ليلة‭ ‬واحدة‭ ‬حمّلناها‭ ‬معانى‭ ‬حياتنا‭:‬ كيف‭ ‬نفهم‭ ‬رأس‭ ‬السنة؟
ليلة‭ ‬واحدة‭ ‬حمّلناها‭ ‬معانى‭ ‬حياتنا‭:‬ كيف‭ ‬نفهم‭ ‬رأس‭ ‬السنة؟


ليلة‭ ‬واحدة‭ ‬حمّلناها‭ ‬معاني‭ ‬حياتنا‭..‬ كيف‭ ‬نفهم‭ ‬رأس‭ ‬السنة؟

أخبار الأدب

السبت، 25 ديسمبر 2021 - 03:42 م

كتب : نائل‭ ‬الطوخى
يا‭ ‬ترى‭ ‬اللى‭ ‬بيعيش‭ ‬الزمن‭ ‬إحنا،‭ ‬ولا‭ ‬الزمن‭ ‬هو‭ ‬اللى‭ ‬بيعيشنا؟‭ ‬
سؤال‭ ‬كتبه‭ ‬الشاعر‭ ‬سيد‭ ‬حجاب،‭ ‬وقد‭ ‬عجزت‭ ‬طويلًا‭ ‬عن‭ ‬فهم‭ ‬معناه،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬قررت‭ ‬اعتباره‭ ‬عن‭ ‬قياس‭ ‬الزمن،‭ ‬كيف‭ ‬رأى‭ ‬البشر،‭ ‬فى‭ ‬التقويم‭ ‬الذى‭ ‬كانوا‭ ‬هم‭ ‬أنفسهم‭ ‬من‭ ‬اخترعوه،‭ ‬علامات‭ ‬إلهية‭ ‬يتفاءلون‭ ‬بها‭ ‬ويتشاءمون؟

فى‭ ‬عام‭ ‬1999‭ ‬بدا‭ ‬لنا‭ ‬1‭ ‬يناير‭ ‬2000‭ ‬تاريخًا‭ ‬هائلًا،‭ ‬ستتغيَّر‭ ‬معه‭ ‬بنية‭ ‬العالم‭ ‬نفسها،‭ ‬وفى‭ ‬رأس‭ ‬السنة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬أصغر،‭ ‬تراودنا‭ ‬نفس‭ ‬المشاعر؛‭ ‬نسبغ‭ ‬الدراما‭ ‬على‭ ‬دقائق‭ ‬كانت‭ ‬لتفقد‭ ‬معناها‭ ‬لو‭ ‬أننا‭ ‬نعتمد‭ ‬تقويمًا‭ ‬آخر،‭ ‬نحتفل‭ ‬بنهم،‭ ‬ونسمح‭ ‬لأنفسنا‭ ‬فى‭ ‬احتفالنا‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬نسمح‭ ‬به‭ ‬فى‭ ‬غيره،‭ ‬حتى‭ ‬تتحوّل‭ ‬الليلة‭ ‬إلى‭ ‬مسرح‭ ‬مفضل‭ ‬للسينما‭ ‬والأدب؛‭ ‬جرائم‭ ‬قتل‭ ‬غامضة،‭ ‬رحلة‭ ‬البطل‭ ‬أو‭ ‬البطلة‭ ‬لاكتشاف‭ ‬العالم،‭ ‬تفاوت‭ ‬طبقى‭ ‬يتجلّى‭ ‬كأوضح‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الساعات‭.‬
كيف‭ ‬ترى‭ ‬رأس‭ ‬السنة؟‭ ‬


وجّهنا‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬لكتّاب‭ ‬وشعراء‭ ‬وسينمائيين،‭ ‬فلم‭ ‬يعجز‭ ‬أحدهم‭ ‬عن‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬كلام‭ ‬لوصف‭ ‬الليلة‭ ‬السحرية‭ ‬وعلاقته‭ ‬بها،‭ ‬لم‭ ‬يفلت‭ ‬من‭ ‬أحدهم‭ ‬مثلًا‭ ‬تعبير‭ ‬‮«‬أهى‭ ‬ليلة‭ ‬زى‭ ‬أى‭ ‬ليلة”،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت،‭ ‬فعليًا،‭ ‬مثل‭ ‬أى‭ ‬ليلة،‭ ‬حتى‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬احتفال،‭ ‬ولا‭ ‬قبلات،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬المرء‭ ‬جالسًا‭ ‬وقتها‭ ‬فى‭ ‬الصالة‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬الشرفة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬بسطة‭ ‬السلم،‭ ‬ولكن‭ ‬سيظل‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬فيها‭ ‬مشحونًا‭ ‬بمعان‭ ‬أكبر‭ ‬مما‭ ‬لو‭ ‬حدث‭ ‬فى‭ ‬أى‭ ‬ليلة‭ ‬أخرى‭.‬

عينان‭ ‬ستظلان‭ ‬حمراوتين‭ ‬للأبد‭ ‬
تنتمى‭ ‬الروائية‭ ‬أسماء‭ ‬الشيخ‭ ‬لبيت‭ ‬لا‭ ‬يبالى‭ ‬بالطقوس،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الاحتفال‭ ‬بعيد‭ ‬الفطر‭ ‬أو‭ ‬الأضحى،‭ ‬وبالتالى‭ ‬فالاحتفال‭ ‬برأس‭ ‬السنة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لأهلها‭ ‬هو‭ ‬نكتة،‭ ‬وأقصى‭ ‬احتفال‭ ‬بالليلة‭ ‬فى‭ ‬حياتها‭ ‬كان‭ ‬فى‭ ‬بداية‭ ‬معرفتها‭ ‬بزوجها،‭ ‬إذ‭ ‬تناولا‭ ‬العشاء‭ ‬ساعتها‭ ‬فى‭ ‬مطعم‭ ‬“شى‭ ‬جابي”،‭ ‬أما‭ ‬بعد‭  ‬الزواج‭ ‬فستستوحى‭ ‬من‭ ‬حماتها‭ ‬عادة‭ ‬المكوث‭ ‬فى‭ ‬البلكونة‭ ‬بصحبة‭ ‬حبات‭ ‬اليوسفى‭ ‬والفول‭ ‬السوداني،‭ ‬التى‭ ‬ستصبح‭ ‬التسلية‭ ‬المعتمدة‭ ‬لليلة،‭ ‬فتتحول،‭ ‬بحسب‭ ‬تفسيرها،‭ ‬ليلة‭ ‬رأس‭ ‬السنة‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬نعيشه‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬نزوره‭ ‬مطلّين‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الشرفة‭.‬
فى‭ ‬الليلة‭ ‬التى‭ ‬تصفها‭ ‬بـ«أفضل‭ ‬رأس‭ ‬سنة‭ ‬قضتها‭ ‬فى‭ ‬حياتها‮»‬،‭ ‬قرّر‭ ‬أبوها،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬مضض،‭ ‬أن‭ ‬يحقّق‭ ‬لها‭ ‬حلمها‭ ‬بالاحتفال،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬النزول‭ ‬والتمشية‭ ‬فى‭ ‬شوارع‭ ‬الإسكندرية‭ ‬قبل‭ ‬منتصف‭ ‬الليل‭. ‬


لا‭ ‬تعرف‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬فى‭ ‬المدينة‭ ‬الساحلية‭ ‬يحدث‭ ‬فى‭ ‬غيرها‭ ‬أم‭ ‬لا،‭ ‬ولكن‭ ‬السماء‭ ‬تمتلئ‭ ‬بالألعاب‭ ‬النارية،‭ ‬يأخذ‭ ‬الأهالى‭ ‬فى‭ ‬رمى‭ ‬الزجاجات‭ ‬القديمة‭ ‬من‭ ‬الشبابيك،‭ ‬ويشعل‭ ‬بعضهم‭ ‬سلك‭ ‬تنظيف‭ ‬المواعين‭ ‬لتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬حبال‭ ‬من‭ ‬النور‭. ‬


تمشّى‭ ‬معها‭ ‬الأب‭ ‬متوترًا‭ ‬وخائفًا‭ ‬من‭ ‬سقوط‭ ‬الزجاج‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬أو‭ ‬رأسها،‭ ‬وهو‭ ‬عمومًا،‭ ‬كما‭ ‬تقول،‭ ‬لا‭ ‬يحسن‭ ‬الكلام‭ ‬إلا‭ ‬وهو‭ ‬يمشي،‭ ‬فكان‭ ‬لديه‭ ‬بالتالى‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬عن‭ ‬زواجها‭ ‬الوشيك،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬آثار‭ ‬الليلة‭ ‬حاضرة‭ ‬فى‭ ‬عينه‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭: ‬


«مش‭ ‬فاكرة‭ ‬إيه‭ ‬اللى‭ ‬اتقال،‭ ‬بس‭ ‬الدنيا‭ ‬مابطّلتش‭ ‬شتا،‭ ‬ولا‭ ‬احنا‭ ‬بطّلنا‭ ‬مشيْ‭ ‬وضحك،‭ ‬وبابا‭ ‬أخد‭ ‬دور‭ ‬برد‭ ‬شديد،‭ ‬وبسبب‭ ‬أقراص‭ ‬الريفو‭ ‬اللى‭ ‬كنت‭ ‬بخلّيه‭ ‬ياخدها،‭ ‬كنوع‭ ‬من‭ ‬الوقاية‭ ‬من‭ ‬أمراض‭ ‬القلب،‭ ‬أصيب‭ ‬بنزيف‭ ‬فى‭ ‬عينه‭ ‬فضل‭ ‬ملازمه‭ ‬لشهرين،‭ ‬وحضر‭ ‬حفل‭ ‬زفافى‭ ‬بعين‭ ‬حمرا،‭ ‬اتوثّقت‭ ‬فى‭ ‬فيديوهات‭  ‬فرحي،‭ ‬عشان‭ ‬تفكّرنى‭ ‬بالذكرى‭ ‬الأهم‭ ‬فى‭ ‬علاقتى‭ ‬بأبويا؛‭ ‬مشى‭ ‬ومراوغات‭ ‬هدفها‭ ‬تجنّب‭ ‬التعبير‭ ‬المباشر‭ ‬عن‭ ‬المشاعر»‭.‬

ليلة‭ ‬الضغط‭ ‬الاجتماعي

مثل‭ ‬أعياد‭ ‬الميلاد،‭ ‬أحيانًا‭ ‬ما‭ ‬تشكّل‭ ‬ليلة‭ ‬رأس‭ ‬السنة‭ ‬مؤشرًا‭ ‬للتقدم‭ ‬فى‭ ‬العمر،‭ ‬بكل‭ ‬المرارة‭ ‬الكامنة‭ ‬فى‭ ‬هذا‭.‬


يبدأ‭ ‬الكاتب‭ ‬إيهاب‭ ‬عبد‭ ‬الحميد‭ ‬بتعريفها‭ ‬بكونها ‭‬‮«‬إحدى‭ ‬أبرز‭ ‬ليالى‭ ‬الضغط‭ ‬الاجتماعي»‮‬‭: ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬مكتئبًا،‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬مزاج‭ ‬غير‭ ‬احتفالي،‭ ‬ولكنك‭ ‬مضطر‭ ‬إلى‭ ‬الاحتفال،‭ ‬فقط‭ ‬لأن‭ ‬الآخرين‭ ‬يحتفلون،‭ ‬لأنك‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬يفوتك‭ ‬شيء ‭‬‮«‬مما‭ ‬سيحدث‭ ‬ليلتها‮»‬،‭ ‬المرح‭ ‬والمشاريع‭ ‬والغراميات،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أى‭ ‬شيء،‭ ‬غالبًا،‭ ‬سيحدث‭ ‬ليلتها‭. ‬


‮«‬أحيانا‭ ‬تفكّر‭ ‬أنك‭ ‬ستصبح‭ ‬أسعد‭ ‬لو‭ ‬أُلغيت‭ ‬رأس‭ ‬السنة‭ ‬هذه‭ ‬السنة،‭ ‬ولو‭ ‬جلس‭ ‬الجميع‭ ‬فى‭ ‬بيوتهم‭ ‬دون‭ ‬احتفال،‭ ‬أما‭ ‬أن‭ ‬يحتفل‭ ‬الجميع‭ ‬وتظل‭ ‬وحدك‭ ‬فهو‭ ‬أمر‭ ‬مزعج،‭ ‬مثلما‭ ‬تتقبل‭ ‬فكرة‭ ‬نهاية‭ ‬العالم‭ ‬وموت‭ ‬الجميع،‭ ‬ولكن‭ ‬يخيفك‭ ‬ألا‭ ‬ينتهى‭ ‬سوى‭ ‬عالمك‭ ‬أنت‭ ‬وحسب‮»‬‭.‬


زمان،‭ ‬أوائل‭ ‬الألفية،‭ ‬أيام‭ ‬الشباب‭ ‬وكثرة‭ ‬الأصحاب‭ ‬كما‭ ‬يقول،‭ ‬كان‭ ‬يختار‭ ‬بين‭ ‬ثلاث‭ ‬أو‭ ‬أربع‭ ‬حفلات‭ ‬لرأس‭ ‬السنة،‭ ‬لا‭ ‬يعرف،‭ ‬ولا‭ ‬سبيل‭ ‬لأن‭ ‬يعرف،‭ ‬أيهما‭ ‬ستكون‭ ‬الأجمل،‭ ‬لأن‭ ‬ازدحام‭ ‬الحفل‭ ‬والضيوف‭ ‬غير‭ ‬المتوقعين‭ ‬يصعّب‭ ‬التنبؤ‭. ‬كان‭ ‬البعض‭ ‬يشتّتون‭ ‬أنفسهم‭ ‬بالتنقل‭ ‬من‭ ‬حفل إلى‭ ‬آخر،‭ ‬أما‭ ‬هو‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬المغادرة‭ ‬فى‭ ‬المنتصف،‭ ‬فكان‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬يلتزم‭ ‬بمكان‭ ‬واحد‭. ‬


أما الآن، ومع التقدم في السن، تضيق الدوائر الاجتماعية بدلاً من اتساعها، وتتحوّل «الشلة الكبيرة»، المكونة من عشرات الأفراد، إلى «شبه شلة» من عدة أفراد، وبالتالى لا يعود لليلة نفس المذاق السابق؛ فقط كل ما يريده هو أن “يخلّص” ويحتفل فى أى مكان، الآن مثلًا، يختتم ببساطة مريعة، تفشل كل محاولاته لتذكر أين قضى رأس السنة الماضية.

تضفيرة‭ ‬من‭ ‬الشجن‭ ‬والبهجة
ارتبطت‭ ‬ليلة‭ ‬رأس‭ ‬السنة‭ ‬لدى‭ ‬الشاعرة‭ ‬مروة‭ ‬أبو‭ ‬ضيف‭ ‬دائمًا‭ ‬بمزاج‭ ‬حزين‭ ‬لديها،‭ ‬ربما‭ ‬بسبب‭ ‬انطوائيتها‭ ‬وصعوبة‭ ‬اندماجها،‭ ‬رغم‭ ‬رغبتها‭ ‬أحيانًا،‭ ‬فى‭ ‬الحفلات‭ ‬والمناسبات،‭ ‬وربما‭ ‬لمجيئها‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬محافظة،‭ ‬وبالتالى‭ ‬عدم‭ ‬إمكانية‭ ‬حضورها‭ ‬أصلًا‭ ‬أى‭ ‬عد‭ ‬تنازلى‭ ‬لبداية‭ ‬السنة‭ ‬الجديدة،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬حضور‭ ‬الحفلات،‭ ‬بقبلات‭ ‬بداية‭ ‬العام‭ ‬المُتبادلة‭ ‬فيها‭.‬
بجانب‭ ‬الحزن،‭ ‬هناك‭ ‬ذكريات‭ ‬لليلة‭ ‬كذلك،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬فى‭ ‬أيام‭ ‬الدراسة،‭ ‬مع‭ ‬الحفلات‭ ‬والأفلام‭ ‬الجديدة‭ ‬التى‭ ‬دأب‭ ‬التليفزيون‭ ‬على‭ ‬عرضها،‭ ‬تذكر‭ ‬منها‭ ‬حفلًا‭ ‬للشاب‭ ‬خالد‭ ‬غنّى‭ ‬فيه ‭‬‮«‬الشابة‮»‬‭‬ و«دى‭ ‬دي‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬تذكر‭ ‬فيلم ‭ ‬‮«‬أرض‭ ‬الأحلام‮» ‬‭‬لداود‭ ‬عبد‭ ‬السيد،‭ ‬ويدور‭ ‬حول‭ ‬نرجس‭ ‬–‭ ‬فاتن‭ ‬حمامة‭ ‬–‭ ‬التى‭ ‬تفقد‭ ‬جواز‭ ‬سفرها‭ ‬فى‭ ‬ليلة‭ ‬رأس‭ ‬السنة،‭ ‬تنزل‭ ‬الشوارع‭ ‬للبحث‭ ‬عنه،‭ ‬لتكتشف‭ ‬جنون‭ ‬العالم،‭ ‬كما‭ ‬تكتشف‭ ‬–‭ ‬وبالتوازي‭- ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬نفسها‭. ‬


تومض‭ ‬فى‭ ‬رأس‭ ‬مروة‭ ‬ذكريات‭ ‬عن‭ ‬ادّخار‭ ‬المال‭ ‬وشراء‭ ‬الشوكولاتة‭ ‬والسهر‭ ‬حتى‭ ‬منتصف‭ ‬الليل،‭ ‬هى‭ ‬وإخوتها،‭ ‬وهم‭ ‬يقاومون‭ ‬النوم،‭ ‬يعدّون‭ ‬الدقائق‭ ‬المتبقية‭ ‬حتى‭ ‬سماع‭  ‬أجراس‭ ‬الكنيسة‭ ‬المعلنة‭ ‬عن‭ ‬نهاية‭ ‬سنة‭ ‬وبداية‭ ‬أخرى‭.‬


تهوّن‭ ‬هذه‭ ‬الذكريات‭ ‬من‭ ‬الأسى،‭ ‬ورغم‭ ‬مرور‭ ‬السنين،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬رأس‭ ‬السنة‭ ‬مرتبطة‭ ‬لديها‭ ‬بهذه‭ ‬المشاعر‭ ‬المختلطة،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قط‭ ‬دافعًا‭ ‬لها‭ ‬لمحاسبة‭ ‬عام‭ ‬مضى‭ ‬أو‭ ‬انتظار‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬جديد،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بالتقويم‭ ‬أصلًا،‭ ‬وإنما‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬تلك‭ ‬التضفيرة‭ ‬العجيبة‭ ‬من‭ ‬الشجن‭ ‬المشوب‭ ‬بالبهجة‭. ‬

الإمساك‭ ‬بالسنة‭ ‬من‭ ‬طرفيها
إذا‭ ‬كان‭ ‬اعتماد‭ ‬التقويم‭ ‬الميلادى‭ ‬فى‭ ‬أغلب‭ ‬ثقافات‭ ‬العالم،‭ ‬قد‭ ‬جرى‭ ‬اعتباطًا‭ ‬وبمصادفات‭ ‬متشابكة،‭ ‬فإن‭ ‬الصدفة‭ ‬تتضاعف‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬الشاعرة‭ ‬جيهان‭ ‬عمر،‭ ‬المولودة‭ ‬فى‭ ‬31‭ ‬ديسمبر‭ ‬بالتحديد،‭ ‬ومع‭ ‬تضاعف‭ ‬الصدفة‭ ‬يتضاعف‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬معناها‭.‬


تقول‭ ‬جيهان‭ ‬مثلًا‭ ‬إن‭ ‬شيئًا‭ ‬غامضًا‭ ‬فى‭ ‬موعد‭ ‬الولادة‭ ‬بقى‭ ‬غير‭ ‬مفسر‭ ‬بالنسبة‭ ‬لها،‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬أمها‭ ‬هى‭ ‬من‭ ‬انتظرت‭ ‬لتلدها‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬العام،‭ ‬كأنما‭ ‬تنهى‭ ‬مهمة‭ ‬عاجلة،‭ ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬هى‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬بكّرت‭ ‬عدة‭ ‬ساعات‭ ‬لتأتى‭ ‬قبل‭ ‬نثر‭ ‬الورود‭ ‬وتكسُّر‭ ‬الأطباق‭ ‬وتسارع‭ ‬القبلات‭.‬


فى‭ ‬كل‭ ‬الأحوال،‭ ‬فرحت‭ ‬الأم‭ ‬بمولد‭ ‬ابنتها‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬العام،‭ ‬أما‭ ‬الأب‭ ‬فقد‭ ‬سجّلها‭ ‬فى‭ ‬بداية‭ ‬العام‭ ‬التالي،‭ ‬1‭ ‬يناير،‭ ‬بفاصل‭ ‬ساعات‭ ‬عن‭ ‬التاريخ‭ ‬الحقيقي. ‬ ربما‭ ‬خاف‭ ‬الأب‭ ‬المتفائل‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬نهاية‭ ‬العام‭ ‬لتدوين‭ ‬اسمها،‭ ‬«جيهان»‭ ‬والذى‭ ‬يعنى ‭‬‮«‬العالم‮»‬‭‬ بالفارسية،‭ ‬وعلى‭ ‬العالم‭ ‬الجديد،‭ ‬هكذا‭ ‬تقول،‭ ‬أن‭ ‬يولد‭ ‬فى‭ ‬البداية‭ ‬لا‭ ‬النهاية‭. ‬


“تحتفلين‭ ‬بيوم‭ ‬ميلادك‭ ‬ويحتفل‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬معك‮»‬،‭ ‬هكذا‭ ‬كتبت‭ ‬لها‭ ‬أختها‭ ‬مرة‭ ‬تهنئة‭ ‬بعيد‭ ‬ميلادها،‭ ‬ولم‭ ‬تفهم‭ ‬الجملة،‭ ‬وظنتها‭ ‬مبالغة‭ ‬من‭ ‬أختها‭ ‬القاصّة،‭ ‬إذ‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬المعقول‭ ‬أن‭ ‬يحتفل‭ ‬العالم‭ ‬بأمر‭ ‬لا‭ ‬يخص‭ ‬سواها،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬سألت‭ ‬أمها‭ ‬عن‭ ‬المعنى،‭ ‬لتجيبها‭ ‬هذه‭ ‬أن ‭ ‬31‭ ‬ديسمبر‭ ‬يحمل‭ ‬تفردًا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬إذ‭ ‬هو‭ ‬عينه‭ ‬ليلة‭ ‬رأس‭ ‬السنة،‭ ‬ولكن‭ ‬الشرح‭ ‬لم‭ ‬يعجبها؛‭ ‬نهاية‭ ‬الأيام،‭ ‬قبل‭ ‬البداية‭ ‬بقليل،‭ ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬المنزلق؟‭ ‬


تشعر‭ ‬جيهان‭ ‬إذن‭ ‬وكأنها‭ ‬تقع‭ ‬بين‭ ‬عالمين،‭ ‬كأن‭ ‬شيئًا‭ ‬ينتهى‭ ‬والآخر‭ ‬يبدأ،‭ ‬ودقيقة‭ ‬فقط‭ ‬هى‭ ‬ما‭ ‬تفصل‭ ‬الاثنين‭ ‬عن‭ ‬بعض‭.‬ تداوم‭ ‬على‭ ‬الاحتفال‭ ‬مرتين‭ ‬بعيد‭ ‬ميلادها؛‭ ‬تحضر‭ ‬لها‭ ‬أمها‭ ‬الهدايا‭ ‬والكعك‭ ‬فى‭ ‬31‭ ‬ديسمبر،‭ ‬أما‭ ‬هى‭ ‬نفسها،‭ ‬ولأنها‭ ‬تصدّق‭ ‬أباها،‭ ‬فستحتفل‭ ‬مع‭ ‬أصدقائها‭ ‬فى‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬متباهية‭ ‬بتاريخ‭ ‬1‭ ‬يناير،‭ ‬يوم‭ ‬ميلادها‭ ‬الرسمى،‭ ‬والذى‭ ‬سيتيح‭ ‬لها‭ ‬التفكير‭ ‬فى‭ ‬العام‭ ‬الجديد‭ ‬كأنه‭ ‬توأم‭ ‬لها،‭ ‬أخوها‭ ‬الذى‭ ‬يبلغ‭ ‬نفس‭ ‬عمرها؛‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬له‭ ‬فى‭ ‬الحياة‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬لها‭. ‬
‮  ‬
ماذا تعني السينما
رغم تمحور قصته حول رأس السنة، فقد اختار المخرج تامر السعيد حكيها لي انطلاقًا من أوائل ديسمبر عام 1996، وكان لا يزال وقتها طالبًا بمعهد السينما، يصوّر فيلمًا لمشروع التخرج، وقّدّر له أن يصوّر مشهدًا منه بالطابق الثاني بأحد شقق الزمالك. وقف بجانب الشباك مصوبًا كاميراه باتجاه الشارع ليجد امراة بملامح غير واضحة، تربط شعرها بشال كبير مرتدية نظارة شمس وطبقات كثيرة من الملابس، تلوّح بيدها للعدسة مازحة هاتفة فيه بين الحين والآخر: بتصوّرني أنا؟


كانت صديقته وقتها ريم ماجد، التي ستصير مذيعة لاحقًا، تمثّل معه في الفيلم، فطلب منها النزول للمرأة لإقناعها بالخروج من الكادر، فنزلت إليها فعلًا ليفاجأ تامر أنها بقيت بالأسفل تتجاذب معها أطراف الحديث، فأرسل مساعديه، الواحد تلو الآخر، فتكرّر الأمر، الفريق ينفض من حوله ويتجمّع حول المرأة بالأسفل، والمغرب موشك على الحلول، بما يعني احتمال تعطّل التصوير، فنزل على السلالم في عصبية، خرج من مدخل العمارة ليرى المرأة تعطيه ظهرها فيما كل فريقه مواجهًا له يكلّمها، وما إن أحست بخطواته الغاضبة حتى التفت له وسألته: حضرتك المخرج؟ ثم سحبت الشال من على شعرها وقالت: وأنا سعاد حسنى.


تلجلج المخرج تحت وقع المفاجأة، تحول في ثوان إلى معجب لا يجد ما يقوله سوى «يا مدام سعاد أنا بحبك أوي أوي»، يحكى ضاحكًا. 


كانت تسكن في العمارة المجاورة بشارع يحيى إبراهيم، العمارة التي يمكننا الآن أن نقرأ عليها لافتة «هنا عاشت سعاد حسني».

 


عرض عليها تامر الجلوس معهم بالأعلى، ولكنها رفضت بسبب ميعاد الطبيب، رأوها تمشي، وكل ثلاث خطوات تلتفت وتلوح لهم ضاحكة، حتى وصلت سيارتها وأدارتها لثوان قبل أن توقفها وتخرج منها: باقول لك إيه! مش مهم الدكتور النهاردة.


جلست معهم بالأعلى يومها فعلًا، وكانت لديها قدرة عجيبة، كما يقول، على إشعار كل شخص منا أنها جاءت له خصيصًا، تتابع الحركة الثقافية بشكل مذهل، تطلب منهم ترشيحات لروايات جيدة وتتكلم عن إبراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم، ويذكر أنها تكلّمت يومها أيضًا عن قسوة السينما، عن حتمية الاستسلام لها والسيطرة على اليأس الذي ينتابنا جراءها، مناقشات كثيرة انتهت بأن سألته قبل مغادرتها إن كان يعرف زوجها السابق المخرج علي بدرخان، ولما أجابها بأنه يدرّس له في المعهد قالت: قل له سعاد بتسلّم عليك.


لم يكن هذا الموقف، على ثرائه، سوى مقدمة لليلة رأس السنة التي حلت بعد أقل من شهر، ويحكي عنها تامر: 


•أنا وريم في حفلة ما، زهقنا شوية فقرّرنا نخرج بعربيتها، واحنا بنتمشّى ريم اقترحت عليّ نعدّي على سعاد حسني في بيتها، اتحمّست للفكرة وريم اشترت لها قرنفل أحمر، طلعنا الدور الآخراني اللي ساكنة فيه، خبّطنا على الباب ففتحتْ لنا ورحّبت بينا، أخدت الورد من ريم وسألتها إزاي عرفت إنها بتحبه، وهنفضل متصوّرين دي مجاملة منها لغاية ما تتوفى في 2001، ونقابل أختها اللي هتحكي لنا فعلًا عن غرامها بالقرنفل الأحمر.


اعتذرت لهما يومها بلباقة عن عدم قدرتها على استضافتهما بالداخل بسبب الفوضى في البيت، ولكنها جلبت كراسي من السفرة، ونصبتها في بسطة السلم حيث جلس ثلاثتهم، وكان التليفزيون يذيع فيلم «صغيرة على الحب»، لم يروه ولكن سمعوا حواراته من الخارج، وتقوم فيه سعاد حسني بشخصيتين، طفلة صغيرة وأختها الأكبر.
إن كان الجميع يجدون في رأس السنة معاني متعلّقة بحياتهم، فقد وجد تامر لحظتها «معنى السينما» نفسها:


• لو سألتني لغاية دلوقتي عن تعريف السينما بالنسبة لي أرد عليك إنها اللحظة دي، اتنين سينمائيين شباب قاعدين مع ثلاث نسخ من سعاد حسني، اتنين على الشاشة سامعين صوتهم، وواحدة حقيقية قاعدة بالترننج سوت قصادهم على بسطة السلم.

 

 

أقرا ايضا | صفقات نجيب محفوظ .. أهم ترند ثقافى لعام 2021

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة