوائل، ليسوا أقل وغير منفصلين عنهم أيضا.
وكان اليوم المشهود، المرتقب، يوم البرهان على تلك القدرة والرباط والدماء والجينات التى لن يطالها الزمن مهما تقلبت أحواله، مشوبا بالفخر والعزة والإجلال بقيت أتشرب الاحتفال لحظة بلحظة وأنا أرى الجمال متعانقا ما بين زمنين وحضارتين تسعى كل منهما لإبراز جمال اللحظة الراهنة ومدها بذلك الشعور بالفرح الغامر والإحساس القوى بالقدرة على الفعل واستعادة ما كان قائما بالفعل، يكفى فقط أن تشاهد مثلا موكب المراكب الإلهية فى الخروج المهيب لعيد الأوبت، وتعيد فى ذاكرتك الحديثة مواكب أبى الحجاج المقام بين رحاب المعبد، مواكبه ومراكبه والنيل القريب، حتى تصل لقدس أقداسها، أقصد محراب المسجد وقبلته، المنحوت فى قلب أحد أعمدة المعبد، هذا التجلى والرابط الذى صنعه الأحفاد فى إشارة واضحة لذلك الامتداد والنسيج الواحد.
كثيرة هى لحظات الفرح والإبهار التى بدأت بالاحتفال وفى ظنى أنها لن تنتهي، فقط تحتاج للعمل عليها ومدها وتمديدها، كأما الحلم القديم بإعادة اللغة الهيروغلفية أصبحا قريبا وأن توضع ضمن مناهج التعليم، كلغة أساسية، حتى يتم كسر الحاجز تماما بيننا وبين أجدادنا وتستطيع الأجيال الجديدة التواصل معهم بكل الفخر، والبناء على ما تم من إنجاز أبهر العالم جميعا، فقط هى التى ستعيد لنا تلك المدينة العظيمة، ولا تصبح فقط بلدا للسياح، لكنها بلدنا فى الأساس، إنها الأقصر.

 

فى حفل أسطورى امتزجت فيه الموسيقى بالغناء بالاستعراض وإلإبهار بكل وسائل العرض الحديثة،ولا يقل فخامة عن الاحتفال بعيد الأوبت فى مصر القديمة، حضر الرئيس عبد الفتاح السيسى والسيدة قرينته وكبار شخصيات الدولة المصرية وضيوف مصر الكرام احتفال البلاد بإعادة طريق الكباش للزوار وتجديد ذكرى عيد الأوبت مما جعل كل عيون العالم تتجه إلى مدينة الأقصر العالمية التى عادت من جديد كمدينة السياحة الأولى فى العالم.


فما قصة طريق الكباش؟
وما قصة عيد الأوبت المقدس فى مصر القديمة؟
لقد قدس المصريون القدماء الروح الكامنة فى الحيوانات، وليس الحيوانات نفسها. فنرى أنهم نظروا إلى  الكبش نظرة قداسة وتقدير وإجلال؛ إذ كان فى نظرهم رمزًا للخصوبة والفحولة والقدرة على التناسل والإنجاب والنماء؛ لذا كانت للكباش أهمية كبرى فى مصر القديمة. 


وتم تصوير الكباش كحيوانات مقدسة منذ عصور ما قبل التاريخ، ثم على صلايات صحن الكحل فى عصر ما قبل الأسرات، وعلى الأوانى الفخارية من تلك الفترة، ثم تم تشكيل بعض التمائم على شكل الكباش منذ ذلك الحين وفى فترات عديدة لاحقة.


لقد أدرك المصريون القدماء الصفات الفائقة للكباش، والتى تجسدت فى قدرتها الكبيرة على الخصوبة والتناسل؛فآمنوا فى قدرة الكباش علىإعادة الخلق والبعث، ومن ثم الخلود. واتخذ بعض المعبودات المصرية القديمةشكل الكباش مثل كبش مدينة «منديس»، عاصمة الأسرة التاسعة والعشرين فى دلتا النيل، وهو الكبش المعروف باسم «با نب جدت»، وكبش «جدو»، أو «أبوصير» فى الدلتا، الذيكانإلهًا للعالم الآخر حين تم ارتباطه برب الموتى والعالم الآخر الإله الشهير«أوزيريس» الذى عرف بلقبه «سيد جدو». 

 


وأيضًا جسد المصريون القدماء المعبود الأساسى فى مدينة إهناسيا، فى بنى سويف، «حرى شا إف» أو «الكائن فوق بحيرته» على شكل كبش.بينما اتخذ إلههم الأشهر، الإله خنوم، رب منطقة إلفنتين، بالقرب من مدينة أسوان،هيئة الكبش أيضًا،واعتبروها إله له المسؤول عن خلق البشر على عجلته،أو عجلة الفخراني،من جنوب مصر، وكذلك ردوا إليه القدرة العلية على تفجير منابع نهر النيل من الجنوب إلى الشمال ومن الشمال إلى الجنوب.واتخذ رب الدولة الحديثة الرئيس، الإله آمون، أو الإله آمون رع، شكل الكبش أيضًا.ونسبوا إليه «طريق الكباش».  
وطريق الكباش، أو طريق «أبو الهول» بمعنى أصح، هو طريق كان يربط بين معابد الكرنك فى الشمال ومعبد الأقصر فى الجنوب، وكان يمتد بطول حوالى 2700 متر. وكانت تحف به تماثيل «أبو الهول» فى معابد الكرنك على شكل «أبو الهول» برأس كبش، والكبش هو رمز الإلهآمون رع المقدس.وأطلق المصرى القديم على هذا الطريق اسم «وات نثر»،بمعنى «طريق الإله». وعُرف فى معابد الكرنك باسم «تا ـ ميت ـ رهنت». وتعنى «طريق الأسود» أيضًا. وكان يوجد حوالى 1200 تمثال على جانبى الطريق. 
و«عيد الأوبت» هو احتفال مصرى قديم كان يُقام سنويًا فى طيبة (الأقصر) فى عصر الدولة الحديثة وما بعدها. وكان فيه يتم نقل تماثيل آلهة ثالوث طيبة المكون من الإله آمون والإلهة موت وابنهما الإله خونسو داخل مراكبهم المقدسة فى موكب احتفالى كبير، من معبد آمون فى الكرنك، إلى معبد الأقصر، فى رحلة تمتد إلى حوالى 2700 متر. وكان يتم التأكيد فى ذلك الاحتفال على لقاء الإله آمون رع رب معابد الكرنك مع الإله آمون رب معبد الأقصر، وتجديد الولادة، وكان الموضوع الأساسى فى ذلك الاحتفال، وكذلك إعادة تتويج الملك وتجديد شرعيته لحكم البلاد.

 


وجاءت كلمة الأوبت من التعبير «حب نفر إن أوبت» فى اللغة المصرية القديمة. ويعنى «العيد الجميل الخاص بالأوبت». وكان يتضمن ذلك الاحتفال أيضًا اللقاء السنوى والزواج المقدس بين الإله آمون رع وزوجته الإلهة موت. وكان يتم نقل تمثال الإله آمون رع من قدس الأقداس فى معبده فى معابد الكرنك ووضعه فى زورقه المقدس. وكانت تُحمل الزوارق المقدسة الخاصة بالرب آمون رع وزوجته الربة موت وابنه الرب خونسو على أكتاف الكهنة. وكانت الرحلة تبدأ بالزوارق المقدسة وسط مجموعة من العازفين والموسيقيين والزمارين ومجموعة من الجنود على العربات الحربية متجهين إلى معبد الأقصر على ترانيم تمجد الإله آمون رع وتعلى من شأنه وتدعوه إلى إسباغ فضله وحمايته ورعايته على ملك البلاد. وكان يبحر قارب ملكى مع قوارب الآلهة المقدسة. وكانت الطقوس فى «غرفة الملك الإلهى» تعيد الاحتفال بتتويج الملك، وبالتالى تأكيد أحقيته بمُلك البلاد.

 


وفى نهاية الاحتفالات فى معبد الأقصر، كانت تعود المراكب المقدسة مرة أخرى إلى معابد الكرنك. وفى الاحتفالات المتأخرة من تاريخ مصر القديمة، كان يتم نقل التماثيل من وإلى معابد الكرنك ومعبد الأقصر عن طريق القوارب فى النهر، وليس عن الطريق البرى. 

 


وتعد احتفالية افتتاح طريق الكباش احتفالية عالمية بكل المقاييس تليق بمصر العظيمة ومكانتها الخالدة لدى الجميع فى جميع أنحاء العالم، ولا تقل إبهارًا عن احتفالية نقل المومياوات الملكية، فى ظل احتفال مصر بالعيد القومى لمحافظة الأقصر الغالية، وفى ضوء اهتمام رأس الدولة المصرية الرئيس عبد الفتاح السيسى والحكومة المصريةككل بمدينة الأقصر العالمية، وفى الذكرى التاسعة والتسعين لاكتشاف مقبرة الفرعون الذهبى الملك توت عنخ آمون. 
مصر هى التى علمت وأبهرت العالم دومًا وأبدًا.

 

أقرا ايضا | رقم قياسي.. «معبد الكرنك» يشهد زيارة 3900 سائح اليوم

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة