عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الأسبوع

الحرب الروسية الغربية فوق الأراضى الأوكرانية حسابات الحدود والوجود

الأخبار

السبت، 07 مايو 2022 - 07:17 م

لم تكن الأبعاد الحقيقية للأزمة الملتهبة بين روسيا الفيدرالية وجمهورية أوكرانيا منذ ما يزيد على ثمانى سنوات، والتى تجد امتداداتها فى الزمن الغابر، فى حاجة إلى اندلاع حرب مباشرة ومدمرة بينها لتخرج إلى العلن وتكشف عن تفاصيلها.

ويمكن القول بأن اندلاع الحرب المباشرة بين الجيران الأعداء مثلت، برأى الخبراء والمختصين والعالمين بخبايا الأوضاع المعقدة السائدة هناك منذ إعلان تفكك الاتحاد السوفييتى وبعده بقليل سقوط جدار برلين، لحظة مسح الغبار عن المرآة العاكسة لصورة المشهد على حقيقته، أو لجزء كبير منها على الأقل.


ومنذ إطلاق الرصاصة الأولى لهذه الحرب أدرك القاصى والدانى، أن المواجهة الحقيقية فيها تحصل لأول مرة خلال نصف القرن الماضى بين روسيا من جهة والدول الغربية من جهة ثانية، وأن جمهورية أوكرانيا مجرد مساحة لهذه المواجهة، وأن المدنيين والعسكريين من الجانبين مجرد حطب مناسب لهذه النار التى أخرجتها التطورات من تحت الرماد.


قد تكون موسكو أدركت واقتنعت أن التكلفة التى تدفعها فى استمرار حالة اللاحرب مع الغرب هى أغلى من الفاتورة التى ستدفعها فى حالة الحرب مع هذا العدو التقليدي، وأن الثمن الذى ستدفعه فى الحرب الدائرة رحاها اليوم قد يكون أقل من الثمن الذى ستدفعه فى حالة تأجيلها، لذلك قدر الحاكمون فى موسكو أن التوقيت مناسب جدًا لإشعال فتيل الحرب المباشرة مع الغرب فوق التراب الأوكراني.


التفسير المنطقى لما يحدث ويجرى لا يقبل، ولا يمكن، أن يقتصر على العوامل السياسية والاستراتيجية التى سرعت إعلان الحرب. ذلك أنه صحيح أن موسكو بعد الأحداث الكبيرة التى هزت المنطقة خلال بحر سنة 2014 بعدما نجح الغرب فى إسقاط النظام السياسى الذى كان مواليا لها فيما يشبه ثورة شعبية عارمة سماها الغرب آنذاك بـ (الثورة البرتقالية) وأدركت موسكو آنذاك أن حسابات الغرب وغاياته لم تعد تقتصر على تقليم أظافرها بهدف إضعافها وإنهاكها لتكريس الأحادية القطبية فى النظام العالمى السائد، لذلك سارعت موسكو بعد سقوط النظام الموالى لها إلى السيطرة من جديد على شبه جزيرة القرم سنة 2014 والتى تعتبر تاريخيا مركزا لأخطر المواجهات بين الاتحاد السوفييتى سابقا والغرب.

ويستحضر المؤرخون فى هذا الصدد الحرب المدمرة التى دارت طيلة ثلاث سنوات بين الاتحاد السوفييتى والامبراطورية العثمانية (1853 إلى غاية 1856) على هذه المنطقة التى كانت تنتمى إلى الاتحاد السوفييتى. ولم يخف الغرب آنذاك بقيادة المملكة البريطانية وفرنسا دعمه الكامل للامبراطورية العثمانية . حيث قدر الغرب فى حينه (تماما كما هو عليه الحال حاليا) أن أنقرة تخوض حربا ضد العدو التقليدى نيابة عنه.

و ظلت تترقب التطورات الحاصلة بيقظة كبيرة إلى أن قدرت أن الغرب قرر الضغط على زر التصعيد للحسم فى المواجهة المباشرة بالإعلان عن بداية الترتيبات النهائية لانضمام جمهورية أوكرانيا إلى حلف الناتو بما يضمن محاصرة كاملة وشاملة لنظام الرئيس بوتين، ويضع حصى حادة فى حذاء روسيا.


وصحيح أيضا أن هذه الحرب وليدة شرعية لتجاذبات ولحسابات الصراع والتنافس المحتدمين منذ عقود طويلة بين الغريمين التقليديين حول السيطرة على مناطق النفوذ فى العالم، والإمساك والاستفراد بمقود سير قاطرة النظام العالمى الجديد. لكن الأكثر واقعية فى قراءة ما يحدث يحتم القول إن هذا المعطى بدوره سبب من أسباب أخرى لم تبرز فوق السطح بالوضوح الكامل.


كلها تفاصيل تفسر بعضا مما يحدث، وتكشف عن مقطع من مقاطع مشهد بالغ التعقيد. لكن ليس بمقدورها عكس الحقيقة كاملة كما هى سائدة. ولعل هذه التفاصيل تحيل بالضرورة إلى مصدرها الحقيقى الذى يتشكل فى أسباب عميقة ترتبط بالإيديولوجيا تحديدا، وبالقضايا المرتبطة بها. فحسب كثير من الخبراء فإن الثقافة السوفييتية برمتها وعلى امتداد حقبة طويلة من التاريخ ركزت على الدوام على افتقاد أوكرانيا للهوية الجيوستراتيجية التى تجعل منها كيانا قائما و مستقلا بذاته و فاعلا فى الأوضاع بالمنطقة، وظل الفهم السوفييتى يعتبرها امتدادا جغرافيا طبيعيا وعاديا للقومية الروسية التى نظر لها العشرات من الفلاسفة والمفكرين الروس، والتى تمتد إلى جمهوريات أخرى خرجت فى طبعتها الراهنة من رحم تفكك الاتحاد السوفييتى السابق.

وعلى هذا الأساس فإن المواجهة التى تبدو فى شكلٍ سياسى عسكري، هى تخفى حروبا هوياتية، روافدها قضايا اللغة حيث تصر موسكو على اعتبار اللغة الروسية اللغة الحقيقية لأوكرانيا، والدين، وهنا يجب أن نذكر بموقف الكنيسة البطريركية الروسية التى ظل موقفها من أوكرانيا غامضا إلى اليوم.

وهو الموقف الذى يستند إلى مفهوم الأراضى الكنسية التى تعتبر أن الجغرافيا الروحية للكنيسة تتجاوز الأراضى الروسية وتمتد إلى جمهوريات أخرى مجاورة لروسيا.

كما أن هذه الكنيسة ظلت تروج لمفهوم (العالم الروسي) فى إشارة لا تحتاج إلى تشفير إلى ضرورة إعادة الوحدة للأراضى الروسية التى تنتمى إليها أوكرانيا.


وبالنسبة لموسكو، فإن الأيادى الأوكرانية ليست نظيفة ولا طاهرة من وصمة تواطؤ كييف مع النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وهى الذريعة التى اتخذها النظام السوفييتى السابق المنغلق ذريعة لشن أخطر حملات قمع ضد الأوكرانيين.


لذلك يمكن المجازفة بالقول إن موسكو تنظر إلى حربها ضد الغرب من خلال أوكرانيا على أنها حرب وجود، بيد أن الطرف الآخر يتعاطى معها على أساس حرب حدود مستمرة وممتدة فى المستقبل، مما سيمكن على المدى البعيد و حتى المتوسط من تقزيم الدب الروسى وترويضه.
> نقيب الصحفيين المغاربة


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة