الأديب الكبير الراحل يحيى حقى
الأديب الكبير الراحل يحيى حقى


يحيى حقى.. أُنشودة الصِدْق والإبداع

د.أمانى فؤاد تكتب عن «عريس» معرض الكتاب

الأخبار

الأحد، 23 يناير 2022 - 06:32 م

على مشارف انطلاق النسخة الثالثة والخمسين لمعرض القاهرة الدولى للكتاب أهدتنا الأديبة المتميزة والناقدة القديرة د.أمانى فؤاد هذه الإطلالة الشاملة على عالم الأديب الكبير الراحل يحيى حقى صاحب القنديل الذى سار على ضوئه آلاف المبدعين، وقد تشرف المعرض باختياره كشخصية لدورته الجديدة أو «عريس» فى هذا العرس الثقافى الذى ننتظره من العام إلى العام.

 

 

 

 

حين انطلق «يحيى حقى» وآخرون يكتبون نصوصهم فى أوائل القرن العشرين ومنتصفه، كان الاتجاه السائـد فى الكتابة أقرب ما يكون إلى نهْج السرد «الواقعى النقدى»، الذى تجسَّد فى أغلب نصوص توفيق الحكيم ومحمد تيمور وطه حسين ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وآخرين، هذا الجيل الذى انشـغـل باستكشاف ورصــد الملامح الجديدة لمجتمع يعيش تـحولات ثقافية على أصعدة متعددة: سياسية واجتماعية وفكرية، بُـنيـوية وقـِيَـمـيّــة؛ نتيجة للاستعمار وردود الفعل التحرريــة المتطلعة إلى الاستقلال، حيث استهدفت الكتابة-بآمال طموحة-تحديثَ الوعى الاجتماعى والثقافى للجموع، ولقد تفاعل الخطاب الروائى والقصصى، فى معظمـه، مع المـُـتـخـيـَّـل الوطنى، وأسئلـة التطور الاجتماعى، ضمن سياق تختـلط فيه موروثات الماضى، التى تفتـقر إلى الأسس المـُستوعـبة والحاضـنة لتحديث المجتمع، ومن هنا اضطلع السرد-لدى يحيى حقى-بدوْر المــرآة الشفافة العاكسة لـمرحلة الانتقال، والمُـحتوية على أسئلة تحمل قَلَقَ المصرى المتطلِّع إلى تحقيق ذاته، وإســماع صوته، وإبراز خصوصيته، والتطلع للغرب أيضًا، واستكشاف علومه وفنونه، وإبراز نوعٍ من التواصل والتأثر دون الذوبان فى ثقافاته، واضطلع السرد أيضا بكيفية الخروج من عادات وتقاليد واعتقادات دينية تُوْقِع الفرد فى مجموعة من المشكلات الجوهرية، وهو ما جسَّده الأديب يحيى حقى فى بديعته: «قنديل أم هاشم» بشكل إنسانى يتضمن الصراع المركَّب، الذى وقَع فيه بطل العمل الدَّارس للطِّب فى ألمانيا، الثائر على كل الممارسات الرجعية غير العلمية فى مجتمعه، لقد حطَّم القناديل بزيوتها، التى يعتقدون أنها تشفى العيون، فانفصلوا عنه، وعانَى العزلة، وافتقر إلى التواصل مع ذويه، لذا عاوَد التفكير فى كيفية الجمع بين العِلم ومعتقدات الناس الروحية دون صِدام، وفى بنية روايته-التى تلجأ إلى تقنية الرمز- «صح النوم»، التى كتبها بعد ثورة يوليو 1952، يحكى عن دخول القطار فى إحدى القرى المصرية، وكيف تحولت الأوضاع فى القرية، وفيها يقارن الروائى بين عهدين فى تاريخ مصر الحديث، ويُبرِز كيف أن الوطن كيان ممتَدٌ لا يمكن فصله عن تاريخه، أو بتْر أجزاء منه، وأنَّ للتحديث احتياجات كثيرة أهمها ترقية وعى القاعدة العريضة من الشعب وثقافتهم، تمـيزت روايات وقصص يحيى حقى بالصوت ذى النغمة المتفردة، التى تحتضــن صدى القلق الكامن فى أعماق الفرد، الذى يواجِه أسئلة النهضة والحداثة، ويختبر العلاقة بالتراث بمجالاته، يختبر معطيات الواقع وهل يمكن لتحولاته السياسية والاقتصادية أن تحقِّق المأمول لوطن ينهض؟، ويعدّ يحيى حقى أبرز من اقتحموا عالم الرمز بقنديل أم هاشم (1944) وصَحّ النوم، لم يكن اهتمامه الأساسى منحصـِـًرا فى حَكْى الواقع المتفـجِّـر، وصَــوْغـه فى نصوص تجسِّد بعض قضايا المجتمع، وإنما تخطَّى ذلك إلى مستوى صياغة أسئلة تـمـسُّ مجال الموروث من القِيَم والدين والعادات، تمس التحولات السياسية، ومقارنة الحياة فى المجتمع الشرقى بالحياة الغربية، وهو مــا مـهَّـد الطريق لمحاولة معرفة الآخَر، وتجسيد بعض نماذجه، كما استولد أسئلة تتجدَّد عن واقع الحياة،وفى مطلع سبعينيات القرن العشرين، كان السياق السياسى الاجتماعى يـمور بإمارات انكسار الحلم، وتحــوُّل الثورة إلى أنظمة لا تختلف كثيرًا عن الأنظمة الأوتوقراطية الموروثة، وأحسب أن اعتزال يحيى حقى الكتابة فى منتصف السبعينيات-رغم صحته الجيدة وحيوية تفكيره ويقظة ذاكرته-يعود إلى هذا. فعندما سُئل عن سبب توقُّفه، أجاب قائلا: «أنا ضيِّقُ الصدر بكل القصص التى تعالِج مساوئ العهد القديم، أريد قصة تصوِّر فلاحًا تسلَّم خمسة فدادين من الإصلاح الزراعى، وتأثير ذلك عليه، وكيف حَمَلَ المسئولية، وكيف تغيَّرت حياته؟
الأدب والبحث عن خَلاصُ الروح
وُلِد يحيى حقى فى السابع عشر من يناير عام 1905م، لأُسرة من أصول تركية تعشق القراءة، ونشأ وتلقَّى تعليمه فى حَيٍّ شعبي. يَرِدُ فى مذكراته تأثُّره بالأدب الروسى أكثر من تأثُّره بالأدبَين الإنجليزى والفرنسى، ويبرِّر هذا التأثر بأن كل شخص فى الأدب الروسى تقريبًا مشغول بقضية كبرى، هى قضية خلاص الروح، ولذا رَاقَه اشتباكهم الصادق مع الحياة، تنوع إنتاجه فى أربع مجموعات، وروايتين ويوميات (خَلِّيها على الله) فى جزءين، والدراسات النقدية والتاريخية، والترجمة والأحاديث الأدبية، ومقدمات الأعمال الأدبية، فهو الروائى والقاص والناقد وصاحب المقال الأدبى.
نغمةٌ متفردة
بَرَع حقى فى اختيار الكلمة والعبارة بما يلائم الطقس الخاص بالنصوص وطبيعة الشخصيات، وغلَّب اللغة الفصحى، حيث أكَّد أن الأدب الحقيقى، الذى يجدر بالبقاء، هو الذى يُكتَب بالفصحى، وهو ما يتوافق مع اختيار نجيب محفوظ فى الكتابة أيضًا، ويَرِدُ فى سرده-قليلا-بعض ألفاظ اللهجة الدَّارجة، فى محاولة لنَقْل حيوية الواقع، لكن يظَلُّ حرصه على الفصحى أولوية واختيار، وتتميَّز أساليب سَرْدِه، حيث القدرة على تجسيد أفكاره فى صراعات يجسِّدها شخوص يحرص الكاتب على إبراز بنيتهم النفسية والاجتماعية، وتأمُّلها، ورصْد نتائجها، ويلجأ إلى الدعابة والسخرية فى خِفَّة ظِلٍّ واضحة، كما أجاد فى استخدام الرمز فى مرحلة نُضجه السردى، كما اعتمد على البساطة فى التعبير وتكثيف الحكى، امتلك القدرة على استبطان المشاعر والخلجات التى التقطها من تجارب الحياة والبيئات المختلفة، التى عاش بها وأدرك عاداتها، وهو ما ظَهَر جليًّا فى «البوسطجى»، يقول: «فى كل شخصية جزء مِنِّى، ولكنِّى لم أصوِّر نفْسى كاملًا فى شخصية واحدة»
ويَصِفُ مراحل كتابته قائلا: «بدأت كأى كاتب ناشئ أصف الأشياء، ثم أُسجِّل المفارقات، ثم بدأت مرحلة أخرى هى الاهتمام بعالَم النفْس، وكيف أفهم معنى الطمع ومعنى الانحرافات، وكيف تعمل أرواحنا والمؤثرات فيها، ثم استقر عندى الاتجاه فى حدود القصة القصيرة. ويخيّل إليَّ أن الاهتمام بعالَم النفْس هو أخصب مادة للقصة، وبمعنى أدق الانتباه لمفارقات الحياة»، فى «البوسطجى» و»قنديل أم هاشم» و»صَحّ النوم» و»دماء وطين» و»أم العواجيز» والكثير من نصوصه البديعة-التى عكست رؤى ومذهب الكاتب فى الفن-نلحظ روحًا نقيَّة وصادقة تنعكس على أسلوب ممتِع يشِفُّ بالخير والجمال، وينطلق من عاطفة الحب والأمل والتفاؤل، كاتب خَبَرَ الحياة بالأحياء الشعبية فى القاهرة أو الريف أو الصعيد؛ ولذا تدفقت كتاباته فى لغة متميزة فى إيقاعها وتراكيبها، متوهجة بالمشاعر والأحاسيس، متدفقة بالحركة، نابضة بالحياة، ذات قدرة فائقة على الإيحاء والتجسيد، والتأثير فى المتلقِّي.
أثر «حقى» فى القصة القصيرة
جدَّد يحيى حقى فى كتابة القصص القصيرة، فى الموضوعات والأساليب، وقدَّم دراسات تكشف سماتٍ نابعةً من تاريخ الفن القصصى عند العرب، خصائص تساعد على تطوُّره ومواكبته للعصر. كما ساعد «حقى» الأدباء الجدد على القبض على تقنيات الكتابة القصصية، واكتشاف العناصر الجمالية المواكبة لمعطيات الواقع المتجدِّد بإسهاماته النقدية فى القصة القصيرة. ودَعَا إلى تخليص الكتابة السردية من الزخارف والقيود، التى كبَّلت حرية المبدع فى إطلاق موهبته، وأفلح فى تخليص فن القصة من لغة المقامة، كما فى حديث عيسى بن هشام للمويلحى، ومن اللغة الخطابية والاتجاهات الوعظية، كما فى النظرات والعَبَرَات للمنفلوطى. وجسَّد حياة الطبقة الوسطى والفلاحين، وقارن بين الحياة الريفية والحياة المدنية، كما ينعكس فى قصصه ومعالجته لعادات وتقاليد الطبقة الوسطى، عالج أيضا موضوعات المرأة بجرأة وتعاطُف، فسعى إلى عرْض مشكلاتها المعيشية والزوجية والنفسية، واقتراح حلول لبعض معاناتها، واستحوذت الشخصيات النسائية على مكانة بارزة فى فن «حقى» القصصى، لكونها علامة على المجتمع وإيقاع تحولاته الحضارية، منذ سنوات سألت الأستاذ يوسف القعيد عن أكثر الأدباء الكبار الذين تعامل معهم وتأثر بهم؟ أجاب مباشرة قائلا: يحيى حقى أكثر من أحببت، فقد كان إنسانًا صادقًا ونقيًّا ومبدعًا كبيرًا»، ولقد ظلَّت الأجيال التالية-من مبدعى السرد-ينهلون من فنِّه؛ لريادته ووعيه بأصول الكتابة منذ وقت مبكر، كما يقول فتحى سلامة: «إننى أذكر قولته المشهورة فى إحدى الندوات، عندما قال أستاذنا يحيى حقى، منذ تناوَلتُ القَلَمَ فى سِنٍّ باكرة، وأنا ممتلئ ثورة على الأساليب الزخرفية، متحمس أشد التحمس لاصطناع أسلوب جديد، أسميه الأسلوب العلمى، الذى يهيم أشد الهيام بالدقة والعمق. وقد أرضى أن تُغفَل جميع قصصى، ولكن سيحزننى أشد الحزن ألَّا يُلتفت لهذه الدعوة».

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة