مصطفى البلكي
مصطفى البلكي


رحلة إلى رمضان زمان: عناقيد فرح تصنعها النساء

أخبار الأدب

السبت، 16 أبريل 2022 - 02:43 م

كلما أمعنت التفكير أكثر بالمفردات الحالية للشهر الكريم، يأخذنى الصمت، ومع صمتى، ومع سكون اللحظة، ينتفض قلبى، وأكاد أتوقف عن حالى، فللذاكرة وجه ساحر، ولتفاصيلها وجه آخر، مبهرة تلك التفاصيل لحد الدهشة، دهشة لا تعيدها للحظة الراهنة، إلا أن عين من عاش وتشبع تعيد كل شىء كان.

فقد الجيل الحالى شغفه، لأننا نحن أيضاً فقدنا متعتنا، تحت ضغط المادة والتحلل من مفردة الحس، والتعمق أكثر فى كيفية توفير ما يكفل لهم الحياة من الجهة المادية البحتة

وقت أن يقتلنى خوف النسيان، أكون ثائرًا، أعيد ترتيب الأطياف فى وقت يكون شدو الروح من نفس النسق، وليس هناك أفضل من أيام الشهر الكريم، تصبح لدينا الكثير من النداءات التى تريد أن تأخذنا إلى الماضى، نخضع، ونصر على ألا نتوارى بعد أن نجتاز الباب الذى وقفنا عليه، بعدما طال الانتظار والدعاء ببلوغه، وما بعده هو براح الجنة التى تكون بلا حدود، فنتحرك فى وجود ما كان، فالذى كان عتق زمن وجوده فصار طعم اللقاء ألذ، فنتحرك حيث مفردات السعادة، وجوه تتدثر بالرضا، تجلس أمام البيوت فى جماعات، لكل واحد حكايته، يسلى نفسه ويسلى صيامه، ويبث الدفء فى القلوب، ولأن الوقت طائر خفيف، يأتى المساء، ومن المسجد القريب، يصلنا صوت محمد رفعت، وبكل قوته يقول لمن فى البيوت من رجال ونساء وأطفال، اقتلوا ملل الحياة بالحب، ويوجه النداء الخاص للنساء، اصنعن من المتاح عناقد فرح، حبات الكشك، وعناباً مذاباً فى الماء، وأكواباً متراصة على طبلية تسع العالم كله، تسعه بالحب، تحتفى بأصناف متعددة للطعام، بعد أن كانت قد ملت من حمل صنف واحد من الوجبات، إلا أن الشهر الكريم، يأتى فيغير كل شىء، وكما قيل يمكنه أن يحول الطين إلى معجزة، فتجتهد الأم فى جعل وجبات الإفطار مختلفة، وفاتحة للشهية، ووحدها التى تتحول لنحلة تلف وتدور، ونحن نتابعها، حتى يحين موعد أذان المغرب، وحده يسرقنا من هذا الدفء، لننطلق وكل واحد يمسك حبات من التمر، فى انتظار الجملة السر: مدفع الإفطار. اضرب. لنكون البشير الذى يحمل الخبر. افطر يا صايم عالكشك العايم.. وافطر يا عسكر عالكشك بسكر. ونعود فى نهاية رحلتنا فى الدروب، نرتضى بعين الحضور رفيقة ونحن نتقدم من حضن الأشياء البسيطة التى صُنعت بالحب وحده، نأكل وبعدها نتفرق بين أمرين، إما البقاء فى البيت أو الذهاب لمندرة العائلة.

البقاء فى البيت من أجل سحر الصورة، ومشاهدة الفوازير، والمسلسلات القليلة التى كنا نحفظ أوقات عرضها.

كنت دائمًا أميل إلى الخيار الأول، فأنتظر والدى أمام البيت حتى إذا ما لمحته، أتعلق بيده، وتبدأ رحلتى إلى عالم الكبار، عالم الحكايات، والونس، والدفء فى مندرة العائلة، وكأنى وأنا أتحرك بجواره أسابق متنًا يوجد لنفسه رسوخًا يليق به، يثب بقدرته على كل شىء فيكون فى لطف الغزال وقت أن تطيب لها الحياة وتختفى عين الصائد، نظرة وحيدة فى رحلتى تلك تختصر كل شىء، والضجيج ينثر عطره، ويملأ المسافة بينى وبين السعادة، ويقوى بداخلى صوت الحنين والشوق لمتابعة القادم.

 

وأفضل لحظة هى التى أقف فيها على عتبة باب مندرة العائلة، أبحث عن ركن فيه الحياة، حيث الأفواه التى تجيد نسج الحكايات، أرى كل السعادة تتجسد، واقعاً، فى البِشْر الذى يقابلنا به الكبار، وفكرة القفز للأمام تبدو قابلة للتحقيق، فكل واحد منهم يقول: غدا سيكونون هنا مكاننا، فنسترسل بخيال يقظ فى رسم البراح الذى نوجده بعد تلك القفزة، ونمضى بروح واحدة تعرف أن الوقت يستعصى علينا إذا ما ركض كل واحد منا بمفرد إحساسه، أما لو تحالفنا فسوف نرتب كل شىء ونصل، وتدور أكوب الشاى الثقيل، فى ثلاثة أدوار، لكل دور مذاقه، حتى يأتى موعد صلاة العشاء والتراويح، فيهرع الجميع إلى المسجد، وهناك تتراص الصفوف.

 

ونغيب خلف صوت يأتى من المدينة ليقرأ القرآن على مدار ليالى الشهر الكريم، فى سهرات رمضانية، تمتد وتطول حتى ما بعد منتصف الليل، والنوم لا يزورنا، نركض ونلعب، ولأن محو ما يعيق التقدم أهون من البناء، تأتى لحظة النهاية كل ليلة، بأن تُمدّ الموائد، ويتحلق حولها الرجال، ونحن الصغار تجمعنا طبلية لا تختلف عن موائد الكبار، نتسحر، ويرتشف الكبار الشاى، ونفترق فى وجود الحب الذى ينسج خيوطه بمهارة غزال لا يغادر المغزل أنامله.

أعود من هناك إلى حيث أنا، إلى أولادى، وما حدث لهم، ربما نحن نحمل جزءًا من غياب الشغف الذى كان يملكنا، لم نغرسه كما يجب فيهم، اشتغل كل واحد منا طبقاً لموقعه فى تحقيق ذاته فى عالم لا يرحم من يقف ويتأمل، تبدلت المفردات، وغابت الحكايات، وأصبح الحب غريباً فى ديارنا، لا يشكو من قلة المحبين لكن شكواه من كيفية اعتناقه، ومن استجابتنا للأحداث استجابة آلية، نقوم بما يجب فعله، وترتيبه، فقط من أجل المظهر العام، ومن أجل الصورة كى تظل حاضرة.

 

فقد الجيل الحالى شغفه، لأننا نحن أيضاً فقدنا متعتنا، تحت ضغط المادة والتحلل من مفردة الحس، والتعمق أكثر فى كيفية توفير ما يكفل لهم الحياة من الجهة المادية البحتة، أما الاستمتاع بأثر ما نوجده فأصبح فى الهامش، لا نشتغل عليه، ولا نبذل أى جهد يذكر فى سبيل تنميته حتى تصبح للأيام نكهتها التى فقدت مع تحولنا لتروس مركبة فى ماكينة كبيرة اسمها الحياة.

 

فالعادة التى تخلق طقوسها، تخلقها ظروف وأوضاع وجدت مع تقدم قتل الفطرة فينا، والاختلاف فى درجة رسوخها يواكب ما نبذله نحن فى سبيل مد جذورها، فتحول الطقوس التى كانت تعيش بالحياة إلى طقوس تعيش بالرغبة فى عدم التخلف عن أفعال الناس، مهما كانت بعيدة عن خلق السعادة, المهم الصورة العامة تواكب السائد، فأغلقت المنادر فى القرى، وأصبح كل بيت تقريبًا يعيش فى جزيرة منعزلة، وإذا اجتمع مع من يعرفهم، تموت الكلمات والحكايات وكأنهم وجدوا من رحم الصمت الذى لا لغة فيه.

اقرأ ايضا | إقبال كبير لأداء التراويح بساحات المسجد البدوى

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة