كان الشيخ عبدالباسط حريصاً على غـــــــرس القيــــــم الجميلة فى أفراد أسرته
كان الشيخ عبدالباسط حريصاً على غـــــــرس القيــــــم الجميلة فى أفراد أسرته


أبناء الصييتة «4»

اللواء طارق عبدالباسط عبدالصمد: والدى.. واحد من «مزامير داوود»!

آخر ساعة

السبت، 30 أبريل 2022 - 01:44 م

كتب: هانئ مباشر

لحظة رهيبة بكل تفاصيلها.. يعبر باب الاستديو وهو يجر قدميه بصعوبة بالغة، قبل أن يجلس على كرسى وُضِعت أمامه عدة ميكروفونات متدلية من السقف.. يُخرج من جيبه منديله القماشى ناصع البياض ليمسح قطرات العرق التى تفصدت على جبينه قبل أن ينظر إلى مهندس الصوت الجالس أمام أجهزة ضبط الصوت، لكن الصورة أصبحت فجأة سوداء أمامه..


اختفى المهندس وحل مكانه طفل صغير لا يتجاوز الخامسة من عمره يرتدى جلبابا يقف بجوار والده وسط مجموعة من أهالى القرية الذين التفوا حول منزل عمدة القرية مذهولين من ذلك الصندوق السحرى (الراديو) الموجود لدى العمدة، والذى تصدر منه أصوات غريبة، تمايل معها الطفل وهو مغمض عينيه محاولا تخيل أشكال أصحاب تلك الأصوات بعد أن سحره صوتها.

لقد كان "الراديو" الوحيد فى "أرمنت" كلها، وكان يبعد عن بيت الطفل حوالى خمسة كيلومترات، ومن شدة انبهاره بذلك الصندوق، كان الطفل يذهب حيث يوجد الصندوق مرتين كل أسبوع، يومى الثلاثاء والجمعة، وهذه اللحظات التى كان يقضيها بجوار الصندوق هى أسعد لحظات عمره.


كان يجلس مستندًا على جدار بيت العمدة والصندوق السحرى ينبعث من داخله صوت كأنه السحر، صوت فيه شجن وقوة وخشوع وفيه رهبة، وفيه دعوة إلى ملكوت الله، كان هو صوت "قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت".

 

فى تلك الفترة كان الطفل ضمن أربعة أشقاء، حرص والدهم على إلحاقهم بكُتَّاب الشيخ محمد الأمير، ولاحظ الأخير أن هذا الطفل نابغة فى الحفظ وإتقان مخارج الحروف رغم صغر سنه، يقرأ فتطرب الآذان له، فهو ليس كغيره، سبق كل سابقيه وأصبح ظاهرة فى القرية خاصة بعد أن أخذ القراءات على يد الشيخ المتقن محمد سليم حمادة، الذى حرص على أن يأخذ معه ذلك الطفل بعد أن كبر وأصبح فتى أينما حل وتجول فى البلاد التى تجاور "أرمنت" ويجعله يقرأ على استحياء ويفتتح السهرة القرآنية وعمره لم يتجاوز ثلاث عشرة سنة. ليبدأ فى احتراف قراءة القرآن الكريم، وكانت أولى لياليه فى قريته، وفى مأتم أحد أقاربه، وأعطوه أجره الذى كان 10 قروش فضة، وكان فرحا للغاية بذلك الأجر الذى حصل عليه من التلاوة، التى تعد الأولى فى حياته، واشترى "حلاوة طحينية وملبن وكراملة وفول سودانى ولب" ووضع الباقى فى حصّالة خاصة به، فقد كان حلمه أن يقطع تذكرة ويركب القطار إلى أبعد مكان.

 

وبالفعل فى سن الخامسة عشرة تحقق حلمه الكبير.. وركب القطار من أرمنت إلى القاهرة.. كان ذلك فى عام 1951.. وجاء ليزور مقام السيدة زينب ويحتفل مع المحتفلين بمولدها، ويستمع للقراء الذين سيحيون هذه الليلة، ولكن مع انتصاف ليل القاهرة أصاب القراء التعب والجهد فاستراحوا قليلا فرأى الشيخ سبيع إمام المسجد يقترب منه، ويؤكد أنه يعرفه وسمعه من قبل فى الصعيد، وطلب منه أن يقرأ عشر دقائق على سبيل البركة.. ورغم أنه لم يكن مستعداً إلا أنه قرأ..

 

قرأ (إذا الشمس كورت).. ولم تكد تمر دقائق على قراءته إلا أصبح المسجد صامتا ساكنا يستمع للفتى الذى أصبح شابا صغيرًا.. فقد لمست قراءته وجمال صوته قلوب كل الحاضرين فى المسجد والذين كان من بينهم مصطفى النحاس باشا (رئيس وزراء مصر وقتذاك) الذى سأل عنه وأمر بأن ينضم إلى الإذاعة، وبالفعل كان ضمن الموجودين من قام بتسجيل الحفلة على أسطوانات فأخذوها وتوجهوا بها إلى الإذاعة فتم اعتماده من الشيخ سبيع شيخ المقارئ..

ينتبه إلى نداء مهندس الصوت عليه أكثر من مرة..

لتختفى من أمام عينيه صورة الصندوق السحرى وصور الطفل والفتى؛ وبحركة من المهندس يعلن بها بدء التسجيل..

ويبدأ الشاب فى تلاوة سورة فاطر... لتستيقظ مصر فى اليوم التالى على صوت جميل ليس له مثيل من قبل، يتميز بطول النفس وحسن الأداء جذاب، وله أسلوب فى القراءة لا يقلد فيه أحدًا، وإنما هو لون جديد..

ومن هنا بدأت شهرة وأسطورة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد...

لقد عين الشيخ عبدالباسط قارئا لمسجد الإمام الشافعى، ثم لمسجد الإمام الحسين وبدأ صيته ينتشر فى كافة أنحاء العالم ويستقبله ملوك ورؤساء الدول..

أما قمة المجد والتكريم فهى لحظة أن قام بقراءة فى "مكة المكرمة" وحصل على لقب "قارئ مكة" وزار "جوف الكعبة" مرتين أولهما كانت مع محمد الخامس ملك المغرب الذى كان فى زيارة لمصر واصطحبه معه وسافرا إلى السعودية واستقبلهم وقتها ملك السعودية وكانت الزيارة بدعوة كريمة لحضور مراسم غسيل الكعبة ودخلا معا إلى جوف الكعبة وقرأ هناك القرآن الكريم فى مكة وفى المدينة وكان معه الشيخ محمد صديق المنشاوى فى المقصورة الرئيسية بالكعبة لدرجة أن الطائفين من إعجابهم بالصوت نسوا الطواف فتوقف الطواف وأبدت الشرطة مخاوفها من هذا التوقف ليؤثر خلال غسيل الكعبة..

أما الزيارة الثانية فكان أيام الملك خالد وكان معه الشيخ الطبلاوى والشيخ الرزيقى بدعوة كريمة لتسجيل القرآن بصوتهم هناك وعندما وصلوا مكة أعطوهم تصريح الدخول لجوف الكعبة ولم يقرأ الوالد وإنما قرأ الشيخ الطبلاوي..

 

لقد كان الشيخ عبدالباسط عبدالصمد حريصا على تعليم جميع أبنائه القرآن الكريم وغرسه فى نفوسهم، حتى أنه قام بإحضار شيخ خاص لتحفيظهم جميعا القرآن الكريم، ولم يكتفِ بذلك فقد كان يستغل فرصة بقائه معهم ، كان يستمع إليهم ويحاول تصحيح أخطائهم فى القراءة، فى المقابل منحهم جميعا حرية الرأى دون فرض أو وصاية منه فى نوع الدراسة أو العمل.. فقط كانت وصيته لهم أن يتقوا الله فى كل أعمالهم وأقوالهم.

فى تلك الفترة بدأ يلاحظ أن ابنه طارق هو الأقرب إليه فى التلاوة والقراءة حتى فى درجات الصوت فبدأ يتابعه، ويحرص على معرفة إلى أين وصل فى علم القراءات..

لكن فى الثانوية العامة حدثت مفاجأة للجميع.. فالابن يريد الالتحاق بكلية الشرطة، والأب لا يرغب فى ذلك نظرا لصعوبة العمل بالشرطة ويريد للابن أن يتفرغ للقرآن، لكن الابن ينجح فى إقناع والده أن العمل فى أى وظيفة كانت هو عمل يُسند للفرد، بالتالى التحاقه بالشرطة هو عمل بالفترة الصباحية، والقرآن الكريم كان فى الفترة المسائية.

وبالفعل ومنذ وطأت قدما الابن كلية الشرطة أيام اللواء النبوى إسماعيل وزير الداخلية وقتها، كانت الوزارة تستعين به فى المواسم الخاصة أو الاحتفالات الرئاسية وهذا الأمر أسعد الوالد الشيخ عبدالباسط.

ولم يخلف الابن العهد مع والده حيث نجح خلال عمله بالشرطة فى الحصول على ليسانس حقوق من جامعة عين شمس ثم التحق بمعهد القراءات فى الأزهر ودرس فيه لمدة سنتين وحصل على إجازة التجويد، ثم تقدم لعضوية نقابة القراء، بل وسجل القرآن الكريم فى قناة "المجد" وقرأه أيضًا برواية قالون عن نافع المدنى وهى التى يقرأ بها فى دول شمال أفريقيا والجزائر وتونس وليبيا.

< < <

< ما الفارق بين جيل الكبار من القراء والأجيال التالية لهم؟

- جيل الكبار الذى ينتمى إليه الوالد (رحمة الله عليه) نال قسطا كبيرا من الشقاء والتعب، جيل "نحت فى الصخر" ليصلوا إلى تلك المكانة والشعبية على مستوى العالم كله، وأصبح لكل منهم مدرسة مستقلة به حتى بعد رحيلهم.

< إذن أنت ترى أن القراء الجدد أغلبهم مقلدون.. بماذا تنصحهم؟

- بالنسبة لى ليس تقليدا فأنا امتداد لوالدى، لكن من يريد تقليد أحد لا بد من امتلاك خامة الصوت وأدوات القارئ الذى يقلده فهذا أفضل، لكن اصطناع الصوت والضغط على الحنجرة فهو لن يؤتى ثماره على المدى البعيد لأن التقليد لن يستمر لاختلاف مراحل العمر فى فترات الشباب أو الكبر أو الشيخوخة، لذا ننصح كل مقلد أن ينتهج نهجاً خاصاً به حتى تكون بصماته واضحة..

< لمن تحب أن تسمع غير الوالد؟

- أحب سماع القرآن بصوت الشيوخ محمد صديق المنشاوى والحصرى ومصطفى إسماعيل.

< يقال إنك "مقرئ الرؤساء"؟

- لقد قرأت القرآن فى حضور الرؤساء، فى عدة مناسبات والخاصة باحتفالات الشرطة، حيث قرأت فى حضور الرئيس الراحل مبارك فى حفلات تخرج طلاب الشرطة، وأول مرة سأل عنى اللواء حسن الألفى الذى كان وزيراً للداخلية وقتها، قائلاً له: "هو دا يقرب للشيخ عبدالباسط؟" فأجابه بأننى ابنه، فأثنى على صوتى، وقرأت أمام الرئيس عبدالفتاح السيسى وتأثرت عندما بكى فى حضور أسر وأطفال شهداء الشرطة..

< متى يتجلى الشيخ طارق عبدالباسط؟

- أتجلى فى حفلات الصعيد مثل والدى، فكان والدى أروع ما يكون فى حفلات الصعيد، حيث كان يقرأ القرآن من قلبه بنفحات، بعيداً عن أجواء الرسميات، والناس فى الصعيد يعشقون صوت عبدالباسط عبدالصمد، ونجد حفاوة كبيرة فى الاستقبال، ويطلبونى بصفة دورية فى الحفلات وإحياء الليالى..

< الوالد كان من عشاق سماع الموسيقى وغناء أم كلثوم.. فهل أنت على نفس الدرب؟

- يبتسم.... قبل أن يقول: نعم.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة