آخر: السرد السيرىّ بين التخييلىّ والمرجعىّ
آخر: السرد السيرىّ بين التخييلىّ والمرجعىّ


من كتاب «رواية آخر» السرد السيرى بين التخييلى والمرجعي في نص «آخر»

أخبار الأدب

السبت، 21 مايو 2022 - 03:05 م

بقلم : د. أدهم مسعود القاق
ارتكز الروائى محمد القصبى فى بناء نصّه «آخر» على تخييلٍ روائىٍّ؛ مستمدًّا مرجعيته من السرد السيرىّ الذاتى أو الغيرىّ، بل تماهى المؤلّف بالسارد، واندمج فى معاناته، مما ولّد انسجامًا بينهما وليس صراعًا، وأنتج مسارًا رئيسًا فى عملية السرد قوامها التخييل السيرىّ، تكثّفت من خلاله أحداث الرواية، لدرجة أحالها السارد إلى بؤر يعيشها القارئ فى حيثياتها.


منذ الاستهلال دُفع باب الغرفة بعنف، وبدا عليه القلق والهلع؛ فاغتصاب الزوجة الصامتة وشظايا داخله تتقافز من عينيه؛ إذشعرت الزوجة بالهلع، فأحكم قبضتيه الخشنتين بقسوة حول رقبتها، وتحوّل إلى شره، وكاد ينتزع شفتيها بمصّهما، وفى النهاية تشعر بقربه منها، مخمّنة أنّ الحاجز بينهما قد حطّم، ولكنّها تفاجأ بأنه مايزال على شكوكه، فتبكى أمامه، وتؤكّد وفاءها له، فيصفها بالداعرة، ويغرس أظافره في لحمها وهو يحسّ بغموضها.. يعاشرها بقسوة، تحاول ضمّه، ولكنّه يفلت منها، ويداوم على خروجه من البيت تائهًا فى الطرقات.


ويستمر الكاتب فى استخدام ألفاظ تكشف عن روح السارد المعذبة، ذاكرته حمم بركان، مشطور بأخاديد الشكوك، التلاشى ورغبات الشيطان رافقته منذ 25 سنة، حين تأوهت زوجته إيمان بعد ٧ سنوات زواج ولفظت اسمًا آخر، فانشطر عنها، على الرغم من تأكيدها له أنّ لا أحد غيره من الرجال لمس جسدها، بقى يجترّ هزيمته مخفقًا مع وجع شعوره بالانكسار، منذ سعير أسواط تلك الليلة، التى تحرقه.. لقد أسّس الكاتب لنصّه جاعلًا الذات هى المحور فى سرديته، وهى المبصرة لما يحيط بها، كما جعل شخصية السارد مستعيدًا أحداثًا ماضية..هو ابن القرية التى لا ترحم من يستهين بكارثة الشرف، ووصف القرية والقيم الشرقية القروسطية، فمنح المسرود قدرًا من المرجعية أكثر من التخييل السرديّ، هذا ما يؤكّده خروجه وهيامه فى شوارع المدينة باحثًا عن ذلك الأصلع، وليؤكّد السارد المرجعية الواقعية لسرديته يصاب الرجل بكسر فى ظهره فى خضم شكوكه، حين كان يهيم على وجهه فى الشوارع، واحتاج مبلغًا كبيرًا من المال للعلاج فى ألمانيا، وحين عجز عن توفيره، تحوّلت غرفة نومهما إلى صحراء، إلى أن وفرته زوجته الوفية له من ميراثها، وسافر وإياها ونجحت العملية فى ألمانيا، ورجع طبيعيًّا، ولكنّ قلقه استمر.


ثمّ يكشف لنا السارد عن غريمه، الذى قد يكون على علاقة بزوجته، هو شوكت الأصلع العربيد، وتوهّم أنّها تبعده عن الشكوك بها بإعلان كراهيتها لكلّ أصلع، بات السارد يشكّ ببراءة زوجته إيمان الريفية وطهارتها، على الرغم من قسمها على المصحف، وحنوها عليه وعلى ابنه، بل أصبح يتساءل عن قبوله أن يكون ديوثًا، بناء على ما طالعه عن تنظير علم النفس للرجل الذى لا يغار على أهله.. ويتساءل عن سارتر الديّوث كما وُصف، الذى رضى بعلاقته مع سيمون دى بوفوار بميثاق: (أخونك بمعرفتك) ويطيل الكاتب بسرد طبيعة تلك العلاقة العشقيّة الملتبسة بين اثنين من كبار مثقفى القرن العشرين؛ إذ سمح سارتر بأن تستجيب محبوبته لغواية فحولة المفكر الأمريكى،  على غير ثقافتنا الشرقيّة..ازدادت شكوكه، انسحق واستشرس وضغط على إيمان؛ لتعترف له بشوكت الذى لفظت اسمه فى أثناء علاقتهما الحميمية متسائلًا عن قبوله أن يكون ديوثًا يتناسى إثم الزنا الكبير، وفجأة يهاتفها، ويداهمها فى المطبخ، وهى تحضّر له وجبته المفضّلة، يمارس معها العلاقة فى غرفة الاستقبال؛ ليشعرها بلذة السرقة، يمارس معها بنشوة، ويستشعر استجابتها لرغبته الحيوانية، ولكنّ الشكوك بصدقها أصبحت أكسجينه، وزفيره ألسنة لهب لأسئلة لا تنتهي.. فى سرديته هذه ظهرت الأنا الواقعيّة الساردة، لا غموض فى وساوسها ولا إخفاء لمشاعرها، بل أراد الكاتب أن تكون الأنا مركز ثقل الحكاية، مما اضطره توظيف لغة منفلتة من الانتساب للغة السرد، تجاوزها إلى لغة أقرب للغة الصحافة أو المونولوجات الداخلية، التى غالبًا ما تكون أقرب للغة الشعر، ولعلّه بحوار نفسه استشعر ماسوشيته لأنّه يستعذب وساوسه، ويعود لطفولته.. يتذكر أعراضًا فى سلوكه تؤكّد ماسوشيته.. إلى أن يغوص فى محرّك البحث جوجل؛ ليقرأ فى علم النفس، ويعرف أنّ زلة لسان الزوجة عبارة عن تخيّلها علاقة جسدية سابقة، فتداهمه الكوابيس فى نومه، ليتعاطى أدوية منوّمة، وأبى أن يبرح كنبة فى غرفة الاستقبال، التى باتت سرير نومه لشهور عدة، كما يدمن على متابعة أبحاث جوجل، فتتقاذفه أفكار الظنون والشكوك، إلى أن يلجأ إلى شقيقه الأصغر، القارئ والعارف والحكيم فى قريته، ويستشيره ويطلب منه ألّا يبوح بأسراره لأحد، ويجيبه أنّ عليه أن يتخلّص من أوهامه، ويطلب منه أن يتقى الله بزوجته إيمان، وشهد لها بالاستقامة والشرف الرفيع، بل طلب منه أن يأسف لما يفعله بها.


 أما قصص زملائه عن متدينات خُنَّ أزواجهن، فكانت تجعل شكوكه بإيمان تستعر، لاسيّما حين سألها صراحة عن شوكت، وأنكرت معرفتها به..كما يطلعنا الكاتب على أنّ بطله مرشّح لمنصب مدير عام للتسويق الخارجى فى شركة مهمة، وهو ناجح فى إدارته وعمله، ثمّ لم يكتف بجوجل، بل اهتدى إلى رفوف دار الكتب؛ إذ طالع فى كتب علم النفس، وعرف أشياء عن أمراض الوهم والتوهم، وكذا الحال استطاع أن يستحوذ عن طريق جوجل على عشرات الآراء حول قلقه على زوجته، التى ربما تكون قد خانته قبل ربع قرن، يتخللها الهجوم عليها بعنف انتقامًا من الأصلع، الذى لفظت اسمه، من قبل، ثم ينهض عنها ويلهث فى شوارع المدينة، إلى أن يستقرّفى إحدى المقاهى،  فيعود إلى حكايات جوجل من جديد، التى تضلله أكثر مما تجعله غير مرتاح البال، إلى أن يلجأ لشيخ مغربيّ، ويغوص معه بمشكلته، ويكتشف صديقة زوجته فى زيارة للشيخ، فيزداد قلقًا بل هلوسة على حقيقة خيانة زوجته إيمان له.

لعلّ التخييل السيرىّ  يتصل بجسور راسخة مع التحليل النفسيّ.. هو كتابة سرديّة تتسم بالغموض، لذلك زاوج السارد فى نصه السرديّ(آخر) بين الاسترسال فى التخييل وتوصيف وقائع حياة الشخصيات الورقيّة التى يسرد عنها، وغالبًا اختار مادته الأوليّة من تجربة واقعيّة معيشة بالفعل، لذلك نجده استرسل فى الاستقصاء عن تفاصيل تتعلق بهلاوس الشخصية وهذاءاتها وفق مايصفها التحليل النفسيّ، وبذكرياتها عن الطفولة، التى أكّد استعدادها للإصابة بالاكتئاب والوساوس القهرية.. كما يذكر الكاتب عن حكمة الإسلام بسماحه تعددية الزوجات، ويستشهد بمواقف رجال كبار وعلى رأسهم الرسول لنشدان الفحولة فى نفس المؤمن، ويقدم شرحًا عن الغول الجنسىّ، وبذلك كشف الكثير من الانتكاسات النفسيّة الذاتية للذات الساردة.
ويورد إحصائيات عن حالات اغتصاب فى بريطانيا والولايات المتحدة، ولعل النص مفعم بنشدان نقل المعلومات وتحقيق وظيفة اللغة المعرفيّة، وهذه سمة أساسيّة من سمات التخييل السيرىّ  أيضًا.


كما يذكّر على الدوام بزوجته إيمان كونها إنسانًا غامضًا، ولكنّ لا ينى يعرّج لآراء أساتذة فى علم النفس حول الوساوس التى تسيطر عليه منذ ربع قرن، مما جعله هائمًا على وجهه فى شوارع المدينة، ويقرّ أنّه الاكتئاب، ويعرض لأسبابه على ألسنة قراء جوجل والطبيب النفسى وأخيه الأصغر، ولكنّه يقول: «جميعهم يتآمرون على تحطيمى،  إيمان والأصلع والجينات...»


 رواية (آخر) عمل سردىّ سيرىّ  يُشعر سارده ومتلقيه بالعار من جرّاء سلوك غير سوىّ، وإن كان الكاتب قد استخدم أشكالًا للتحليل والذكريات التى مسّت الذات الساردة، أو الكاتبة، فإنّ المسرود عرض لمعمعات الحياة المعيشة، ولعلّ المؤلف نجح فى التعريف بتهويمات النفس القلقة، بل المكتئبة، كما أظهر اعترافات السيرة وهواجس الذات الساردة، مما أدّى إلى أن يذكر دموعه فى أثناء أدائه مناسك الحج، ثم يذهب إلى شيخ الجامع، ويستفتيه بشأن وساوسه نتيجة شكوكه بخيانة إيمان له، ويذكر حادثة الإفك بحق عائشة، فيطمئن قليلًا، ثم تعاوده الظنون التى تنخر نفسه وكيانه، ويلتقى برفيقه.. يحكيان عن أسطورة سيزيف التى تشى بعذاب المرء العبثىّ إذا ترك وساوسه تسيطر عليه.


ولكنّ كل ذلك لم يمنعه من البحث عبر جوجل عن دمية سامنتا التى تغنيه عن علاقته بزوجته ، ويكتشف مديحًا لها، ثم يعود إلى شكوكه حين تتأخر إيمان بالاتصال به، بل تحولت إلى تهويمات ووساوس قهرية مزمنة قادته إلى التفكير بالانتحار، لم لا.. إذ أعلى نسبة انتحار فى الدول الإسكندفانية الأكثر رفاهية فى العالم، وينتهى بتوجهه نحو النهر محاولًا الانتحار، ولكنّه يسقط ببطء إلى رصيف المشاة، لينظر إلى صفحة النهر، فتتراءى أمام ناظريه أشباح الشيخ المغربى وسامنتا والأصلع وهو يعتلى إيمان.


تصنّف رواية (آخر) لمحمد القصبى فى جنس التخييل السيرىّ، فالسارد يسترجع وقائع تجارب حياتية، وينتقى منها ما يغوى به القارئ، يستدرجه للانخراط بفعل القراءة، ليس القراءة فقط، بل يورّطه فى ولوج عالم التأويل، وربما التحليل؛ ويجعله متفكّرًا بأحداث عاشها بنفسه، أو اطّلع على مثيلاتها عند المقرّبين منه، هو أقام نصّه السردىّ  على تجربة سيرية وغذّاها بمخياله الخصب الذى ينمّ عن تجربة واسعة فى حقل الأدب والصحافة.

كاتب سورى

اقرأ ايضا

 أحمد أوميت: لا مثقف يعيش في قصر زجاجي| حوار


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة