خلطة سحرية للعيون المتعطشة للدهشة
خلطة سحرية للعيون المتعطشة للدهشة


خلطة سحرية للعيون المتعطشة للدهشة

أخبار الأدب

السبت، 14 مايو 2022 - 02:41 م

سمير عبد الغنى 
 

يكتب محمد عبلة ببراعة مثلما يرسم ويخطف قلوبنا وعقولنا وهو يتحدث عن مسيرته الفنية من خلال مذكرات كتبها على صفحته وقريباً سوف تطبعها مؤسسة «ضى» فى كتاب مع معرضه الاستعادى

أيقظتنى زوجتى من النوم لتزفَّ لى بُشرى حصول الفنان محمد عبلة على وسام جوته، أرفع وسام فى ألمانيا. كنت فى حاجة إلى خبر جميل، وفكرت طوال اليوم أن الاعتراف العالمى يعطى الفنان هالة ضوء، إشارة مضيئة فى واقع مظلم، ولكن هل فعلاً أن محمد عبلة لم يكن مضيئاً قبل الوسام؟ الحقيقة التى لا جدال فيها، أن عبلة مضىء فى هذا الواقع المظلم حتى شاهده العالم الآخر فأعطاه الوسام.


محمد عبلة متحقق وموجود على الساحة يكتب مذكراته ويرسم لوحاته ويدرِّس فى معهد السينما ويقدم طريقته التفاعلية فى مدارس الأطفال ويرسم على الماء ويقدم تجاربه فى الفن والحياة للطلبة المصريين والأجانب فى مدرسة الفنون بالفيوم، كما يباشر التجديدات فى متحف الكاريكاتير وتطوير المكان الذى أصبح قبلة لزوار قرية تونس من المصريين والأجانب. نجاح عبلة هو الدرس الذى يجب أن نتعلمه فى مدرسة الحياة. 


من معرض لمعرض يقدم عبلة فناً يشبهه، مزيجاً من التجارب وخبرات السنين ومشاهدات لا تنتهى تشكّل فناً يشبه العسل. خلطة سحرية للعيون المتعطشة للدهشة.


فى التسعينيات سمعت عن معرض بعنوان «السلم والثعبان»، وعرفت أنه للفنان محمد عبلة الذى لم ألتقه قبلها. 


اتجهت فى طريقى إليه بقاعة المشربية، فى شارع شامبليون، وكان معى الصديق الصحفى على حامد، وهناك قابلنا محمد عبلة. سلم عليه وعلىَّ وكان جالساً يضع ساقاً فوق أخرى. قدمنى حامد إليه قائلاً: «الفنان سمير عبد الغنى رسام كاريكاتير». لم ينتبه محمد للاسم وقال وهو يتراجع للوراء: «فيه فنانين كتير شباب، لكن أنا معجب برسام بيرسم فى جريدة القاهرة، وبيعمل عينين تحت الكاريكاتير». ضحك على حامد وأشار إلىَّ مرة أخرى وقال: «هو ده، بيرسم فى القاهرة والعربى الناصرى». عندها وقف محمد عبلة وسلم علىَّ من جديد واحتضننى بمودة. لا أنسى أبداً هذا اللقاء.


فى إحدى المرات قلت للفنان حسن حاكم: «أنا رحت معرض محمد عبله مع رباب وياسمين (ابنتاه) فى معهد جوتة الألمانى بيتكلم عن النيل، ولم أفهم شيئاً. شفت زبالة وعجل كاوتش، وشخبطة، مش عارف هو عايز إيه؟»، ورد حاكم: «انت حمار، لو مش فاهم روح اسأله. الفن مش مجرد لوحة، فيه رسايل كتير للفن وأحياناً بتكون غير مباشرة.. ارجع تانى واتفرج كويس واسأله، محمد فنان كبير مش بعبع»، وفعلاً عدت.


فى أحد معارض عبلة تعمد أحد الضيوف أن يقول إن اللوحة التى أمامه لم تعجبه، وكان رد عبلة: «بص على اللى بعدها، المعرض مليان لوحات».


لا أعرف ما هو السر فى إعجابى بمحمد عبلة، هل هو حبه لفن الكاريكاتير؟ هل المتحف الذى أقامه تحية لكل أسطوات هذا الفن؟ صدقه وهو يتحدث عن حياة بائسة استطاع أن ينتصر فيها؟ فنه الجديد والمتجدد؟ إنه صاحب شطحات فنية، ولا يقف عند منطقة أو حالة أو تصور أو طريقة واحدة للنجاح، يؤمن أن الفن ليس «كشرى»، وجبة معروف كل تفاصيلها، يرى أن الفن مغامرة، رحلة صيد، فى كل مرة تنتظر نوعاً جديداً من السمك.


أجمل ما فى فن محمد عبلة هو ارتباطه بالناس، فهو يرى أن الفنان يجب أن يكون صاحب قضية ومهموماً بالبشر ومشاكلهم، ويقول دائماً: «أحاول عمل المزيج بين الفن والنقد الاجتماعى، وأناقش كل القضايا ولكن بأسلوب عصرى». ربما هذا الاهتمام هو الذى جعله يؤسس أول وأهم متحف للكاريكاتير فى الشرق الأوسط والذى يعتبر دفتر أحوال الوطن ولحظات انتصار المواطن البسيط، قبل أن تصل إليه بعشرة كيلو مترات فى قرية تونس بالفيوم سوف تسمع أصوات ضحكات المبدعين الكبار صاروخان وسانتيس ورخا وزهدى وطوغان ومصطفى حسين وجاهين وحجازى. هذه البهجة التى جعلت كل من يذهب للمتحف يعود إليه مرة أخرى.


عندما قررت أن أكتب عن محمد عبلة كان يجب أن أقرأ «السى فى» الخاص به فاكتشفت أنه يحتاج إلى شهر من التفرغ. إنجازاته وجوائزه ومعارضه وكم الدول التى زارها واحتفت بفنه تجعلك تشعر بالفخر أن لدينا فناناً بحجمه. مشوار كبير من كفر الشيخ، مروراً بكثير من المحطات وحتى لحظة اختياره ممثلاً عن المبدعين عندما فكروا فى كتابة دستور جديد لمصر.


أحبَّ عبلة الإسكندرية وكان يمشى من باكوس حتى القلعة (حوالى 10 كيلو مترات) ليرى شروق الشمس أو لحظة الغروب، ويتكلم عن هذه الأيام بمحبة، مؤكداً أنه يعشق المجموعة اللونية المبهرة الخاصة بتلك اللحظة كلون البحر والرمل والسماء والمراكب والشمس. يقول: «إذا رأيت عملاً لى يعجبك فيجب أن تعرف أن المدرسة التى تعلمت فيها كل شىء جميل كانت هذه اللحظة وهذا المكان فى الإسكندرية».


يكتب محمد عبلة ببراعة مثلما يرسم ويخطف قلوبنا وعقولنا وهو يتحدث عن مسيرته الفنية من خلال مذكرات كتبها على صفحته وقريباً سوف تطبعها مؤسسة «ضى» فى كتاب مع معرضه الاستعادى. أحياناً يُتهم محمد عبلة بأن فنه ليس خالصاً وأنه يضع قدماً هنا أو هناك، وأذهب إليه منفعلاً وأسأله، فيقول: «الفرد يولد وهو لا يعرف كل شىء. أنت تتعرف على العالم من خلال تجارب الآخرين ولك الحق أن تتعلم منها وتأخذ ما تريد، ولكن يجب أن تكمل من عندك، لا بد وأن يكون لديك ما تضيفه، والأجمل ألا تتوقف، وألا تصبح نسخة باهتة. قريباً جداً سأقيم معرضاً استعادياً وسترانى فى أعمال كثيرة، هناك خيط ممتد يبدأ من الأحلام فى كفر الشيخ مروراً بتأثير أساتذة كبار تعلمت منهم، وكذلك من شاهدت أعمالهم فى متاحف العالم، وأيضاً بشر عاديين شاهدتهم وهم يتحركون فى الشارع، طلاء على الحائط، مراكب تحمل محبين، أو بقعة ضوء من الشمس تسقط على شجرة أمام بيتى.. أنا مزيج من كل الفنانين الذين أحببتهم وتأثرت بهم وشاهدت أعمالهم».


تقريباً شاهدت كل معارض محمد عبلة، لكنى لا أنسى الأستاذ عبدالله السناوى رئيس تحرير العربى حين قال لى: «هناك معرض لعبلة بقاعة الزمالك شوفه واكتب عنه». سألته: «خبر؟». أجاب: «صفحة كاملة». كان المعرض عن «أبراج القاهرة» وهناك جمهور كبير بالقاعة أذكر منهم المخرج يسرى نصرالله، الذى قال أمامى للفنان: «كنت أتمنى أن أحصل على لوحة، ولكنك أصبحت أغلى من أحلامى يا عبلة». كان عبلة مشغولاً بالزوار فقررت أن أشاهد اللوحات وأتحدث إلى الجمهور، أبحث عن كلمات أملأ بها صفحة كاملة، ثم وضعنا كلمة عبلة التى كانت فى البانفلت: «فى مرسمى الجديد فى وسط القاهرة، رأيت من الشباك المدينة وهى تمتد أمامى بشوارعها ومبانيها. فى كل يوم أختار أحد المبانى لأعيش معه وأسرح متخيلاً ما عاصره من أحداث وما اعتراه من تغييرات من فعل الزمن وفعل الناس، تلك الإضافات الدائمة من اللون والأشكال. تتحول تلك المبانى مع الوقت إلى كائنات حية تروى لى مئات الحكايات وتكشف مئات الأسرار. بعد مرور عام تجمعت أمامى عشرات المبانى أجالسها وأتحاور معها. وأعيد صياغتها وتنظيمها. أصبحت مأخوذاً بتلك اللعبة ولكنها قادتنى للتساؤل عن القدر الذى تقودنا إليه تلك المدينة، أو إلى أين نأخذها نحن؟ هل من سبيل لإنقاذها؟ هل هى أبراج القاهرة؟ وعلينا أن نرضى بها كما هى، أم هو برج بابل؟».


فى جريدة العربى تحدثنا عن الثورة والتغيير واعتبرنا عبلة يفتح باباً لأسئلة كثيرة اجتماعية، وأن المبانى تعلن عن عدم رضاها عن كل «أحوالنا المايلة»، وأن عبلة أحد الأبطال يصرخ وبقوة من خلال فنه، فى وقت يرسم فيه الكثيرون مناظر للبحر.


هناك حوارات عديدة كانت مع عبلة، لكن صديقى الشاعر على سعيد سأله سؤالاً تمنيت أن أطرحه عليه: «لماذا ترسم البسطاء ثم تجعلهم مجرد هدايا يعلقها الأغنياء على حوائط فيلاتهم وجدران قصورهم؟!»، وكان رد عبلة: «أولاً، لأنك تريد أن يشعر الأغنياء بالفقراء، وثانياً أنت ترسم لوحة لا تعلم إن كنت سوف تنتهى ببيعها أم لا، وهذا الموضوع ليس له علاقة بالفن، وأنت كفنان تقوم بعمل اللوحات، ويتساوى لديك أن تباع أو لا تباع، ومشكلة الفنان هى أن ينتج فناً، ولا يهمه هل يحصل عليه الأغنياء أم الفقراء، وعموما فى تاريخ هذا الفن كانت السطوة فى الاستحواذ عليه للكنيسة، ثم للأرستقراطيين، وبعد ذلك طبقة التجار الأغنياء البرجوازيين، ولكن الفقراء لم ولن يحصلوا عليه أبدا، فهم يبحثون فقط عن الطعام، ولو كانت لدىَّ مهارة الخبز كنت قمت بعمل الخبيز وأرغفة العيش وفرقته على الفقراء».


سألت عبلة بعد خبر حصوله على وسام جوتة: «من كنت تحب أن يكون على قيد الحياة ليسمع بالخبر؟» فأجاب: «أبى. كان يرفض أن أكون فناناً، واليوم هذا الفتى يحتفى به العالم، لم أكن حالماً أو موهوماً، كنت أسير فى اتجاه قدرى». وعندما سألته: «ما المشترك بينك وبين جوتة؟»، أجاب: «بيننا هذا الشغف بالتعلم والإصرار على النجاح».


عندما يذهب عبلة فى شهر أغسطس لتحتفى ألمانيا به ويشاهد الناس هناك ابن الشرق وهو يقدم «بالتة» ألوانه الدافئة والمشرقة بالأمل والتفاؤل فى معرض يستمر شهراً يقدم الفنان جزءاً بسيطاً من قصة نجاح الفلاح الفصيح.

اقرأ ايضا

 بعد حصوله على وسام جوته الألماني.. محمد عبلة: لا أريد أن أكون مجرد عابر سبيل

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة