« الجواهر» قصة تفسير القرآن المهجور فى مصر
« الجواهر» قصة تفسير القرآن المهجور فى مصر


« الجواهر» قصة تفسير القرآن المهجور فى مصر

أخبار الأدب

السبت، 23 أبريل 2022 - 01:39 م

كتب : محمد الباز

يعرف المهتمون بالحوار الدائر منذ سنوات حول تجديد الخطاب الدينى الشيخ طنطاوى جوهرى جيدا، لكنها المعرفة العاقة، التى لا تزيد عن ذكره فى سطور عابرة لا تمنحه حقه، ولا تنزله المنزل الذى يستحقه، ولا تموضعه فى المكانة التى تليق به، وقد يلتسمون لأنفسهم العذر فى ذلك، لأن الاحتياج إلى التجديد يتجاوز عطاءاته العلمية والفكرية، وهى حجة بليدة، لأن ما قدمه لا يزال متجاوزا لكثير مما نتحدث فيه بعد وفاته بما يقرب من 82 عاما. 
يمكنك أن تأخذ بنصيحتى وتذهب إلى محرك البحث «جوجول»، لتجد معلومات كثيرة عن العالم الذى تمرد على مناهج الأزهر وشيوخه، فخط لنفسه خطا منفردا ومتفردا، جعله يشعر فى لحظة ما أن يستحقه جائزة نوبل فى السلام، وبالفعل يتقدم لينالها، لكن أحدا لم يلتفت إليه، ربما لأنه لم يسلك الطريق الصحيح للحصول على الجائزة العالمية. 
لن تغنيك كل محركات البحث عما ستجده هنا بينى وبينك، وهو حديث سيكون فيه الشيخ طنطاوى جوهرى طرفا ثالثا، نتحدث معه أنا وأنت، نزيل عن حياته بعض ما لحق بها من اتهامات وتقولات وربما اتهامات أيضا، ونحاول الوصول به إلى شاطئنا الحائر، فما أكثر احتياجنا الآن لمن صارعوا الأفكار على طريقته، فقد كان ثائرا من طراز رفيع، وتردينا الفكرى الآن يحتاج بالفعل إلى ثوار. 

كيف استخدم طنطاوى جوهرى الموسيقى والعلوم الطبيعية فى أول تفسير متكامل للقرآن؟

إذا كان تفسير الجواهر على هذه الدرجة من الأهمية، فلماذا لا يحظى بالاهتمام المطلوب؟ ولماذا لا يحظى بالشهرة التى تليق به؟ 
يمكننا أن نسلك الطريق السهل، ونقول إنه تفسير صعب، اختار له صاحبه قارئه، لكن الواقع يقول إن ما حدث يفوق هذا التفسير البسيط

هل بلغكم حديث الشيخ طنطاوى جوهرى؟ 
ما رأيكم أن ندخل البيوت من أبوابها؟ 
نحن الآن أمام الشيخ طنطاوى جوهرى الذى ولد فى العام 1870 فى قرية « كفر عوض الله حجازى» بمحافظة الشرقية، هناك من يشير إلى أنه ولد فى قرية «الغار»، وهى قرية قريبة من «كفر عوض الله حجازى»، إلا أن قرية «الغار» كانت موطن تعليمه الأول، حيث حفظ القرآن وتعلم مبادئ القراءة والكتابة فى كتَّاب «الغار»، وتعلم إلى جوار ذلك مبادئ الزراعة وأخلاقياتها من والده الذى كان يساعده فى عمله. 


لا يعرف أحد الظروف التى انتقل فيها طنطاوى جوهرى إلى القاهرة، وإن كان المنطق يقودنا إلى أنه بعد أن أتم حفظ القرآن وهبه والده إلى التعليم الأزهرى
درس طنطاوى فى الأزهر إلا أنه لم يركن إلى ما كان يقوم به شيوخه من حفظ المتون، والإنشغال بالشروح وشروح الشروح، واستظهار القواعد دون تبسيط، فضاقت روحه بما وجد نفسه مرغما عليه، فقرر أن يعود إلى القرية التى كانت تمنحه راحة هائلة، لكن والده أقنعه أن يعود مرة أخرى للدراسة الأزهرية، فعاد إلى القاهرة وقد أخذ قرارا بأن يلتحق بكلية دار العلوم التى كان اسمها وقتها «مدرسة دار العلوم العليا». 


فى العام 1893 تخرج طنطاوى جوهرى من دار العلوم، ليبدأ حياته العملية بالتدريس فى المدارس الثانوية بالقاهرة، ثم انتقل منها إلى المدرسة الخديوية بدمنهور، لكنه لا يطيق الحياة فى دمنهور، فيعود مرة أخرى إلى القاهرة ليباشر عمله مدرسا فى كلية دار العلوم


دخل طنطاوى جوهرى دار العلوم فى العام 1911، وجاء ذلك عبر صديقه أحمد باشا حشمت الذى كان وقتها وزيرا للمعارف المعموية. 


بعد عام واحد وفى 1012 وجد طنطاوى نفسه فى لحظة اختيار فاصلة، فقد تم ترشيحه لمنصب قضائى، وفى الوقت نفسه تم طلبه لتدريس الفلسفة الإسلامية فى الجامعة المصرية التى كانت لا تزال جامعة أهلية، ولأن شخصية المعلم كانت متمكنة من طنطاوى، فقد حسم أمره وذهب إلى الجامعة مباشرة. 


فى الجامعة بدأت بشائر مشروع طنطاوى جوهرى الفكرية، ففيها ألقى مجموعة من المحاضرات على طلابه، جمعها بعد ذلك فى كتابه «أين الإنسان؟»، وهو الكتاب الذى حاول فيه معالجة بعض من المشاكل الفلسفية التى تعترض العقل البشرى. 


فيما كتبه طنطاوى جوهرى فى كتابه تتجلى لنا حقيقته وما كان يسعى إليه. 


يقول: « بينما أنا أجيل هذه السانحات فى نفسى، وأنظر فى العالم بقلبى، قلت: يا ليت شعرى لو أن امرأ ركب متن هذا الكوكب، وساح العوالم العظيمة، وباحاتها الشاسعة، وساحاتها الواسعة، فدرس نظامها وقرأ علومها، ثم رجع فروى لنا أخبار الأمم العظيمة، وشرح لنا السياسات الكبيرة، لأفاد الإنسان، وعلمه البيان». 


ويستند طنطاوى جوهرى إلى ما قاله الفيلسوف الألمانى كنت فى كتابه «التربية» حيث ذهب إلى أن الإنسان لم يتسن له تلقى العلم إلا عن بشر مثله، ولو أنه أتيح له عالم آخر، فآتاه علما وأهداه فهما، لكان ذلك أقرب لسعادته، وأدعى لراحته، وأسرع لارتقائه فى مدنيته. 


يعود طنطاوى جوهرى إلى نفسه فيقول: « كل هذه الخواطر السانحات جالت بخاطرى، وقد أخذتنى سنة من نوم، وبينما أنا نائم إذا بشخص دخل غرفتى وهى موصدة الأبواب، مقفلة الشبابيك، محبوكة الستائر، فوكزنى برجله، وسمعت وأنا مغمض الأجفان، غائب عن عالم العيان، قائلا: قم أيها الإنسان، فلم أفتح عينى لمقالته، بل ظننته من أضغاث الأحلام، وخطرات المنام، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، فعاد الوكز، وعاودت الاستعاذة». 


لا أدرى هل كان ما قاله طنطاوى جوهرى أمرا واقعه حقيقة، أم كان حكاية من حكاياته التى كان يقرب بها المعانى إلى من يتحدث معهم أو يكتب لهم.
لا يهمنا فصل الخطاب فى ذلك على أية حال، يهمنى ما أكمل به حكايته، يقول: لما كانت الثالثة فتحت عينى، إذا نور مشرق فى ظلام الحجرة الحالك، فدهشت من هجمته، بل ذعرت من هيبته، وأخذتنى هذه الرعدة، لا هزة الطرب، ثم استجمعت قولى، وشددت فؤادى، وقلت: ما هذا؟ أنا فى يقظة أم فى منام؟ إن هذا إلا أضغاث أحلام، ثم أغمضت عينى، فإذا صوت أسمعه من ذلك النور الساطع والضوء اللامع، يقول بلسان فصيح عربى متين، لا تخف إنى صديقك، وعاشق للحكمة مثلك، اتحدت روحى وروحك، قم لأحل لك معضلات المسائل، وأضع لكم يا أهل الأرض قانونا مسنونا، وصراطا مستقيما، ولكننى قبل ذلك أسألك: أين الإنسان؟ 


فتح طنطاوى جوهرى – كما يقول – عينه، فإذا شخص لم ير مثله فى هذا العالم المشاهد، كأنه شاب فى سن العشرين، لم يتبين شكله لمكان الظلام المحيط بنوره، متوسط القامة، عليه حلل مرصعة بالماس، منظومة بالذهب، محلاة بأنواع من الجواهر والأحجار الثمينة، لا يعرف لها فى الأرض نظيرا، ولا يكاد يميزها للدهشة وظلام الليل، فأعاد السؤال مرة أخرى وقال: أين الإنسان؟ فرد طنطاوى: نحن بنى آدم نوع الإنسان، فقال: أوهذا منتهى ما تصل له يد استطاعتكم فى الكمال والأدب والنظام والمدنية والفضل؟ وهل تجاريبك العلمية ومباحثك العقلية أرشداك إلى أن هذا هو الكمال فى الإنسان؟ 


وضع طنطاوى جوهرى حيرته أمام محدثه. 
سأله: خبرنى أيها السيد... من أين أقبلت؟
 فقال له: لى اسمان، الحقيقة والوجدان، وقد أقبلت من مذنب هالى، وأنا روح من الأرواح السائحة فى العالم، وإنى أحبك حبا جما لحبك لنوع الإنسان، واهتمامك بنظامه العام، ولما اقتربت من الأرض ونظرت إليك نظر المحب المشفق، والوامق الصديق، فجئت لأسامرك الليلة، وأجاذبك أطراف الصداقة والخلة، ثم ارجع من حيث أقبلت، وقد سألتك: أين الإنسان؟ فتلكأت فى الجواب، وأوجبت بما لا يزيل اللبس، فأجب بالحقائق المعروفة لديك، واختصرها اختصارا، وليكن قولك ايجازا، وإذا لم تفد الحقيقة فضع بدلها مجازا. 


وضع طنطاوى جوهرى فى كتابه « أين الإنسان» بعضا من خلاصة أفكاره، مستعينا فيه بآراء عدد من الفلاسفة مثل الفارابى وابن طفيل وتوماس مور، ورغم أنه ليس أكثر من خواطر إنسانية، إلا أن هناك من يصنفه على أنه رواية فلسفية. 


الأزهرى المتمرد يبحث عن نفسه 
تمرد طنطاوى جوهرى مبكرا على العلوم الأزهرية ومنهجها ومناهجها، دفعه إلى طريق مختلف، قرر أن يحدد ملامحه بنفسه. 


فى كتابه «عباقرة ومجانين» الذى صدر فى العام 1990، كتب الناقد الكبير رجاء النقاش عن طنطاوى جوهرى، ومن بين ما قاله، أن الشيخ الأزهرى لم يكن يعرف لغة أجنبية، ولكنه أدرك بفهمه العلمى السديد وتطلعه إلى المعرفة ضرورة الاهتمام بإحدى اللغات الأجنبية، فاتجه إلى اللغة الإنجليزية، ودرسها دراسة واسعة حتى أتقنها، معتمدا فى ذلك على جهده الذاتى وإرادته القوية، بعد أن استعان فى بداية الأمر ببعض المدرسين، وقد ساعده اتقانه لهذه اللغة على أن يقوم بترجمة بعض الأشعار والنصوص الأدبية الإنجليزية، مما يدل على أنه قد وصل فى اتقانه لهذه اللغة إلى درجة جيدة. 


فيما يبدو كانت شخصية طنطاوى جوهرى مستفزة لرجاء النقاش، الذى بدأ يبحث عن تلاميذه، ولما وجد أحدهم وهو أحمد عطية الله، عرف منه جانبا يمكن أن نعتبره غريبا فى شخصية طنطاوى. 


قال عطية الله – الذى لم يقل لنا رجاء النقاش شيئا عنه أكثر من أنه تلميذ لطنطاوى – إن شيخه كانت عنده جاذبية غريبة للرياضيات والطبيعيات، للدرجة التى جعلته يعتبر تعليم الكيمياء من الواجبات والفروض التى لا يتم إيمان المسلم إلا بها. 


من بين ما ينسب لطنطاوى جوهرى كذلك أنه كان يتابع ما ينشر فى الصحف والمجلات من اكتشافات علمية، ويعتبرها دليلا على التطور الحضارى، وهو ما دفعه أحيانا إلى بعض الشطط، ففى العام 1930 رفع مذكرة إلى الحكومة المصرية أثناء غارات الجراد التى اجتاحت البلاد، يقترح فيها جمع الجراد وبيضه لاستخراج زيت قال إنه أجود زيت يصلح للطائرات. 


لم يتلق طنطاوى جوهرى ردا على مذكرته، ولم يلتفت إليها أحد، فقد كان ما قاله مجرد فكرة لا علاقة لها بالعلم ولا التجربة. 


حمل طنطاوى جوهرى هذه المعارف والعلوم وهو يضع مؤلفاته، التى كان منها: «التاج المرصع بجواهر القرآن والعلوم»، و«ميزان الجوهر فى عجائب الكون»، و«جواهر العلوم»، و«سوانح الجوهرى»، و«الفرائد الجوهرية فى الطرق النحوية». 


من عناوين كتبه يمكننا أن نمسك بملمح نفسى مهم فى شخصية طنطاوى، فقد كان معجبا بنفسه للدرجة التى جعلته يضمن عناوين كتبه بعضا من اسمه، فقد كان يرى فى نفسه عالما فذا تفوق على أقرانه، وهو ما دفعه إلى أن يطالب بجائزة نوبل فى السلام لنفسه فى العام 1938، أى قبل وفاته بعامين فقط. 


لغز جائزة نوبل فى حياة الشيخ طنطاوى
الفكرة غريبة لكنها حدثت... وهنا تقابلنا روايتان. 
الرواية الأولى صاحبها رجاء النقاش، الذى يجزم أن طنطاوى جوهرى راسل الأكاديمية السويدية وزكى نفسه لها، معتبرا أنه يستحق الجائزة لأنه فى كتاباته التى كان منها بالتحديد: « نظام العالم والأمم أو الحكمة الإسلامية العليا»، «والنظام والإسلام» و«جمال العالم» و«نهضة الأمة وحياتها»، كان يحمل على كتفيه دعوة إنسانية واسعة، فكان يدعو إلى السلام والتصامن الإنسانى، الذى يؤدى إلى انتشار العدل وارتقاء البشر جميعا، وكان فى هذه الكتب يهاجم الدول الكبرى التى تعمل على أن تفرض سياستها بالقوة، وتحاول أن تحقق مصالحها على حساب الآخرين من أبناء المجتمعات الإنسانية الضعيفة، وكان يرى أن الإخاء الحقيقى بين البشر هو الحل المثالى الصحيح لأزمات الإنسان المختلفة، ولم تكن دعوته لهذه المبادئ الإنسانية سطحية بل كانت عميقة وقائمة على شعور غامر بالمسئولية، كما أنه كان يشرح دعوته بأسلوب جميل واضح أو مؤثر، وكانت كتبه مليئة بالحقائق والمعلومات الواسعة فى سائر مجالات المعرفة الإنسانية. 


الغريب أن طنطاوى جوهرى كان يأخذ من نظام حياة الحشرات والجوارح والضوارى وممالك النحل والنمل والهوام والمعادن والأحجار ما يدلل به على أن الله ما خلق خلقه إلا من أجل أن يعيشوا فى سلام، ودعا فى كتابه «أحلام فى السياسة وكيف يتحقق السلام العام؟» العالم كله للأخذ بنظام الحيوانات ليعيشوا فى سلام عام. 


يحاول طنطاوى جوهرى توضيح فكرته أكثر، ففى «أحلام السياسة» نقرأ: كيف تكون للعوالم التى تعيش من حولنا هذا الجدول المنظم، وتكون بينها هذه النسب البديعة، ولا يكون للإنسان هذا النظام؟، كلا... إن العقل ينكر هذا، وها هنا تحل مشكلة العالم، ها هنا عرفنا سبب النزاع القائم بين الأسرات والممالك، هأنذا عرفت سبب الجمال فى الحقول والسماوات ليلا ونهارا، فأما أسباب الشقاء والنزاع بين الإنسان فالبحث جار فيها. 


الرواية الثانية صاحبها الدكتور محمد الجوادى الذى كان واحدا من أهم من كتبوا سيرة الشخصيات العامة فى مصر والعالم العربى، قبل أن تجرفه الجماعة الإرهابية فى طريقها بعد 30 يونيو، فيصبح واحدا من أبواقها. 


فى بورتريه مطول كتبه الجوادى على مدونته « أبو التاريخ» يذهب إلى أن الدكتور على مصطفى مشرفة باشا هو من رشح الشيخ طنطاوى لجائزة نوبل فى العام 1939، بمجموعة كتبه إلى الدوائر الغربية لنيل جائزة نوبل للسلام، وقد رشحه الدكتور مشرفة بوصفه عميدا لكلية العلوم، واشترك فى الترشيح الدكتور عبد الحميد سعيد عضو البرلمان، والرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين، ودعمت وزارة الخارجية هذا الترشيح، وتولت إجراءات تقديمه مع مؤلفات الشيخ إلى لجنة الجائزة والبرلمان النرويجى مشفوعة بتقرير عن جهوده فى سبيل العلم والسلام، وشهادات علماء إنجلترا وفرنسا وايطاليا وألمانيا فى قيمة هذه المؤلفات، لكن وفاة الشيخ طنطاوى جوهرى فى مطلع 1940 حالت دون اتمام الأمر لأن جائزة نوبل لا تمنح إلا للأحياء. 


لم يقدم لنا محمد الجوادى دليلا واحدا موثقا على روايته، إلا أنها الأقرب إلى المنطق، ويبدو أنه كتب ما كتبه بقناعة أن الشيخ طنطاوى لو كان حيا لفاز بجائزة نوبل للسلام، ولأصبح بذلك أول عربى يحصل على الجائزة فى أى فرع من فروعها، دون أن ينتبه إلى أن الشيخ طنطاوى كان صاحب دعوة نظرية للسلام، وهو ما يتساوى فيه مع كتاب ومؤلفين كثيرين حول العالم، ولا تمنح الجائزة فى فرع السلام لمن يكتبون داعين ليسود السلام العالم، ولكن من يقومون بجهد حقيقى على الأرض لتمكين السلام فى الأرض. 


تخليص طنطاوى جوهرى من شوائب الإخوان 
وعلى ذكر محمد الجوادى، فقد وقع فى مغالطة أخرى، يمكننا أن نعتبرها جريمة تاريخية. 
يقول الجوادى إن حسن البنا عرض على الشيخ طنطاوى جوهرى أن يكون مرشدا عاما للإخوان، لكن الشيخ رفض، واكتفى بأن تولى رئاسة تحرير جريدة «الإخوان المسلمون» التى صدر العدد الأول منها فى 15 يونيو 1933، وكان يلقى درسا فى تفسير القرآن الكريم فى المركز العام للإخوان المسلمين فى الحلمية. 


وينسب الجوادى للشيخ طنطاوى جوهرى - ما نقله من أدبيات جماعة الإخوان – أنه قال عن حسن البنا: «لو تعلمون عن هذا الشخص ما أعلم ما ملكتم إلا أن تبايعوه على نصرة الاسلام، إنه فى نظرى مزاج عجيب من التقوى والدهاء السياسى، إنه قلب على وعقل معاوية، وإنه أضفى على دعوة اليقظة عنصر الجندية، ورد إلى الحركة الوطنية عنصر الإسلامية». 


لكن لماذا أصف ما قاله الجوادى بالمغالطة؟ 
لدينا هنا أكثر من شاهد على أن ما قاله ونسبه الجوادى لطنطاوى جوهرى ليس إلا بعضا من التدليس. 


فما كان لعالم وفيلسوف مثله يعتز بنفسه وبمنهجه أن يخدعه حسن البنا، وحتى لو احتج أحد عليه وعلينا بأنه قبل رئاسة تحرير « الإخوان المسلمين»، فإن هذا لا يعنى أن هواه كان يتوافق مع هوى الجماعة، فالأزهرى الذى رفض التعليم الأزهرى لأنه كان أسيرا للمتون القديمة، ما كان له أن يركن لجماعة ترفع فى وجوه أتباعها مبدأ السمع والطاعة وتطالبهم أن يبايعوا على ذلك فى المنشط والمكره، ولذلك فإننى أستبعد تماما أن يكون طنطاوى جوهرى بايع حسن البنا على شىء. 


وما لا يعرفه محمد الجوادى غالبا أن حسن البنا كان يحاول استقطاب كبار المفكرين إلى جماعته، من خلال دعوتهم ليكونوا مرشدين لها، دون أن يوضح هل كان يعنى ذلك أنه سيتنازل لهم عن مكانه ومكانته، أم أنه كان سيبحث لنفسه عن مكانة أخرى تجعله يعلوهم، فيحتفظ بحق الأمر والنهى فى الجماعة؟ 


فعل ذلك مع محمد حسين هيكل باشا، حيث كان يرافقه فى رحلة حج فى بدايات الثلاثينات، وأكد له أنه يتلقى دعما خارجيا هائلا، لكن هيكل نفر منه ولم يستجب لدعوته، وفعل ذلك أيضا مع الكاتب الكبير أحمد أمين، عندما دعاه إلى الانضمام للجماعة ليكون مرشدا له، لكن أحمد أمين لم يرد عليه بالإيجاب أو السلب، وإن كان أخبر ابنه حسين بسبب رفضه للجماعة التى انحرفت بالدين وتريد أن تصل به إلى الحكم. 


ويبقى لدى شاهد يؤكد أن الشيخ طنطاوى جوهرى لم يقترب من أفكار الإخوان أبدا، ولا دعا للانخراط فى صفوفهم، وهو أن منهجه كان يختلفمع منهجهم، فقد كان يعلى من شأن العقل وهم يحتقرونه، وكان يدعو إلى التجديد وهم يميلون إلى التقليد، وكان يدعو إلى السلام بينما لا يؤمنون هم به. 


ولو افترضنا جدلا أن الشيخ طنطاوى رأى فى الإخوان أى خير، فذلك لأنه مات فى العام 1940، أى قبل أن يظهر الوجه القبيح للجماعة، وتقدم على الاغتيالات وأعمال العنف التى جعلت الجميع ينفر منها ويهرب من صفوفها. 


الأهم من كل ذلك، أننى أرى فيما قاله عن حسن البنا ذما وليس مدحا، هذا على افتراض أنه قال ما قاله من الأساس، فأن يصفه بأنه يجمع بين قلب على وعقل معاوية، فهو رجل متناقض لا خير فيه. 


لماذا سخر طه حسين من طنطاوى جوهرى؟ 
وإذا كنا قطعنا الطريق على المتقولين على طنطاوى جوهرى بأنه كان من أنصار الإخوان، فإن من حقه علينا أن نخلصه مما ألحقه به طه حسين فى الجزء الثالث من كتابه «الأيام»، الذى رسم له صورة ساخرة هازلة وهزيلة لا يمكنها أن تكون لمن هو فى علم ودأب طنطاوى. 


كان رجاء النقاش قد نشر مقاله عن طنطاوى جوهرى «أزهرى يطالب بجائزة نوبل» لأول مرة فى مجلة الشباب قبل أن يضمه إلى كتابه «عباقرة ومجانين»، وبعد النشر تسلم رسالة من القارئة مها محمد الهنداوى من دمياط، قالت له فيها: قرأت لكم ما كتبتموه عن الشيخ طنطاوى جوهرى، أو الأزهرى الذى طالب بجائزة نوبل، وأود أن أحيطكم علما بأننى درست هذا العام الجزء الثالث من رائعة «الأيام» لعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، وفيه يذكر الشيخ طنطاوى بأوصاف قبيحة، ويصف كيف كان الشيخ مثار سخرية الدكتور طه حسين وزملائه. 


وبعد أن ذكرت مها الهنداوى ما قاله طه حسين عن طنطاوى جوهرى، قالت: أرجو من سيادتكم الرد، فكلامكم أوقعنى فى حيرة شديدة، فهل الشيخ طنطاوى جوهرى الذى يتحدث عنه الدكتور طه حسين فى الجزء الثالث من كتاب «الأيام» هو نفسه من يتحدث عنه سيادتكم أم شخص آخر؟». 


ويرد رجاء النقاش على سؤال القارئة بقوله: أحب أن أؤكد للقارئة الفاضلة أن الشيخ طنطاوى الذى تحدثت عنه هو نفسه الشيخ طنطاوى جوهرى الذى يتحدث عنه طه حسين فى الجزء الثالث من كتابه، وبالطبع فإن الصورة التى رسمتها للشيخ طنطاوى جوهرى تختلف عن الصورة التى رسمها طه حسين، فما السبب فى هذا الختلاف الكبير؟ 
ويجيب رجاء النقاش على سؤاله بقوله: السبب فى ذلك يعود إلى طه حسين نفسه ولا يعود – فى تقديرى – إلى الشيخ طنطاوى جوهرى، فقد كان طه حسين يتميز بصفة لا أستطيع أن أسميها إلا باسم الشقاوة، وهذه الصفة لازمته فى النصف الأول من حياته، بل أكاد أن أقول إن صفة الشقاوة قد لازمته أكثر من نصف حياته، وظلت تلازمه فى كل حياته وإن كان حاول فى سنواته الأخيرة أن يخفيها ويخفف منها إلى حد كبير. 


ويعدد رجاء النقاش صور نفور طه حسين من رجالات الأزهر، ليقول بعد ذلك: فى الجامعة التقى طه حسين وهو طالب بأستاذه طنطاوى جوهرى، وكان طنطاوى شيخا أزهريا معمما، انتدبته الجامعة لتدريس الفلسفة، فهل كان بالإمكان أن يسلم هذا الشيخ الأزهرى من شقاوة طه حسين؟ 
ويصل النقاش إلى القول الفصل، فيقول: القصة التى يرويها طه حسين عن الشيخ طنطاوى جوهرى لا تسىء إلى الأستاذ فى حقيقتها، ولكنها تكشف عن شقاوة التلميذ طه حسين وميله الدائم إلى مشاغبة أساتذته الأزهريين، والحقيقة أن الشيخ طنطاوى جوهرى لم يكن أزهريا بالمعنى التقليدى، بل كان عالما عظيما مجددا. 


طريق الشيخ طنطاوى إلى تفسير « الجواهر» 
لا يزال لدينا من القول فصلا، لقد عاش طنطاوى جوهرى حياته كلها حلقة واحدة، فلم يكن اطلاعه على العلوم الكونية، ولم تكن كتاباته إلا تمهيدا لتفسيره الكبير «الجواهر» وهو التفسير الذى أنجزه على مراحل، وكان متأثرا فيه بقراءاته وواسع اطلاعه، ومحبته إلى الموسيقى. 


فمن بين ما نقله رجاء النقاش عن تلميذه أحمد عطية الله قوله: امتد شغف الشيخ طنطاوى من الرياضيات إلى الموسيقى، باعتبارها فرعا من فروع الرياضيات، وكان يقول إن الموسيقى المسموعة باب من أبواب الموسيقى المعقولة، أى التى توجد فى العقل عن طريق المعادلات الرياضية، وأورد فى تفسيره للقرآن كثيرا من النوادر والحوادث الشخصية التى كانت الموسيقى فيها حافزا له على ارتياد مواطن جديدة من النشاط الفكرى، بل إنه عزا توسعه فى تفسير القرآن وهدفه من تضمين هذا التفسير كثيرا من حقائق العلوم الطبيعية إلى حادث من الحوادث الفردية التى لعب فيها «الفونوغراف» دورا فى تطوير أفكاره وشحذ عزيمته. 


أما كيف انتهى طنطاوى جوهرى من تفسيره للقرآن؟ ... وكيف عمل عليه؟ ولماذا لم يلتفت له أحد، فهذه قصة طويلة تستحق أن تروى للعلم وللتاريخ ولحق الشيخ طنطاوى نفسه علينا. 
الصورة تبدو أمامى هكذا، فكأن الله نذر الشيخ طنطاوى جوهرى لإنجازه الأكبر فى حياته « تفسير الجواهر». 


غلاف الطبعة الأولى من التفسير يكتب بطاقة هويته. 
اسم التفسير كاملا هو « الجواهر فى تفسير القرآن الكريم... المشتمل على عجائب بدائع المكونات وغرائب الآيات الباهرات» من تأليف الأستاذ الحكيم الشيخ طنطاوى جوهرى، المدرس بالجامعة المصرية ومدرسة دار العلوم سابقا، متع الله المسلمين بحياته... آمين. 


وعلى الغلاف يقابلنا تنبيه يقول فيه طنطاوى: إن شاء الله بعد تمام طبع التفسير سنتبعه بملحق لتفصيل ما أجمل فيه من العلوم الكونية والأحكام الشرعية واختلاف المذاهب فيها». 
وقد طبع بمطبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاده بمصر وباشر طبعه محمد أمير عمران.

 
عندما نعيد النظر فى تكوينه العلمى والدينى، سنجد أن طنطاوى جوهرى كان يسير فى طريق، لم تكن له نهاية إلا هذا التفسير، فمنذ طفولته وهو لا يزال فى قريته «كفر عوض الله حجازى» ندهته الطبيعة بحقولها وأشجارها ونباتاتها وحيواناتها، فاهتم بها وهجر لهو الأطفال الصغار، ثم عزف عن المناهج التقليدية فى الأزهر، فمال إلى دراسة العلوم الطبيعية وتتبعها عبر الصحف التى تنشر عنها، ولأن تتبع العلوم يستلزم تعلم لغة، فقد أقبل على تعليم اللغة الإنجليزية وأتقنها. 


الثابت عن الشيخ طنطاوى جوهرى أنه وبعد أن وصل إلى الستين من عمره، أى فى العام 1930، بدأ فى كتابة تفسيره الذى انتهى منه فى خمس سنوات، حيث صدرت الطبعة الأولى منه فى العام 1935، وهو كلام لا يمكننا أن نقبله منطقا ولا عقلا، ثم إن هناك من الوقائع ما يشير إلى أن طنطاوى جوهرى ومنذ شبابه وهو يعمل على مشروع تفسيره الكبير. 


فى المقدمة القصيرة التى كتبها طنطاوى كمدخل إلى تفسيره، يضع أيدينا على ما جرى. 

يقول: « أخذت أؤلف لذلك كتبا شتى، كنظام العالم والأمم، وجواهر العلوم، والتاج المرصع، وجمال العالم، والنظام والإسلام، ونهضة الأمة وحياتها، وغير ذلك من الرسائل والكتب، ومزجت فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية، وجعلت آيات الوحى مطابقة لعجائب الصنع وحكم الخلق، وأشرقت الأرض بنور ربها، وتقبلها أجلة العلماء قبولا حسنا، وترجم منها الكثير إلى اللغة الهندية المسماة بالأوردية، وإلى لغة القازان بالبلاد الروسية، وإلى لغة جاوه فى الأوقيانوسية، ولكن كل ذلك لم يشف منى الغليل، ولم يقم على غنائه من دليل، فتوجهت إلى ذى العزة والجلال، أن يوفقنى أن أفسر القرآن، وأجعل هذه العلوم فى خلاله، وأتفيا فى بساتين الوحى وظلاله، ولكم طلبت منه جل جلاله بالدعوات فى الخلوات، وابتهلت إليه وهو المجيب، فاستجاب الدعاء».

 
استجاب الله لدعاء طنطاوى جوهرى، فكان ابتداء التفسير إذ كان مدرسا بمدرسة دار العلوم فكان يلقى بعض آيات على طلبته، وبعضها كان يكتبه فى مجلة « الملاجئ العباسية». 


يقول: وها أنا ذا اليوم أوالى التفسير مستعينا باللطيف الخبير، مؤملا بما وقر فى النفس، أن يشرح الله به قلوبا، ويهدى به أمما، وتنقشع به الغشاوة عن أعين عامة المسلمين، فيفهموا العلوم الكونية، وإنى لعلى رجاء أن يؤيد الله هذه الأمة بهذا الدين، وينسج على منوال هذا التفسير المسلمون، وليقرأن فى مشارق الأرض ومغاربها مقرونا بالقبول، وليولعن بالعجائب السماوية، والبدائع الأرضية: الشبان الموحدون، وليرفعن الله مدينتهم إلى العلا، وليكونن هذا الكتاب داعيا حثيثا إلى درس العوالم العلوية والسفلية، وليقومن من هذه الأمة من يفوقون الفرنجة فى الزراعة والطب والمعادن والحساب والهندسة والفلك وغيرها من العلوم والصناعات؟ 


وضع طنطاوى جوهرى فى هذا التفسير ما يحتاجه المسلم، من الأحكام والأخلاق وعجائب الكون، وأثبت فيه غرائب العلوم وعجائب الخلق مما يشوق المسلمين والمسلمات، إلى الوقوف على حقائق معانى الآيات البينات، فى الحيوان والنبات والأرض والسموات». 


تفسير نخبوى لا مكان لقارئ عادى فيه
لم يضع طنطاوى جوهرى تفسيره فى الغالب للقارئ العادى، بل كان يسعى إلى قارئ له مواصفات خاصة، يخاطبه بقوله: لتعلمن أيها الفطن أن هذا التفسير نفحة ربانية وإشارة قدسية وبشارة رمزية، أمرت به بطريق الإلهام، وأيقنت أن له شأنا سيعرفه الخلق، وسيكون من أهم أسباب رقى المستضعفين فى الأرض « ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز» وهذا أوان أن أشرع فى المقصود». 


يمكننا أن نعتبر تفسير طنطاوى جوهرى تفسيرا نخبويا، فمن لا يعرف للعلوم الطبيعية طريقا لا يمكنه أن يتفاعل معه، وأغلب الظن أن هذا هو السبب فى عدم انتشار هذا التفسير بالشكل الذى يليق به، فمن يقبلون على التفاسير حتى من المتخصصين لا يميلون إلى إرهاق أنفسهم بتتبع الآثار العلمية والمسائل الرياضية التى كانت السمة الأكبر لما أنتجه الشيخ طنطاوى. 


كان طنطاوى يعرف أنه يبحث عن قارئ خاص، وكان يحتاج لمن يحاوره ويناقشه، ولذلك فقد نحت لنفسه محاورا من نفسه، كان يطرح عليه الأسئلة الصعبة ويجيب عليها، فكأنه كان يدير حوارا مع نفسه، يوفر به على من يطالع تفسيره عناء طرح الأسئلة. 


يذهب كثير ممن تصدوا للكتابة عن تفسير طنطاوى جوهرى ونقده ومنهم أنور أبو طه وآخرون فى كتابه « خطاب التجديد الإسلامى: الأزمنة والأسئلة»، وأمين الخولى فى كتابه « التفسير: نشأته وتدرجه وتطوره»، ومصطفى الحديدى الطير فى كتابه « اتجاهات التفسير فى العصر الحديث من الإمام محمد عبده حتى مشروع التفسير الوسيط» ومحمد رجب البيومى فى كتابه « النهضة الإسلامية فى سير أعلامها»، إلى أن تفسير طنطاوى جوهرى يعتبر من التقاسير العلمية للقرآن. 


لكن الحقيقة عندما نقرأ تفسير طنطاوى جوهرى بعين فاحصة، نكتشف أنه لم يكن تفسيرا علميا، فالتفسير العلمى الذى نعرفه هو أن يأتى المفسر بما وصل إليه العلم الحديث ويحاول أن يسقطه على القرآن الكريم، وهو ما تعارفنا عليه بالإعجاز العلمى فى القرآن الكريم. 


ما فعله طنطاوى جوهرى كان مخالفا لذلك تماما، بل تنبه هو إلى ذلك، ونفاه نفيا تاما، فهو يشير إلى أن تفسيره يقوم على استخدام الدراسات العلمية الواسعة والتفصيلية فى الكيمياء والطبيعة والرياضيات، وذلك للكشف عن عظمة الكون الذى خلقه الله وأبدعه، وهو لا يكتفى بالشرح العلمى النظرى بل يملأ تفسيره بالصور والخرائط التى تشرح الآراء الواردة فى التفسير وتقدم الدليل الثابت على صحتها. 


وفى قراءة نقدية فى منهج طنطاوى جوهرى فى تفسيره الجواهر، نشرها حازم محيى الدين على موقع وقفية الأمين غازى للفكر القرآنى، يذهب إلى أن جوهرى كان يعتقد أن الإشارات العلمية والتاريخية الواردة فى القرآن الكريم مذكورة بطريقة مجملة، وهى تشكل فى مجموعها مقدمات دافعة للبحث العلمى الذى يجب أن يقوم به علماء الأمم، وبشكل خاص المسلمون منهم الذين سبق لهم تلاوة الآيات التى تتضمن هذه الإشارات، فالقرآن الكريم يذكر الحقائق مجملة عامة من حيث تضمنه الإشارة إلى كل الظواهر الكونية من جهة، ويحث علماء الأمم على استقصاء هذه الحقائق والوقوف على تفاصيلها من جهة أخرى، فبيان وتفصيل المسائل العلمية والتاريخية من مهام العقل والخبرة البشرية، وليس من مهام الوحى الذى يكتفى بالإجمال وإثارة الرغبة عند البشر فى اكتشاف هذه العلوم، وليقرأوا بعد ذلك بقدر تعمقهم فى دراسة هذه العلوم فى مدارج الحضارة والتقدم.


وينفى طنطاوى جوهرى عن نفسه تهمة نسبها البعض إليه، عندما قالوا إنه يقول إن كل العلوم التى ظهرت فى الغرب موجودة فى القرآن. 
 يقول: أنا لم أقل إن أهل أوربا استنتجوا علومهم من القرآن، بل استنتجوها بعقولهم، ولقد بعث الله الغراب وغير الغراب لهم كما بعث لنا، وهذا عار على أمة الاسلام أن تجهل عقلها، وتجهل دينها، فأنا لم ألصق بالقرآن علما ولا صناعة، وإنما أنا متبع لا مبتدع.

 
حيوان أكسيلوكوب يفسر آية « الرحمن الرحيم» 

يجمل طنطاوى جوهرى نظرته للقرآن بقوله: هذا القرآن يستحيل أن ينتفع به المسلمون إلا إذا قرأوا جميع العلوم، ومن أين يعرفون معنى هذه الآيات التى تعرض على العامة والأطفال لأنها فى السور الصغيرة المعروفة لكل قارئ إلا بالعلوم والمعارف، وهو ما أرجو أن يتم بعد انتشار هذا التفسير. 


يدعم طنطاوى جوهرى ما قاله من بداية تفسيره. 
ففى بداية تفسيره لسورة الفاتحة، يقول: «اقرأ متبركا باسم الله الرحمن بجلائل النعم، كالسموات والأرض والصحة والعقل الرحيم المنعم بدقائقها، وتلاصق شعرات أهدابها المانعات من دخول الغبار المؤذى لها، مع أن النور يلمع من خلالها، وينقل صور المرئيات إلى حدقتها فشبكيتها فالدماغ، فهذه الدقة فى الصنع والحكمة فى الوضع التى أباحت لضوء الشمس والكواكب مثلا أن يبلج ومنعت الغبار أن يدخل يعبر عنها بلفظ الرحيم تتميما للنعمة وتكميلا للهناء والسعادة». 


ولما كان أكثر الناس– طبقا لما يراه طنطاوى جوهرى - لا يلحظون العجائب الكامنة فيهم، ولا يعرف نفسه إلا قليل منهم، وهم أكابر الحكماء والأولياء، يقول: «وجب أن أبين فى هذا المقام بعض رحمة الله عز وجل فى العالم المشاهد، فمنها ما أشار إليه العلامة الأستاذ ميلن ادوارد أن حيوانا يسمى «أكسيلوكوب» يعيش منفردا فى فصل الربيع، ومتى باض مات حالا، فمن رحمة الله وجميل صنعه ورأفته بالخلق أن ألهم هذا الحيوان أن يبنى بيتا قبل أن يبيض على منوال ما كانت تفعله عاد من اتخاذ البيوت بالحفر، ولكن هذا فى خشب، وأولئك فى صخر، فيعمد ذلك الحيوان إلى قطعة من الخشب، فيحفر فيها حفرة مستطيلة، ثم يجلب طلع الأزهار وبعض الأوراق السكرية ويحشو بها ذلك السرداب، ثم يبيض على ذلك بيضة، ثم ياتى بنشارة الخشب ويجعلها عجينة، ويجعل منها سقفا لذلك السرداب، والحكمة من ذلك أن هذه البيضة متى فقست وخرجت الدودة كفاها ذلك الطعام سنة، وهى المدة التى لا تستطيع تلك الدودة أن تحصل فيها على قوتها، ومتى أتم الحيوان ذلك صنع سردابا آخر فوقه على هذا المنوال، وهكذا يصنع جملة أدوار، فانظر كيف شملت الرحمة ما خلق وما لم يخلق، فإن ذلك الطعام المخزون فى السرداب رحمة ألهمها ذلك الحيوان من الحشرات لولده الذى سيخلق». 


ويأخذ طنطاوى جوهرى من قوله تعالى «الحمد لله رب العالمين» دليلا على أن هناك عالما علويا و عالما سفليا، والله ربهما والمسلمون خلفاؤه فى الأرض بالقضاء والعدل بين الناس، وبالبحث ومعرفة العوالم، فكما برع آباؤنا فى القضاء، والحكم بين الناس فلنقم نحن بذلك وندرس علوم العوالم كلها باعتبار أن ديننا يأمرنا به، وإلا فما الفرق بين «قل انظروا ماذا فى السموات والأرض» وبين قوله «فاستقم كما أمرت» كلاهما أمر، والأمر للوجوب، فإذا نحن قرأنا الأحكام الشرعية وقضينا بها فلنقرأ العجائب الكونية ولنعمل بها فنرقى الزراعة والصناعة والتجارة. 


كيف ينقذ تفسير الجواهر المسلمين
 من الخلاف والفرقة؟ 
يلح طنطاوى جوهرى على فكرته لا يتركها تفلت من بين يديه، فهو يدفع المسلمين دفعا إلى دراسة العلوم الكونية التى هى السبيل إلى الرقى والتحضر. 


فعلى جناح تفسيره يدعو جميع أمم الاسلام فى مشارق الأرض ومغاربها أن يمعنوا النظر فيما يقول، وإلا كيف يقول الله تعالى «ليظهره على الدين كله»، وكيف يظهر على الأديان إلا بهذه المزية، وهى أن الديانات لا تتعرض لعلوم الكائنات، والاسلام يدعو إليها ويأمر بها، وهذه خاصة به لا يشاركه فيها دين من الأديان. 


وينذر طنطاوى جوهرى من لا يستجيب لما ينصح به، فيقول: فمن تكاسل من المسلمين عن هذه العلوم فلا يلومن إلا نفسه « إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له». 


ولأن دراسة العلوم الكونية بالنسبة لطنطاوى جوهرى ليست هدفا فى حد ذاتها، فهى إلى جانب مساهمتها الأكيدة فى تقدم المسلمين، والتأكيد على أن دينهم هو الدين الشامل، فإن دراسة هذه العلوم تساهم فى توحيد المسلمين وتجعلهم على قلب رجل واحد. 


وإذا سألت وكيف يحدث ذلك؟ 
 ستجد طنطاوى جوهرى يجيبك بقوله: إن أرباب المذاهب من شيعة وسنية ومالكية وحنابلة وحنفية وشافعية وزيدية، كان اختلافهم فى مسائل من الشريعة المطهرة، فإذا قرأوا علوم الآفاق التى أرشد إليها القرآن لم يكن بينهم اختلاف فيها، لأنها مكشوفة ظاهرة، والله هو الذى منحهم إياها، فليقرأ المسلمون فى الشرق والغرب جميع العلوم التى برع فيها الافرنج، وهى علوم الأنفس والآفاق وإذ ذاك يرون أن الخلاف بينهم فى الشريعة يسير جدا بالنسبة لما اتفقوا فيه. 


لماذا هجر المسلمون تفسير «الجواهر» ؟ 
إذا كان تفسير الجواهر على هذه الدرجة من الأهمية، فلماذا لا يحظى بالاهتمام المطلوب؟ ولماذا لا يحظى بالشهرة التى تليق به؟ 
يمكننا أن نسلك الطريق السهل، ونقول إنه تفسير صعب، اختار له صاحبه قارئه، لكن الواقع يقول إن ما حدث يفوق هذا التفسير البسيط.


من بين ما قاله رجاء النقاش عما جرى لتفسير «الجواهر»: هذا العالم الكبير وآثاره الهامة تبدو الآن عندنا منسية مهملة، ولا تعرف الأجيال الجديدة عنها شيئا، وكتبه لا يعاد طبعها باستثناء تفسير «الجواهر» الذى استولى عليه بعض الناشرين اللبنانيين حيث يقومون بطبعه وتوزيعه فى شتى أنحاء العالم الإسلامى. 


يضع رجاء النقاش أيدينا على علة هجراننا لطنطاوى جوهرى وأفكاره، يقول: كان فكره لو أتيح له من يعيد نشره والاهتمام به، كفيلا بأن يكون قوة كبيرة فى مواجهة الظواهر التى تزعجنا الآن فى مصر، وبعض أنحاء العالم الإسلامى، ومن هذه الظواهر: التعصب والتطرف والانحراف بالفهم الدينى إلى أفكار وآراء لم يدع إليها الإسلام فى يوم من الأيام، مثل الدعوة إلى محاربة الفن ومظاهر الحضارة الحديثة بناء على فهم خاطئ للإسلام ومعرفة ناقصة بأصوله ومبادئه. 


ولأن الليلة لا تزال مثل البارحة، فإن من يغذون جذور التطرف والإرهاب فى قومنا يحجبون عنا تفسير الجواهر، فهل آن الأوان أن نعيد إليه الاعتبار، ونجعله من بين مراجعنا المهمة، بدلا من التفاسير المتهافتة للقرآن الكريم؟... أتمنى ذلك.

اقرأ ايضا | الخلاص في الاشراق

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة