عَادِل الغَنَّام يكتب : الرابعة فجرًا
عَادِل الغَنَّام يكتب : الرابعة فجرًا


عَادِل الغَنَّام يكتب : الرابعة فجرًا

أخبار الأدب

السبت، 05 مارس 2022 - 06:09 م

لم تفلح أى من محاولاتى السابقة لمواصلة اليقظة طوال الليل، دائما ما غلبنى النعاس قبيل الرابعة فجرًا، ولا أفيق إلا مع رنين الهاتف الذى أعمل عليه فى مركز خدمة العملاء.

العجيب أنه بعد تلك الغفوة كنت أسترد كامل نشاطى، وكثيرًا ما واصلت وردية الليل بأخرى فى الصباح، خاصة فى الأعياد، حيث تزداد متطلبات ولد وبنت وبيت أعولهم وحدى بعد انفصالى عن زوجى منذ ثلاث سنوات.

أما هذه الأيام فلا مجال للغفوة، أتثبت باليقظة كتثبتى بالحياة، قالت لنا كبيرة الممرضات: «النوم يساوى الموت، إذا غلبكن النوم، ستسقط أجهزة التنفس من أفواهكن، ولن تفلحن فى استعادتها مرة أخرى. نحن لا نعلم متى ستتغلب مناعتكن على الفيروس اللعين، طاقم التمريض لا يدخل الغرفة إلا فى أوقات تقديم الأدوية.

ولا توجد فى الأسِرة أجهزة نداء، وحتى إن وجدت هذه الأجهزة، فالزمن الذى يستغرقه الطبيب المشرف لارتداء الزى الواقى والدخول للغرفة، أطول من الزمن الذى تحتمله الرئتان للحياة دون هواء».


بحرص شديد، انتزعت دبوسين من شعرى؛ ثبّتُّ الأول فى السوار المطاطى الملفوف حول معصم يدى اليسرى، والمسجل به اسمى وعمرى، وجعلت الذيل الحاد للدبوس مقابلًا لكفى، لعله يتكفل بوخزى وإيقاظى إن انزلقت يدى من أثر النوم، ثم أطبقت بيمينى على الدبوس الآخر، كى أستعين به لمقاومة ذاك الزائر الغريب! لا أعرف كيف يتسلل لغرفة العناية المركزة من بين الأطباء والممرضات.

وبدون أن يرتدى الكمامة أو بدلة الوقاية. فى اليوم الأول لإقامتى فى هذه الغرفة، ظننته طيفًا يظهر لى وحدى من أثر هلوسات الحمى التى تُرجف جسدى، غير أن ما أصاب الحاجة سماح؛ السيدة العجوز التى ترقد فى السرير المجاور لى، جعلنى أتيقن من وجوده. قبل الرابعة فجرًا بعشرين دقيقة، اقتحم الغرفة فى صمت، توقف عند رأس الحاجة سماح، جذب من فمها خرطوم التنفس، ألقى به على الأرض، نظرت العجوز إليه فى رجاء، لم تتحرك خلجاته، أمسكتْ رقبتها براحتيها فى محاولة لجذب نفس من الهواء إلى فمها دون جدوى. الرابعة تمامًا يظهر طاقم التمريض، يشد انتباههم وجه الحاجة سماح الأزرق المختنق، ولسانها الجاف المشدود خارج فمها، يتأكدون بالفحص السريع مفارقتها للحياة، يسدلون غطاءها فوق وجهها ثم يسحبونها إلى خارج الغرفة.


اليوم الثانى، وفى ذات الوقت القاتل، حيث تخور القوى، ويجد الفيروس فرصته لغرس مخالبه فى الأجساد المثخنة بالألم، دخل نفس الرجل الغريب. مر من أمامى، يبست أطرافى من الرعب، تجاوزنى للسرير الأخير الذى ترقد به «راوية»، امرأة تكبرنى بعام أو عامين، نَزَعَ عنها خرطوم الهواء، وتركها تصارع الاختناق حتى جمدت عيناها. بكيتُ كما لم أبكِ من قبل، وددت لو أقفز من سريرى وأعيد جهاز التنفس لفم المسكينة، لكن هذا قد يكلفنى حياتى أنا الأخرى.


اليوم هو الثالث لى فى قسم العناية المركزة، وكل ما أحصل عليه من نوم لا يتجاوز ساعات قليلة، أغتنمها فيما بين الثانية عشرة ظهرًا والخامسة عصرًا، حين يتطوع أحد الأطباء الشباب مخاطرًا بسنوات عمره القليلة، لرفقتنا وملاحظتنا عن كثب. ينتصف الليل، تمر الدقائق متثاقلة مخيفة، أقبض بيدى اليمنى على دبوس الشعر متحفزة للزائر الذى لم يعد غريبًا. هل جاء دورى الليلة؟ أيسير الموت مع ترتيب الوفود للمستشفى أم مع العمر؟ أم أن لذاك الرجل منطقًا آخر؟ الثالثة صباحًا، عيناى لا تفارقان الباب، أمسى صدرى هشًا كلوح من زجاج، يتهشم مع حركتى الشهيق والزفير، وتتناثر شظاياه فتوخز رئتاى بألم لا يحتمل.

خمس عشرون دقيقة قبل الرابعة، تقلصات بالمعدة تعزز رغبتى فى التقيؤ، والنوم دواء قاتل. مرت لحظات لم أعرف كيف غفوت فيها. فتحتُ عينى فرأيته أمامى وأنبوب الهواء بيده. كيف غافلنى وأفشل كل حيلى البائسة؟ حاولت بكل جهدى أن أدفع بدبوس الشعر فى كفه أو ذراعه. تفاجأ من مقاومتى فألقى بالأنبوب على الأرض ورحل من غير أن ينظر خلفه.

حاولتُ النهوض، خذلنى جسدى، لوحت بيدى أمام وجهى فى محاولة لشد انتباه شخص ما، عيناى تحدقان فى الساعة الكبيرة المعلقة على الجدار، خمس دقائق قبل الرابعة، أتحتمل رئتاى كل ذاك الوقت؟ يجف حلقى، أسعل بوهن فى محاولة لجلب بعض الأنفاس لصدرى، يتنقل بصرى بين الساعة وباب الغرفة الخشبى المتين، هل تحرك الباب قليلًا؟ أذاك اسمى الذى يصرخون عليه؟ هل من الممكن أن يدخل فرد من طاقم التمريض إلى قسم العناية المركزة قبل موعده المحدد فى الرابعة فجرًا بدقيقتين، ليمنح الروح فرصة للبقاء فى جسد امرأة ثلاثينية، تعمل فى مركز للاتصالات، وترعى ولدًا وبنتًا وبيتًا، بعد أن انفصل عنها زوجها منذ ثلاثة أعوام؟ 

اقرأ ايضا | لم تفلح أى من محاولاتى السابقة لمواصلة اليقظة طوال الليل

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة