جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

يوليو الثورة ويوليو تشيكوف

جمال فهمي

الثلاثاء، 19 يوليه 2022 - 06:16 م

سبعون ربيعاً عمر ثورة يوليو الآن ومازال مجتمعنا يحتاج للعدالة بديلاً للظلم والمآسى الإنسانية التى نعيشها منذ رحيل قائدها جمال عبد الناصر..

وفى يوليو نفسه رحل أديب روسيا العظيم انطون تشيكوف (1860- 1904)، واحتفالا بيوليو والعدالة معا، سأترك ما تبقى من هذه السطور لقصة «فانكا» الرائعة التى أبدعها تشيكوف:

.. لم ينم الصغير «فانكا» الذى سلمه جده الفقير قبل ثلاثة أشهر لأسكافى حتى يعمل صبيا فى ورشته.. انتظر الصبى حتى ذهب أصحاب البيت للصلاة فقام من رقدته وانطلق بخفة وحذر نحو دولاب الإسكافى واختلس منه قلما بسن صدئ وورقة مجعدة، وقبل أن يخط حرفا تلفت حوله متوجسا، ثم جثا على ركبتيه وكتب:

«جدى العزيز قسطنتين.. تعرف أننى ليس لى أب أو أم، ولم يتبق لى أحد فى الدنيا غيرك...

توقف «فانكا» ورفع رأسه مستدعيا ملامح وجه جده العجوز الطيب الذى رغم نحوله وتقوس ظهره لم يتقاعد ومازال يعمل حارسا ليليا.. أغمض الصغير جفنيه لحظات على صورة الجد قسطنتين، ثم عاد وأمسك بالقلم مستأنفا الكتابة:

.. بالأمس يا جدى ضربونى علقة شديدة وشدنى المعلم من شعرى إلى الحوش وانهال عليَّ بقالب الأحذية لأنى كنت أهز ابنه فى سريره الصغير فنعست غصب عنى، وقبل أيام قليلة أمرتنى المعلمة أن أقشر سمكة، وبدأت أقشرها من ذيلها، فلم تعجب طريقتى الست فشدتها منى وأخذت تحك رأس السمكة فى وجهى.. يا جدى الأسطوات هنا يسخرون منى ويشتموننى طوال الوقت، ويرسلوننى إلى الخمارة لشراء الفودكا ويأمروننى أن أسرق لهم خيارا من بيت المعلم، والمعلم كلما رآنى يضربنى بأى شيء فى يده..

يا جدى أنا هنا جوعان دائما، فى الصباح لا يعطوننى شيئا إلا الخبز، وفى الغداء عصيدة رديئة، وفى المساء خبز أيضا، أما الشاى أو الشوربة فيشربها السادة وحدهم.

هل تعرف يا جدى أين أنام كل ليلة؟ فى مدخل الورشة القذر، وعندما يبكى ابنهم لا أنام وإنما أظل أهز مهده ولو بقى صاحيا حتى الصباح.. يا جدى العزيز اعمل معروفا لله وخذنى من هنا وأعدنى إلى بيتنا الصغير فى القرية..

لم أعد أحتم .. أتوسل إليك وسوف أصلى معك كما تريد، خذنى من هنا وإلا سأموت...

رفع الطفل «فانكا» يده من على الورقة واعتدل فى جلسته ومسح جبهته وعينيه بظهر يده التى صار لونها أسود تماما، ثم غاب فى نوبة بكاء مُر لكنه انتزع نفسه منها لئلا يتسرب الوقت ويعود معذبوه فلا يكمل الخطاب..

وكتب: جدى العزيز، سأطحن لك التبغ، وأصلى فى الكنيسة والبيت، سأفعل كل ما تريد، وإذا بدر منى شيء لا يعجبك اضربنى، وإذا كنت تريدنى أن أعمل لكى آتى بمال يعيننا على الحياة، فسأرجو خولى مزرعة «آل جيفار» واستحلفه بالمسيح أن يأخذنى ولو لتنظيف حذائه..

المهم أن أبقى معك فى قريتنا لأنى لم أعد أحتمل.. لقد فكرت فى الهرب وأن آتى إليك ماشيا ولكن ليس عندى حذاء..

يا جدى عندما أكبر سوف أطعمك وأرعاك، وعندما تموت سوف أصلى من أجل روح.. احضر يا جدى وخذنى من هنا، أرجوك، استحلفك بالمسيح، وأخيرا تحياتى وسلامى لك..

أعطف عليَّ يا جدى العزيز أنا حفيدك اليتيم المسكين، وأرجوك احتفظ لى بـ «الهارمونيكا» بتاعتى، وإلى اللقاء قريبا.. قريبا يا جدى.

طوى «فانكا» ورقة الرسالة بعناية ووضعها فى المظروف الذى اشتراه بكوبيك (قرش) يعلم الله وحده كيف ادخره وخبأه .. وكان عليه الآن أن يكتب عنوانا لا يعرفه.. سرح قليلا ثم شرع يخط على المظروف: إلى جدى قسطنتين ماكاريتش..!!

كان «فانكا» فرحانا سعيدا بنجاحه فى كتابة وإرسال خطاب الخلاص من بؤسه وعذابه.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة