أحمد عباس
أحمد عباس


تساؤلات

مع «لى لى»

أحمد عباس

الأحد، 19 يونيو 2022 - 08:01 م

أما لى لى فهى ابنة نابهة كانت تنادينى خالو أحمد وذلك قبل ثمانى سنوات وكان عمرها خمسًا، أما الآن بعد أن غادرت وعاشت فى أمريكا تحول اللقب الى «حالو أخمد» وتبدلت الحاء بالخاء والعكس، فى رحلتى الأخيرة الى الولايات المتحدة صحبتنى لى لى فى رحلة أخرى مختلفة، تجربة أعتقدنى أحتاجها جدًا ونحتاجها جميعًا، كان قد حَلَّ موعدها الشهرى مع الزيارة المُعتادة للمكتبة العامة للاستعارة فى حى «تيماكولا»، نعم لكل حى مكتبة لا أجسر على وصفها لربما يتهمنى البعض بالمبالغة أو بالهوس بالغرب وأمريكا وما شابه، لكنها مكتبة فخمة جدًا تتسع لأكثر من خمسة آلاف كتاب أغلبها مؤلفات انجليزية أصلية وبعضها ترجمات والقليل بلغات مختلفة.


الأرفف مُكدسة بالكتب مُصنفة بالعمر، يعنى من عمر ٥ حتى ثمانى سنوات فى وجهة ومن عمر كذا الى كذا فى مكان آخر وهكذا، أمكنة واسعة للانتظار للكبار بكراسى وثيرة وأخرى هزازة، ومنطقة ألعاب أطفال مخصصة لمن هم دون سن القراءة أو الذين ملّوا من صحبة والديهم، وهذه المساحة ليست بالخارج بل داخل جدارن المبنى، فالأولاد والبنات يجب أن يعتادوا الكتاب ورائحته وشكله وملمسه وأن يعرفوا أشكال الحروف حتى إذا لم تكن القراءة هوايتهم لكنها تبقى هويتهم. كل ذلك تحكيه لى لى - بينما تسحبنى كأننى لم أُخلق مبصرًا- باسترسال مبسط يناسب عمرها ليفهمه «حالو أخمد»، تميل لى لى لقصص الأميرات والساحرات والوحوش الطيبة والمصابيح السحرية والوردة المسحورة التى تتفتح بهدوء فيخرج منها عفريت يحقق الأحلام وغيرها من كتب الفانتازيا وأنا لا أفضلها لا قراءة ولا مشاهدة.


أمينة المكتبة امرأة جادة جدًا فى كل شيء حتى فى ملاطفة الأطفال هى دائمًا جادة، أما مع هؤلاء الذين يؤخرون الكتب أو يتسببون فى إتلافها فلا تسامح أبدًا حتى إذا كانت الاستعارة لكتب يتبادلها الأطفال، تتحول الجدية الى حسم وتجهم وعدم تهاون، تطبع السيدة مارى إيصالات الغرامة فورًا وتتأكد أنها فرضت الحد الأقصى لتغريم المستعير الذى اجترأ وأتلف كتابًا تبدو هذه مصيبة هناك، وبينما تنتهى من إعطاء المستعير الايصال تسمع صوتًا كأن شيئًا يتكسر، تنظر بلطف جاد جدًا ناحية منطقة الألعاب وتبتسم وتشير لأم طفل تسبب فى كسر احدى الألعاب وتقول بهدوء: «لا عليكِ دعيه يلعب».. ماهذا لماذا تتسامح السيدة مارى فى تلف لعبة ثمنها يعادل ربما خمسين ضعف الكتاب الذى فرضت بسببه غرامة كبرى لتوها!،
« الحقيقة أن هذه الغرامة الكبيرة ليست بسبب أن طفلًا أتلف كتابًا كلا، هذه غرامة على الأب والأم بالتحديد ذلك أنه ينبغى على أحدهما أو كليهما تعليم الصغير احترام الكتاب وتوقيره حتى إذا لم يكن له، إذا الطفل احترم الكتاب يكون فى هذه اللحظة قد أدرك المعنى».. هكذا تقول السيدة ماري.
شاب آخر يبدو أبًا حديثًا يجر عربة رضيع خدرته رائحة الورق ونام، لكن ما أن استيقظ حتى ملأ أروقة المكتبة صراخًا يزعج رواد المكتبة والقارئين الذين قعدوا للاطلاع بالداخل، ربما خوفًا من أن يتلف كتابًا بحوزتهم بسبب طفل أحمق أو أن يفقد فى وسيلة مواصلات عامة وتكون طامة كبرى مع السيدة ماري، بالمناسبة الناس تقرأ فى المواصلات والمقاهى والحافلات والله إننى رأيت شبابًا يقرأون -كتبًا مطبوعة- أضعاف عدد الكبار.
السيدة مارى تخرج بهدوء شديد من خلف ذلك الساتر الذى توقع خلفه الغرامات وترفع الرضيع عن عربته بمنتهى الجدية وتطلب من والده إنهاء جولته فى المكتبة على مهل ريثما تحتوى هى بنفسها حالة ذلك الرضيع الغاضب.. المهم أن تبقى المكتبة هادئة آمنة مطمئنة، كأنها صوبة زراعية تهتم بالفسائل أو تُعرف كأنها حضّانة وليد مبتسر لم يكتمل نموه.


لا أعرف لماذا خرجت مُحبطًا من الزيارة رغم انبهارى البادى على وجهى لكن قضيت ليلتها أسأل نفسى كيف تفكر هذه السيدة وماذا ترى فى رأسها، والحق أنه لا شيء أكثر من ان مدام مارى تفهم جيدًا أن تلف اللعبة يتعوض فى اليوم ألف مرة وخسارته تُقدر بثمن، أما الكتاب فيعنى تسرب الاهمال والتردى وانهيار المنطق وإضعاف اللغة وهزال الجيل.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

مشاركة