صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


كيف يُنازل أدب الحرب عوالم الحقيقة والخيال؟

أخبار الأدب

السبت، 04 يونيو 2022 - 01:16 م

بقلم : فيل كلاى
ما يلى مُقتطف من كتاب فيل كلاي: أرض مُلتبسة، المواطنة فى عصر حروب لا مرئيّة متواصلة (2022)، وفيه يُشدد الكاتب على ضرورة تخييل الواقع ومُحاكاته عند الكتابة عن الحرب. وفيل كلاى جُندى متمرِّس بسلاح مشاة البحريّة الأمريكي، ومؤلِّف «إعادة انتشار» التى فازت بجائزة الكتاب الوطنى للرواية فى العام 2014، و«مُبشّرون» التى اختارتها الوول ستريت جورنال من بين أفضل عشرة كُتب للعام 2020.     

أضبط نفسى أحيانًا باللقاءات الصحافيّة أتكلّم عن مجموعتى القصصيّة التى تدور حول حرب العراق كأنّها [القصص] نوع من الصحافة الأدبيّة. أريد أن يفكِّر النّاس فى تاريخهم الحديث، ويتخيّلوا حيوات الجنود وما يعنيه أن نخوض حربًا. أريد هذا حقًّا لأنّ التمتّع بفهم أثْرَى لتجربة الحرب مسألة حتمية لفهم أثْرَى لالتزاماتنا تجاه عالم مزّقته الحروب والعنف السياسي. على أنّ قراءاتى فى أدب الحرب الذى يبدأ وينتهى بتقمّص وجدانى تُبهظنى دائمًا؛ إذْ ثمّة تجربة أصيلة آسرة تتلوها كتابة وقراءة الرواية، وسؤال: «ما حال؟» ليس سوى ذريعة على أى حال، وذريعة مُراوغة فى أغلب الأحيان.

ففى [قصيدة] ولفريد أوين، ما حال أن تكون: «محنيًّا، مثل شحّاذين عجائز يحملون أجولة/سيقانهم ملويّة، ويسعلون كأنّهم ساحرات شمطاوات... كُلّهم يعرجون، وقد أعماهم/ وأسكرهم الإرهاق، وما عادوا يسمعون نعيب/ القذائف المخذولة التى هوت خلفهم.» وتحكى قصيدته الموجّهة إلى «شاعرة بعينها» [وهى الشّاعرة المدنية الوطنيّة جيسى بوب] للقارئ أنّهما لو تمكّنا أيضًا من: «المشي/ خلف العربة» أو «مُشاهدة العينين البيضاوين تكتبان فى وجهه» أو: «سماع؛ عند كل هزّة، غرغرة/ الدماء داخل الرئات التى ترغى وتزبد.» لتمكّنا آنئذ من أن لا يقولا للأطفال: «الكذبة القديمة: ما أجمل وأشرف أن تموت لأجل بلادك.»  

لكن بالنسبة لإرنست يونجر، هاكم حال أن تُقاتل فى نفس الحرب: «ذكّرنى تبادل القنابل اليدويّة ببناء الأسوار بأوراق القصدير، كان عليك أن تثب وتتمطّى، كأنّك ترقص الباليه تقريبًا... فى تلك اللحظات، تمكّنت من رؤية الموتى- وثبت فوقهم بخطوات واسعة - من دون فزع. يتمددون هُناك بتلك الوضعيّة المرتاحة الهادئة التى تميّز تلك اللحظات التى تُغادرنا فيها الحياة.»  

وبالنسبة لفورد مادوكس فورد؛ وهو الآخر جندى متمرِّس شارك فى الحرب العالمية الأولى، كان سؤال «ما حال؟» يعنى الانتظار:  
الحرب هى سيرورة الانتظار الّذى لا ينتهي. إذْ تنتظر وتنتظر، ولا تفارق مكانك أبدًا: انتظارًا لسقوط القنابل اليدويّة، أو الاشتباك، أو الجنرالات، أو الدبابات، أو الانتقال، أو إخلاء الطريق أمامك. تنتظر داخل المكاتب تحت عيون ممرضات ناعسات، أو تحت القصف على ضفاف القنوات، تنتظر داخل الفنادق والمخابئ وأكواخ الصفيح والبيوت المحطّمة. ما من رجل نجا فى قوات جلالة الملك المسلّحة لن يتذكّر تلك الساعات السرمديّة، حين توقّف الزمن نفسه ثابتًا باعتباره الصورة الحقيقيّة للحرب اللعينة!  

يكفى ما فى تجربة الحرب من تنوّع هائل كُتّاب أدب الحرب المُعاصرين لملء مُجلدات؛ إذْ يكتب تيم أوبراين: «الحرب جحيم، على أنّ ذلك ليس كل شيء؛ إذْ الحرب لُغز وذُعر ومغامرة وبسالة واستكشاف وقداسة ورثاء وهلع واشتياق وحبّ. الحرب كريهة وطريفة، إثارة ومثابرة. تجعلك الحرب رجلًا، وتقتلك.» ما أطول السّاعات التى أمضيتها؛ بأكبر قدر ممكن من التركيز، فى السعى لاستحضار نفس المشاعر التى تتملك الجنود أثناء الحرب، لكن حتّى عندما أنتهى يغمرنى الإحساس بالنجاح، فإنّى غالبًا ما أقوم وأرمى بتلك الأوراق؛ فما نفع المشاعر وحدها؟ 

فى مقال لصحيفة الجارديان العام 2012، حاجج الكاتب جيف داير أنّ أدب الحرب العظيم فى العصر الحديث لا يصل لأيدينا من خلال القصص أو الشعر، بل من خلال الصحافة. ويكتب: «إن كان ثمّة وقت كانت فيه القصص الإنسانيّة التى تنطوى عليها الأحداث التاريخيّة- أو ما يُسميه باكر ”قلب المسألة الإنساني“- لا يُمكن استيعابها وإدراكها إلا من خلال المُعالجات الروائيّة (الحرب والسلام هى المثال الأبرز)، فإنّ ذلك الزمن قد ولّى.» ويلفت انتباه القرّاء بالنسبة لحرب العراق إلى كتاب دكستر فيلكنز حرب للأبد، وكتاب ديفيد فينكل «الجنود الطيبون». أمّا بالنسبة لفيتنام فيضع كتاب مايكل هير برقيات فى مرتبة أعلى من كتابات تيم أوبراين وروبرت ستون وجين آن فيليبس.   

وعلى الجانب الآخر يُحاجج روبرت جريفز قائلًا أنّ: «ذكريات رجل خاض بعض التجارب السيئة داخل الخنادق أثناء الحرب لا يُمكن تصديقها ما لم تنطوى على نسبة كبيرة من الافتراءات.» ويُعلن تيم أوبراين فى كتابه: «كيف تروى قصة حربيّة واقعيّة» أنّ: «وقوع الحدث مسألة عرضيّة؛ إذْ قد يقع حادث ما ويكون محض أكذوبة خالصة، فى حين قد لا يقع حدث آخر ويكون أصدق من الحقيقة.»

شخصيًّا، لا أفهم التمييز الصّارخ بين شتّى أنواع أدب الحرب؛ إذْ يستهوينى كتاب فينكل «الجنود الطيبون» لنفس السبب الّذى يجعلنى أحبّ رواية سيلين «رحلة إلى أخر الليل»- فكلاهما يُربكانى بقوّة حيال قضايا الحرب والسلام التى كنت أعتبرها فى السّابق ليست محل خلاف. ويبقى السعى إلى إعادة إنتاج ما تعنيه المُشاركة فى الحرب؛ بأكبر قدر ممكن من المُحاكاة المُضنية للحقيقة، نفيسًا بالنسبة لى بشرط أن يُرشد القاريء نحو تعارض القيم وتقويض الإيديولوجيات اللذين تسفر عنهما الحرب بين حين وآخر. ذلك أنّنا لو لم نستفد بمعارفنا إلا لإظهار نوع من التعاطف الواهن، ولو لم يتجاوز ارتباك القارئ مُجرّد الانزعاج أمام الوصف المؤثِّر للعنف، آنئذ لا يكون الكاتب قد أدّى للقاريء معروفًا كبيرًا.  

لم أقرأ رواية شوساكو إندو «الصّمت» من مُنطلق حاجة عميقة لفهم تجربة المسيحيين اليابانيين إبّان القرن السابع عشر الميلادي، تتجاوز رغبتى عند قراءة رواية جورج إليوت مِدِل مارش لفهم السياسة الإنجليزيّة الإقليميّة خلال القرن التاسع عشر. فلِم إذًا يجب أن يختلف الحال بالنسبة لكُتّاب الحرب؟ ما أصعب أن تُخطط؛ حتّى للكتاب الذين يتناولون أحداثًا فى الذّاكرة الحديثة، للكيفيّة التى قد يؤثِّر بها عملك بالتفاهمات السياسيّة. فجوزيف هيلر مثلًا؛ الجندى المتمرِّس الذى شارك فى الحرب العالمية الثانية، لم يتنبأ قطّ بطرائق اهتمام جيل فيتنام المناهض للحرب بروايته الخدعة 22(1961).

ومن نافلة القول أنّ هيلر زعم ذات مرّة أنّ: «المشاعر المُناهضة للحرب والحكومة فى الرواية تنتمى للفترة التى أعقبت الحرب العالمية الثانية: الحرب الكوريّة، والحرب الباردة، والخمسينيات.» ومن ثمّ (إذا اخترنا تصديقه) فهو لم يقصد حتّى من وراء روايته عن الحرب العالمية الثانية أن يروى لنا الكثير عن الحرب العالمية الثانية، ولهذا السبب بالتحديد انتهى الأمر بقراءة الخدعة 22 كأنّها برقية من المُستقبل.   

أين يأتى دور الحقائق إذًا؟ يلعب البحث فى كتابتى دورًا كبيرًا؛ إذْ أفتِّش عن مواقف حياتيّة واقعيّة يُمكنها أن تُتيح طرائق مثمرة لاستكناه قضايا الحرب والرجولة والعنف. فحين علمت أنّ أحد التكتيكات المُتّبعة خلال معركة الفلوجة هى جلب مُتخصصين فى العمليات النفسيّة الحربيّة لإطلاق الشتائم والإهانات عبر مُكبرات الصوت، أتاح لى ذلك أداة للتفكير فى فعل القتل.

وحين تكلّمت مع جندى مدفعيّة عن أفكاره ومشاعره حيال أن يكون جزءًا من فريق يُطلق سلاحًا فتّاكًا على هدف لم يره قطّ يبعد عنه مسافة أميال، أتاح لى ذلك أداة أخرى. تراكم هذه الأدوات لا يصنع قِصّة، لكنّها بداية. وإضافة إلى التفتيش عن تلك المواقف تستبد بى التفاصيل الدقيقة؛ لأنّ التفاصيل الدقيقة يُمكنها أن تحمل ثقلًا عاطفيًّا هائلًا. فعلى سبيل المثال، لم يكن الاختلاف بين بندقية إم16 وإم14 عدديًّا بالنسبة للجنود المتمرّسين الّذين شاركوا فى حرب فيتنام؛ وذلك عند استلامهم نسخ تجريب التشغيل الأولى من بنادق إم16، بل اختلاف بين الحياة والموت، اختلاف بين سلاح موثوق وآخر غير جدير بالثقة. قد تخسر ثقة القارىء إذا تخطّيت تلك التفاصيل.        

لذلك ثمّة كثير من الحقائق فى قصصي، وجزء صغير من كتابتى نابع من تجاربى الشخصيّة التى أُفسح لها بعض السطوة من دون يقين كامل. بعضها جاء من لقاءات صحافية مع جنود متمرّسين، ومن كتب ومقالات قرأتها، ومن أفلام وثائقية شاهدتها، ومن أحاديث آخر الليل لا أتذكّرها بوضوح فى بعض حانات. ورغم ذلك فما أسعى إليه من معلومات لا يكفى لإعادة سرد الواقع على نحو شبه وثائقي، لكن يكفينى لمراوغة الوقوع فى أسر الحقيقة كُليًّا. أريد أن أعرف حول موضوعى ما يكفى كى أطمئن لما أكتبه. لنقل أنّى أعرف خمس قصص أو تفاصيل مُقنعة حول العمل قسيسًا فى الجيش، وكتبت قِصّة أمضى خلالها فى طريق مستقيم نحو هذه النقاط الخمس، وقتئذ ستتبدّى الشخصيّة باهتة من دون حياة. أريد أن أصبح على راحتى مع العالم كى أتجاهل ما أعرفه حين تبدأ الشخصيّة فى اقتراح مسارات أخرى. حينئذ فقط يتبدّى العمل صادقًا حقًّا.     

حين نقرأ هوميروس نقرأ عملًا لشاعر لم يكن يدرى كيف دارت معركة طروادة؛ فلا كان يعرف كيف كانت تُستعمل العجلات الحربيّة آنذاك، ولا أى الدّروع تُلبس، ولا أن الإغريق فى ذلك العصر لم يُنظّموا جيشهم فى كتائب. ورغم ذلك يتبدّى أنّ كافّة أجيال المُقاتلين تُعيد اكتشاف الإلياذة وتجد حروبها الخاصّة موصوفة على صفحاتها. وأنا فى كتاباتى أسعى من خلال الحقائق ومن خلال الاختلاق، للعثور على نصيب صغير مما عثر عليه هوميروس فى الأسطورة. فما أصدق ما يُقال أنّ حتّى الأكاذيب تقبع فى مكان ما بين الحقائق، لكنّها لا تعوّل عليها بالضرورة.    

 عن ليترارى هب       

اقرأ ايضا | في عيدها الـ147.. رئيس الجمعية الجغرافية: لدينا متحف للعادات والتقاليد المصرية

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة