للفنان: صالح المالحى
للفنان: صالح المالحى


«شتائم» بقلم إياد برغوثي

أخبار الأدب

السبت، 30 أبريل 2022 - 01:34 م

خرج من البيت صارخًا شاتمًا، وكان كرشه المستخف بملابسه الداخلية العليا، التى كان لونها أبيض ذات مرة، يتدلى هاربًا من البنطلون القصير. شتمهم، لعن أباهم (...) لعن أبا هذه التربية الفاسدة. أما الجيران فقد أمسكوا خلال ثوان بالدرابزين الحديدية السوداء الحامية لشبابيكهم العالية من تهوّر الأطفال وحقّ الكبار بمشهد مدينة، تاركين أبطال المسلسل يتناقشون وحدهم حول سبل تهريب السلاح والأسرى والتحرّر من حصار المستعمرين. 


استفزته هذه المفرقعات المزعجة، التى تطوّرت بالسنين الأخيرة بشكل مقلق، أصبح صوتها عاليًا كالقنابل الصوتية، التى تُرمى عادة على بيوت المرشحين المنافسين فى الانتخابات المحلية، أو على المديونين لعصابات البنوك السوداء. كان عليه أن يخرج ليضع حدًا لهذه المفرقعات المحتفلة بالشهر الفضيل بعد كل إفطار، لأنه إن سكت قد تستمر طيلة رمضان، وهذه مشكلة حقًا، شهر كامل وليس ليلة عيد وحيدة تمرّ كيفما اتفق. 


سيارة الشرطة البيضاء تزيد من سرعتها وتدور حول الدوّار بصوت مبحوح، وضوؤها الأزرق يدور أيضًا على بنايات الحيّ، التى زيّن سكانها درابزين بيوتهم بأسلاك ملوّنة تضىء هلالاً ونجمة بكثافة غير معهودة، تعرّف عن وجودهم غير المرغوب فيه هنا، بالحارة الجديدة.


صراخ وضرب، يركض بسرعة ليرى من هم (...)  هؤلاء فينتقل السكان معه إلى شبابيك الطرف الآخر من البيوت. 

وضع «الأخ الكبير» كاميرات تصوّر كلّ شيء يجرأ على أن يحدث فى الحيّز العام، كلّ من يحاول سرقة سيارة أو يضطره بُعده عن بيته على الإدلاء ببوله وراء شجرة قصيرة أو حاوية نفايات، كاميرات ترى شلل الفتية والشباب تمشى كالعصابات، والأمهات تجرّ عربات أطفالهن على مهلّ وتتبادلن التعب والمجاملات، وصبايا تبحثن فى زجاج الحوانيت عن الفستان الضحية القادمة أو عن الحذاء المنشود لسهرة أخواتهن بعد العيدين. «الأخ كبير»، الذى يرى كلّ شيء، رأى الأولاد الذين رموا المفرقعات، رآهم يهربون فاصطادتهم الدورية القريبة بسهولة انقضاض قطة على عصفور مكسور الجناحين.


جارنا، الذى أفسدت شتائمه صومه ولغت كلّ الحسنات التى جمّعها جوعه وعطشه فى رمضان الصيفى المتعب، والذى هرب كرشه من البنطلون القصير، رأى الشرطة السرية تلصق ولديه على شبابيك دوريتهم، رآهم يدخلونهما إليها كأنهما خروفين يومين قبل عيد الأضحى، فشتم بصوتٍ أعلى «اتركوا الاولاد، (...)اتروكهن»...وركض. 


عندما سارت الدورية التى اجتمع فيها الأب مع أبنائه الأبطال، عاد الجيران للمسلسل وتأففوا بسبب الفقرة الدعائية، التى حفظوا نصوصها عن ظهر قلب. ما عدا أبو بسام، الذى قلع العباءة الحريرية الرمادية التى أحضرتها له أمه معها من العمرة التاسعة، ولبس زى الجاهة؛ قميص أزرق فاتح وبنطلون أسود بارزٌ محوره الوسطى الوحيد وحذاء يلمع.
وقف عند الباب يتفحّص إن كان تذكّر أن يأخذ كلّ شيء، هاتفه وعلبة سجائره ومفاتيح البيت ومحفظته السوداء وتعابير الأفندى، وقد انعكس عليه وميض الزينة الرمضانية الخضراء. أمسك العباءة مطوية بشكل غير مرتب. 


«لوين يا مسهّل؟» سألته زوجته.
«بدك يعنى أترك الزلمى لحاله؟ أكيد بده مساعدة».


«يروح أخوه، جوز أخته، احنا شو دخلنا؟ مش عارف يربى ولاده، وطالع يشقّع عطول حسه بالحارة زى الشلقة!».
«الجار للجار، بعدين عملولى قصة من فرقعيتين، ما هنّى بزتوا قنابل وزنها طنّ على غزة! مكيفين على جو رمضان هالولاد، شو هنى فجّروا مدرسة البحرية؟!» 
«ساوى اللى بدّك اياه»، واستسلمت.


ظهرت دعاية المحطة القصيرة التى تبشّر بعودة الأحداث، «محيى أصلك عقيد» قال له ابنه الأوسط فضحكوا، «يبعتلى حمّا يا أبى شو رجال وقلبك قوى» أردفت ابنته الكبيرة.


قبل أن يختفى ضوء البيت وصوت التلفاز نهائيًا وراء الباب قال: «ينعن أبو هيك جار، راح عليّ المسلسل...بعين الله». وأشعل ضوء الدرج، فظهرت زوجة جاره القاصدة بيته، «خليك جارنا، احضر تلفزيون...خليك بالبيت، أنا بروح» قالت وهى تنزل الدرج وتراه من فراغه، «جارتنا، جارتنا، والله ما كان قصدى، استني». خرج من بيته صامتًا شاتًما.

إياد برغوثى هو كاتب ومترجّم ومحرّر أدبىّ فلسطينىّ، من الناصرة ويسكن فى عكّا.. درس علم الاجتماع وعلوم الإنسان (الأنثروبولوجيا) والعلوم السياسيّة فى جامعة تل أبيب؛ كما عمل مديرًا لجمعيّة الثّقافة العربّية فى حيفا لعدّة سنوات، ومحرّرًا لصحيفة «فصل المقال» الأسبوعيّة. دراسته لعلم الاجتماع أثارت اهتمامه بالمدينة والهُويّة والذاكرة، كما إقامته فى يافا ثمّ عكّا وحيفا والإبحار بتاريخها وتحوّلاتها وحياة أهلها، ما دفعه إلى البحث عن صيغة لسردٍ أدبيّ جديد للذاكرة الفلسطينيّة، ما قبل النكبة وما بعدها. له عدّة إصدارات ومشاركات أدبيّة عديدة أبرزها رواية «بردقانة» (دار الآداب، 2014)، ومجموعتين قصصيتين: «نضوج» (مكتبة كلّ شيء-حيفا، 2006) و»بين البيوت» (دار ملامح القاهريّة-البيروتيّة، 2011) التى حازت فى العام 2008 على جائزة الكاتب الشاب من مؤسّسة عبد المحسن القطان. منذ العام 2018، يقوم إياد بترجمة وتحرير وإعداد مجموعة من كتب للأطفال.

اقرأ ايضا | سهير أبو عقصه داود | ستّى يا ستّى

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة