لواء دكتور ســـيد غنـيم
لواء دكتور ســـيد غنـيم


"قلم ووطن"

"مفاهيم مغلوطة"

بوابة أخبار اليوم

السبت، 09 أبريل 2022 - 11:50 م

تلاحظ في الآونة الأخيرة تردد مصطلحات غير دقيقة على أنها مصطلحات عسكرية لها دلالات تكتيكية على الأرض، مثل (إلهاء القوات) وبطء تقدم القوات المتعمد، كما تلاحظ توضيح بعض المحللين أهمية قيام بعض القوات المحاربة باستخدام الدبابات في النسق الأول التكتيكي في الدفاع كقاعدة مسلم بها، وغيرها من أمور.

العجيب ما لاحظته، أن بعض الخبراء يرون أن القيادة العامة الروسية لم تغير الهدف الاستراتيجي السياسي العسكري للعملية وهو على حد إعلانهم "إحكام الاستيلاء على إقليم دونباس وتحريره من النازيين الجدد الأوكرانيين"، وأن القوات الروسية في العمق كانت قادرة على احتلال "كييف و"خاركيف" شمالاً و"ميكولايف" و"أوديسا" جنوباً، لكنها لم تسعى لتحقيق ذلك، والسبب أن خطط قتالها على هذه المدن استهدفت (إلهاء) القوات الأوكرانية المدافعة عنها عن الهدف الرئيسي لتحرير إقليم دونباس.

في البداية ليس هناك ما يسمى "إلهاء قوات العدو" في المصطلحات العسكرية وليس له مكان في استخدام القوات على الأرض بالصورة التي يعبر عنه هذا المسمى. ولكن هناك مصطلح عسكرى يشير لمعنى أكثر تحديداً وهو "إشغال قوات العدو" ومصطلح "تشتيت جهود قوات العدو" وأيضا مصطلح "خداع العدو". وبالنسبة لمصطلحي "إشغال القوات العدو على محور معين للتركيز على محور آخر، فهو في العادة يتم على نسق واحد أو على عدة أنساق متتالية، والهدف هنا إشغال العدو المدافع على اتجاه الهجوم الخداعي للقوات المهاجمة (وعادة ما يكون بقوات صغيرة للغاية تصل لتسع قوة الهجوم الرئيسي) وبما يعاون أو يخدم تحقيق مهمة القوات على اتجاه الهجوم الرئيسي (والتي تتشكل من أكبر حجم ممكن القوات) لضرورة تحقيق معدل عالى من التقدم والاختراق وإحداث أكبر خسائر ممكنة في العدو. وهذا لم يحدث بالمرة، فلقد ركزت القوات الروسية هجومها الرئيسي بحجم كبير من القوات على محور العاصمة "كييف" في العمق بهدف اسقاطها والاستيلاء عليها وإعلان سقوط حكم الرئيس الأوكراني فولاديمير زلينسكي، التي يُدعى أنه بهدف إشغال القوات التي تحميها. الأمر الثاني أن مهمة إشغال قوات العدو على محور ما أيً كان إلا بتحقيق قوات اتجاه المجهود الرئيسي في دونباس مهامها تماماً، وإلا ما الفائدة من إشغال القوات في العمق؟ وهو ما لم يحدث. والنتيجة من كل ذلك، أنه بدل من أن إشغال القوات الأوكرانية في العمق وتشنين جهودها، تشتت جهود القوات الروسية المهاجمة ولم تحقق مهامها المخططة أيً كانت خلال أكثر من شهر قتال.

أما بالنسبة لمفهوم (خداع القوات)، أتذكر ما أعلنه ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين بعد مرور شهر على العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانية قائلاً: "الجيش الروسي سيتجه شرقا ويترك كييف وشأنها وذلك لخلق حالة من الثقة مع الحكومة الأوكرانية". وفي نفس السياق، وإن كان بشكل مختلف، أعلن وزير الدفاع سيرجي شويغو أثناء عرض تقرير العمليات الشهري للعملية قائلاً: "لقد حققت القوات الروسية في العملية العسكرية الخاصة في دونباس المرحلة الأولى من مهمتها. حيث تم تقليص الإمكانات القتالية للقوات المسلحة الأوكرانية بشكل كبير، مما يسمح لنا بتركيز اهتمامنا وجهودنا الرئيسية على تحقيق الهدف الرئيسي وهو تحرير إقليم دونباس. وستواصل القوات المسلحة الروسية العملية العسكرية الخاصة حتى تتحقق الأهداف المحددة"... وهو ما بتناقد ما أو ماُعلن في بداية القتال أن مهمة المرحلة الأولى تحرير إقليم دونباس وليس تقويض قواته.

وهنا سؤال يطرح نفسه، كيف يقوم جيش يحضر لعملية هجومية بـ (خداع) جيش معادي عن هدف استراتيجي قد تم إعلانه بواسطة الجيش المهاجم نفسه؟ خداع العدو المدافع يكون بتشتيت جهوده وإيهامه باتجاهات مغايرة لاتجاه الهجوم الرئيسي الحقيقي (الضربة الرئيسية/ اتجاه المجهود الرئيس) والذي لم يعلنه المهاجم بنفسه.

والخداع الاستراتيجي في العملية الاستراتيجية الهجومية له عدة صور، ومعظمها لم ينفذ في مسرح العمليات الأوكراني كالاتي:

  1. خداع في توقيت الهجوم، أي أن يتم اختيار الهجوم في توقيت مستحيل أو يصعب أن يتوقعه العدو وحلفاءه، وأن تكون كافة الدلائل السياسية والعسكرية لا تشير لذلك، وهو ما لم يحدث حيث، أن أوكرانيا والناتو أعلنوا مراراً وتكراراً أن روسيا على وشك الهجوم بهذا الحجم من القوات وبهذا التشكيل.
  2. خداع في اتجاه الهجوم، بأن يكون اتجاه الهجوم المخطط مخالف لما يتوقعه العدو، وهو ما لم يحدث حيث أن القوات المدافعة كانت جاهزة بالتخطيط للدفاع على كافة المحاور الهامة وهو ما واجهته روسيا خاصةً على محور كييف، وهو عكس ما أعلنته روسيا بأنها لن تحارب في البداية ثم بأن تركيزها سيكون على إقليم دونباس فقط، والدليل نجاح القوات الأوكرانية في اسقاطة ثلاث طائرات إبرار جوي تحمل ثلاث وحدات فرعية من وحدات المظلات الروسية كان من المخطط أن يتم إبرارها في محيط العاصمة كييف، وذلك في يوم 26 فبراير أي اليوم الثالث عمليات.
  3. خداع في التسليح (أي استخدام أسلحة غير معلومة أو غير متوقعة من جانب العدو) وهو ما لم يحدث، إلا مرة واحدة باستخدام القنبلة الـ "فرط صوتية" بعد حوالي ثلاث أسابيع من القتال، كأول مؤشر نوعي لتغيير الاستراتيجية الروسية في القتال.
  4. خداع في تنظيم وتشكيل القوات وفي إسلوب استخدامها (نوعية وحدات أو قوات جديدة - استخدام غير نمطي للقوات شديد الفاعلية)، وهو ما لم يحدث، حيث استخدمت القوات الروسية تشكيلات ووحدات برية نمطية التنظيم وتشكيل القتال والاستخدام لدرجة صدمت جميع الخبراء المتخصصين حول العالم.

الحقيقة هي أن روسيا بالفعل كان قرارها المُعلن هو الاستيلاء على إقليم دونباس وتحريره ممن اسمتهم بـ "النازيين الجدد" وتدمير كافة أسلحتهم وتأمين الجمهورتين المُعلن انفصالهما من جانب واحد بالإقليم. وخصصت حجم قوات مناسب للعملية وهو حوالي 140 - 150 ألف مقاتل روسي في مواجهة ما يقرب من 50 ألف مقاتل أوكراني (بنسبة هجوم (3 : 1)، وهي نسبة سليمة تحقق الأهداف التفوق المطلوب وأكثر، وبما يحقق الأهداف المرجوة بسرعة وكفاءة، حالة عدم تشبس القوات الأوكرانية بالأرض واستخدام القوات الروسية بشكل جيد، وذلك كله في إطار تنفيذ عملية محدودة. إلا أن القوات الروسية تصورت أن الأمور أبسط من ذلك وأنها بتلك القوات يمكنها مهاجمة العاصمة الأوكرانية ومدن أخرى في العمق رغم أن حجم القوات المسلحة الأوكرانية العاملة، والتي تدافع عن تلك المناطق تتجاوز الـ 500 ألف مقاتل وأكثر، يعتبرون أنفسهم أنهم يدافعون عن أرضهم ومفدرات بلادهم أمام جيش معتدي. فكانت النتيجة معارك شرسة وصد وتدمير للقوات الروسية المهاجمة وإحداث خسائر كبيرة بها، مع استهداف أرتال الإمدادات اللوجيستية الروسية واستهداف مراكز القيادة والسيطرة وبعض كبار القادة والعديد من الضباط الأصاغر.

الأمر الذي اضطر القيادة العامة الروسية لإعلان اتخاذ قرار التركيز على إقليم دونباس كهدف رئيسي مُعلن مسبقاً على أمل الانتهاء من اسقاط مدينة ماريوبول تماماً وإحكام السيطرة على بحر أزوف واستكمال الامتداد جنوباً، وذلك بعد أن تكبدت القوات الروسية خسائر في الأرواح ما بين قتلى وجرحى وأسرى وفارين من ميادين القتال أمام الهجمات المضادة الأوكرانية واستمرار تدفق الأسلحة التي يقدمها الغرب دون توقف. حيث في تقرير العمليات الشهري لرئاسة الأركان الروسية بعد انتهاء اليوم الثلاثين عمليات تم إعلان حوالي 1350 آلاف قتيل و3500 جريح روسي ولم تذكر عدد الأسرى والفارين من القتال.

من جانب آخر، أسوأ استخدام للدبابات أن تحتل المواقع الدفاعية الأمامية في النسق الأول التكتيكي عند التحول للدفاع، حيث تختزل قدرات الدبابة في مدفعها كمصدر نيران ثابت مفتقدة السرعة والقدرة على المناورة لتحقيق الصدمة العالية وقوة الاقتحام خاصةً عند تطوير الهجوم في عمق العدو.

أما عن بطء تقدم القوات المتعمد فهو أمر شديد العجب أن يتصوره أحد، وهو دلالة على عدم الدراية بالعلوم العسكرية سواء فن القتال التكتيكي أو الفن التعبوي أو الفن الاستراتيجي العسكري وما يدور في مسارح العمليات، فهو أمر لا يتسق ولا يصلح نهائياً مع مُسّٓيٌر أعمال القتال في العملية الهجومية خاصة أمام مدافع متشبس بأرضه. القوات الروسية هاجمت قوات أوكرانية على الأرض في عمق اراضيها وتحديداً في (كييف - خاركيف – ودونباس - خيرسون وميكولايڤ)، إلا أنها لم تحقق النجاحات المطلوبة بالمعدلات المتعارف عليها. ولو ركزنا على محوري كييف وخاركيف شمالاً وفي اتجاه ميكولايف جنوباً، نجد أنها هاجمت وفشلتن وهاجمت مرة أخرى وفشلت فزادت خسائرها فتعثرت، فشن المدافع هجمات مضادة فزادت خسائر القوات المهاجمة فتوقفت، ومع تزايد الهجمات المضادة واستهداف مراكز القيادة والسيطرة والقادة واستهداف الإمدادات الإدارية تضاعفت خسائرها مرة أخرى فانسحبت. ولكن روسيا لن ترضى بالفشل بالتأكيد وستبحث كيف تخرج منتصرة، وهو امر آخر.

أما أن قوات مهاجمة تبطء من معدل تقدمها على الأرض بإرادتها فهو خرف، حيث سيتم استهدافها بنيران المدفعية والصواريخ والقناصة والمقذوفات الموجهة المضادة للدبابات للقوات المدافعة فيتم تدميرها (مجاناً) لأن المهاجم معظم وقته في العراء في عمق أرض العدو المدافع أو أمام دفاعاته ولا يمتلك التحصينات اللازمة لوقاية قواته. وجديرٌ بالذكر أن القوات المهاجمة لها معدلات هجوم محددة في مسارح القتال المختلفة كالقتال في المناطق المفتوحة وفي المناطق الجبلية وفي الغابات وعند اقتحام مانع مائي والقتال في المدن والتي تختلف تماماً عن القتال في الأراضي المفتوحة المحيطة بالمدن. ومعدلات القتال تختلف أيضاً عند الهجوم على أنواع مختلفة من الدفاعات، كالهجوم على دفاعات عاجلة أو دفاعات جاهزة أو دفاعات محصنة. وحالة تقليل معدلات التقدم (بسرعة معينة تحدد بالكيلومتر/ ساعة) فيعتبر تعثر أو فشل، وعندما تكون أسرع مما هو متعارف عليها بدرجة كبيرة فتعتبر استثناء وجب إعادة دراسته كما فعلت قواتنا المسلحة في حرب أكتوبر المجيدة، والذي غير قوانين القتال في العالم سواء في معدلات التقدم أو في نسب الخسائر التي كان متعارف عليها قبل حرب أكتوبر.

 

لواء دكتور ســـيد غنـيم

أستاذ زائر بالناتو والأكاديمية العسكرية ببروكسل


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة