سلمان رشدى
سلمان رشدى


سلمان رشدى: لا أحب الكتب التى تتملق القارئ

أخبار الأدب

الأحد، 21 أغسطس 2022 - 04:14 م

ترجمة: رفيدة جمال ثابت

هل نعرف سلمان رشدي حقًا؟ هل سمعناه بعيدًا عن ضجة «آيات شيطانية» التي كانت مثل العمل اللعنة الذي يلتصق بصاحبه إلى الأبد، ويحرم قراءه من الالتفات لأعمال أخرى؟ لقد فرضت الصحافة العربية على رشدي حصارًا فلم نعد نعرف أخباره إلا من صحف أجنبية، وتعرض لتجاهل مقيت بسبب فتوى الخوميني بإهدار دمه.

اليوم، وبعد تعرضه لطعنات غادرة كادت تودي بحياته على يد شاب متطرف لم يكن قد ولد حين صدرت الفتوى، نفتح مجالًا لنسمع سلمان رشدي، لنقترب من عالمه الذي طالعناه في الكتب، ربما هذه طريقة لنعرف بحياد أهمية هذا المؤلف.

عندما تكتب هل تضع فى ذهنك القارئ؟

لا أدرى . حينما كنت شاباً، كنت أردد: «كلا، أنا خادم العمل». لكن ازداد اهتمامى بالوضوح كمزية وقيمة على حساب الصعوبة. وهذا يعنى أنه بات لدى إدراك أفضل للطريقة التى يقرأ بها الناس، ويرجع أحد أسباب ذلك إلى معرفتى بالكيفية التى يقرأ بها الناس ما كتبته حتى الآن. لا أحب الكتب التى تتملق القارئ وتحاول نيل استحسانه. بل ينصب تركيزى على سرد القصة بشكل واضح وجذاب على قدر المستطاع. وهذا ما ظننته فى البداية، حينما كتبت «أطفال منتصف الليل». اعتقدت أنه من الغريب أن يفترق السرد والأدب عند نقطة معينة؛ لأننى أرى أن حدوث هذا الانفصال ليس ضرورياً. فالقصة لا ينبغى أن تكون بسيطة، أو ذات بعد واحد. بل ينبغى على الكاتب أن يعثر على أسلوب أوضح وأكثر جاذبية لسردها إن كانت متعددة الجوانب. كما تبينت أن القصص التى تحدث فى أى مكان هى القصص ذاتها فى كل مكان آخر. أدركت ذلك لأن مدينة بومباي، التى ترعرعت فيها، كانت موضعاً يمتزج فيه الشرق بالغرب. وقد منحتنى الأحداث التى مررت بها فى حياتى القدرة على إبداع قصص تندمج فيها مناطق مختلفة من العالم، تارة بشكل متناغم، وتارة أخرى بشكل متصارع، وفى معظم الأحيان تأتلف وتتصارع فى آن واحد. 

تساءلت سابقاً عن التجربة الحقيقية والشخص الواقعي، ما علاقة ذلك بالروايات؟

 نعيش فى زمن يُطلب منا أن نضيق الخناق على أنفسنا، وأن نؤطر ذواتنا بشكل أكثر تقييداً. ولعل هذا صحيح فى الهويات السياسية، والجندرية، والثقافية. وبرأيى أن أحد الأشياء العظيمة التى عرفتها الرواية هى أن هوياتنا متعددة للغاية؛ فذواتنا ليست وحدوية بل متعددة الأشكال. وكى تجعل شخصيات الرواية حيوية ومثيرة للاهتمام لابد أن تكون متعددة الهويات، لو كانت شيئاً واحداً ستصير ميتة. وقد حاولت مراراً فى أعمالى أن أوضح أن لدينا القدرة على تغيير أنفسنا تبعاً للظروف. 

هل ترى أن الأدب الواقعى يمكن أن يعبر عن الواقع الراهن؟ سواء أكان فى الهند، أو أميركا، أو أى مكان آخر، أم أنه لم يعد مشروعاً مجدياً؟

جدارته مرهونة بموهبة الفنان وبراعته. فإن كان لدينا بلزاك وزولا، لم لا يكون هناك كُتّاب مثلهما؟ أتصور أن جوناثان فرانزن أقرب مثال لدينا. غير أنى لم أجد الأدب الواقعى جذاباً فلم أسلك طريقه. معظم رواية «المهرج شاليمار» واقعية، مع لمسة من الفانتازيا. أما «الغضب» فرواية طبيعية، ولكن الخيال العلمى يمتزج بالقصة. لذا، أستعين أحياناً بالواقعية لأنها الأسلوب السردى المناسب. ليس لدى موقف أيدولوجى نحوها. كل ما فى الأمر أننى أستخدم الوسائل التى تساعدنى على عزف الموسيقى، وتلك الوسائل تختلف فى كل مرة.

هل هزت الفتوى ثقتك ككاتب؟

أجل، هزتنى كثيراً. ثم أخذت نفساً عميقاً، وكرست نفسى مجدداً للفن. لقد استغرقت كتابة هذا الكتاب خمس سنوات. خمس سنوات من حياتى أبذل فيها قصارى جهدى لأخرجه بأفضل ما يكون. إننى مؤمن بأن الكاتب غير أنانى فى فعل الكتابة. لا يشغله مال أو شهرة. بل ما يستأثر بأفكاره هو أن يغدو أفضل كاتب بقدر المستطاع، وأن يحسن جمله وعباراته، ويطور موضوعاته كلما أمكن، وأن يطرح شخصياته بشكل جذاب.  الكتابة عملية فى غاية الصعوبة، وتستدعى متطلبات من الكاتب، حتى أن ردود الفعل، مثل المبيعات وغيرها، لا تهمه. لقد أمضيت خمسة أعوام بهذا الشكل، ولم أنل –فى المقابل- إلا التشهير والتشنيع من العالم، وتعرضت حياتى للتهديد والخطر. ولم تقتصر المسألة على خطر فقدان حياتي، بل تجاوزتها إلى الازدراء الفكري، وتشويه قيمة الكتاب، وأننى كنت شخصاً بلا قيمة كتبت عملاً عديم الأهمية. ثم فكرت: لماذا أفعل ذلك؟ الأمر لا يستحق هذا العناء. أن أكرس خمس سنوات من حياتى بشكل جاد بقدر المستطاع، ثم أُتهم بأننى متهور، وأرعن، وأناني، وانتهازي، وأننى فعلت ذلك متعمداً. بالطبع فعلت ذلك متعمداً! كيف تمضى خمس سنوات من عمرك تفعل شيئاً مصادفة؟

يقصدون أنك بدأت هذا الاستفزاز، وأنك السبب فى كل ما حدث. حينما كتبت الرواية هل كنت تدرك أنه هجوم على الإسلام وربما يكون استفزازياً؟

كنت أعلم أن عملى لن يعجب أمثال المُلا المتطرفين.

ومع ذلك، أن يصل الأمر إلى هذه الفتوى كان أمراً مخيفاً.

بالطبع لم أكن أتخيل أن يصل الأمر إلى ذلك، فلم يحدث من قبل. وما أثار دهشتى أننى وجدت بعد فترة ترجمة فارسية لروايتى السابقة «العار»، بل نالت فى إيران جائزة أفضل رواية مترجمة فى العام. وهذا يعني، أنه حينما نُشرت «آيات شيطانية»، كان بائعو الكتب الإيرانيون يظنون أننى كاتب لا بأس به؛ لأن المُلا أعطى كتابى السابق ختم الموافقة. لذلك اندهش الناس فى إيران مثلما اندهشوا فى باقى البلاد.

لكن كان ينبغى عليك توقع ذلك نظراً للأجواء العامة حينذاك.

بعدما أنهيت الكتاب قرأه شخصان، من بينهما إدوارد سعيد، الذى أخبرنى أننى سأثير غضب هؤلاء القوم، وسألنى إن كنت قلقاً بخصوص هذا. وكان جوابى فى تلك الأيام البريئة: «كلا». قلت لنفسي: «لن يهتموا برواية أدبية مكتوبة بالإنجليزية، وتقع فى 550 صفحة». لم أتوقع أنها ستقع فى أيديهم، ولم أكن مهتماً. لماذا لا يثير الأدب الاستفزاز؟ لطالما فعل هذا. وفكرة أن الشخص الواقع عليه الهجوم هو المسئول عن الهجوم هى فكرة تبعد اللوم، وكان من السهل تبنيها فى عام 1989. عقب تفجيرات القاعدة، كتبت الصحافة الإنجليزية تقول إن الأمر بدأ مع نشر «آيات شيطانية». والآن أجد تعاطفاً كبيراً مع ما حدث لى حينها. لا أحد اليوم يقول إنها غلطتي، وإننى فعلت ذلك متعمداً؛ لأن الناس صاروا أكثر وعياً بطبيعة الراديكاليين الإسلاميين.

لكنك ذكرت فى لقاء سابق أنك بسبب الفتوى انتابتك الشكوك فى استحقاق الأدب كل هذا العناء والجهد.

دفعتنى الفتوة إلى التفكير، لعدة شهور، فى التوقف عن الكتابة. ولم يكن هذا بسبب خطورة الأمر، بل لأنى شعرت بالاشمئزاز مما حدث معى . وكنت فى حيرة من أمري؛ كيف سأكمل لو كانت تلك هى الطريقة التى ستُعامل بها أعمالى؟ بل إننى فكرت فى أن أعمل سائق حافلة! لكنى أكرر دائماً أن ما أنقذنى ككاتب هو وعد الكتابة الذى قطعته لابنى . وكان هذا الوعد هو السبب وراء عودتى مجدداً إلى الكتابة. وكم كانت سعادتى كبيرة حينما اكتشفت صوت «هارون وبحر القصص»، سعادة أعادت لى الشعور بشغفى بما أفعله. ثم قلت لنفسي: «لابد أن أمضى وأستمر». أتذكر قراءة ثلاثية بيكيت وقتذاك. كانت رواية «غير المسمى» تضاهى «يقظة فينيجن» صعوبة، لكن تلك الرواقية، وذلك السطر الأخير العظيم، كان ثميناً. كما كنت أقرأ لكُتّاب عصر التنوير، مثل فولتير، وأدركت أننى لم أكن الكاتب الوحيد الذى عانى وقتاً عصيباً. وربما ليست مبالغة أن أقول إننى استمددت من قراءتى لتاريخ الأدب قوة ودعماً. أوفيد فى المنفى، ودوستويفيسكى يواجه فرقة الإعدام، وجينيه فى السجن، وانظر ماذا فعلوا: «المسخ»، و»الجريمة والعقاب»، وكتابات أدب السجون عند جينيه. وقلت لنفسي: «إن استطاعوا فعل ذلك، يمكننى أيضاً المحاولة». ثم صار من السهل أن أعرف موضع قدمى فى العالم، وكان هذا أمراً طيباً. لكنى ما زلت أجهل كيف سيستجيب الناس لأى عمل أكتبه. «آيات شيطانية» كانت أقل رواية سياسية لى . ربما بعد كل هذه الضجة، يستحق الكتاب حصوله على حياة أدبية، لاسيما فى الدوائر الأكاديمية. كما تصلنى خطابات من الناس يتناولون الجانب الكوميدى فيه، وهذا من الموضوعات التى لم يتحدث عنها أحد أبداً. لقد تمكن الكتاب من البقاء، وصار –أخيراً- رواية، وليس فضيحة مدوية.

هل تظن أنه من الخطورة كتابة شخصيات من جماعات مهمشة، شخصيات ليست من الجماعة التى تنتمى إليها؟

إنه أمر محفوف بالمخاطر؛ لأنك لو فعلته بشكل سيئ ستواجه الانتقادات. لكن لا أظن أن هناك مناطق محظورة. وإلا لن نكتب إلا عن أنفسنا. فى رواية «المنزل الذهبي»، ثمة شخصية انغمست فى المسائل المؤلمة للعبور الجنسى . أردت الكتابة عن هذه الموضوعات لأنها مهمة ومثيرة للجدل فى الوقت الراهن. لكن ليس بوسعك الجلوس فى المنزل واختلاقها. يجب أن تخرج من منطقة الراحة، وتتحدث مع أناس يمرون بهذه التجارب، كتلك التى تمر بها شخصياتك. جميع كُتّابى المفضلين كتبوا عن المجتمع بكل فئاته وطبقاته. ديكنز، مثلاً، كان بوسعه الكتابة عن النشالين ورجال الدين. كما كتب عن المجرمين، والبرجوازيين، والارستقراطيين. كى تستطيع الكتابة بهذا الشكل، عليك أن تغادر منزلك، وتتعرف على الأشياء، وتستكشفها بنفسك؛ أن تتورط حتى النخاع، إذا جاز التعبير. ثمة مقولة شائعة علمونا إياها: اكتب ما تعرف. وأقول لكل الطلاب: «اكتبوا ما تعرفونه فى حالة أنه كان مثيراً للاهتمام حقاً. لو لم يكن كذلك، اذهبوا، واعثروا على شيء، واكتبوا عنه».

هل تستحق الكتابة عن البشر كل هذا العناء؟

سؤال صعب لأنه يحمل فى طياته إحساس باليأس وانقطاع الأمل. أرى أن البشر هم مصدر لا ينضب من السحر والجاذبية. وأظن أن أحد الجوانب الجمالية فى الرواية كشكل أدبى يكمن فى أنها ترينا الطبيعة البشرية فى ثبات عظيم. فالطبيعة البشرية واحدة فى جميع الأماكن، والأزمنة، والألسنة. وهذا ما يجعلها أعظم موضوع فى حياة أى كاتب، أى أن يحاول استكشاف هذا المحيط الواسع من البشر. وحتى لو كانت البشرية بشعة، وقاتمة، ولا تستحق العناء، من المهم الكتابة عنها. فالرواية تحاول تقديم عالم ليس بشعاً؛ عالماً حقيقياً وجديراً بالثقة، مدينة يمكن تصديقها، وزمناً يمكن تصديقه، فيه شخصيات حقيقية تعيش حيواتها. لكنك حينما تصعد إلى مستوى الحياة العامة، تجد التشوهات والهزل. 

لا أود أن أضفى على الدولة القومية طابع المثالية، لأنها يمكن أن تكون أيضاً عنصرية ودكتاتورية. كيف ترى تركيزك على مفهوم الهجنة (hybridity) منذ خمسة وثلاثين عاماً؟ هل توقعت له هذا المستقبل؟

فى ذلك الحين، كان هناك نمط من الحوار العنصرى حاول تهميش السكان الذين لا يشكلون الأغلبية. حاولت الاعتراض على هذا. وكان من المهم فعل ذلك. لكن الإشكالية فى المجتمع المتشظى الذى نعيش فيه الآن، هى أن ما اعتدنا الاحتفاء به بسهولة، كنوع من الثراء الثقافى المتعدد، صار مخيفاً لكثير من الناس. وإذا أراد الكاتب أن يكتب عن هذا، يجب أن يواجهه، أى عليه أن يواجه الخوف. لا يمكن أن يتظاهر بأنه غير موجود. كما أنه ليس بوسعه أن يطلب من الناس ألا يشعروا بهذه المخاوف. وبالتالي، السؤال الذى يطرح نفسه هو: كيف ننظر بشكل صادق وغير متحيز إلى الجانب المظلم من التعددية؟

انتقدت اتجاه الشباب الأميركى نحو تقبل الرقابة من أجل تجنب الإساءة والأذى. فى عالم تطغى فيه وسائل التواصل الاجتماعى بشكل مؤثر، فيمكن اجتزاء عبارة أو اثنتين من سياق أكبر واستخدامهما للتنديد والشجب، هل ينسى الناس وجود سياقات أكبر؟ وكيف ندفعهم إلى الإقبال على الأعمال الفنية المهمة؟

أظن أن الأمر مثير للقلق، وأن العقلية الجماهيرية فى استخدام بعض وسائل التواصل الاجتماعى مقلقة للغاية. ولعل استعداد الجيل الأصغر للموافقة على تحجيم أنواع بعينها من الخطاب يرجع إلى أسباب نزيهة. بيد أنه من المزعج والمحبط تراجع حرية الحديث فى بلاد التعديل الأول للدستور. من ناحية أخرى، نجد أن الانترنت يزخر بالعديد من المواقع الالكترونية المهمة عن الكتب، بعضها بدأ بمؤسسات كبرى، لكن الكثير منها بدأ بشخص شغوف بالكتب. ورُغم أن الأدب ليس وسيطاً ناجحاً للتسويق الجماهيري, فجمهور تشارلز ديكنز، أو أى من كان، لا يُقارن بجمهور حلقة من مسلسل (فريندز) أو (حرب العروش), إلا إن الأمر المهم هو عدد المهتمين بالكتب، ولا أحسب أنه يتقلص. سيخبرك الناشرون أن مبيعات الكتب مرتفعة، وأن عدد متاجر الكتب فى ازدياد، وأن الناس يعودون إلى الكتب الورقية مقابل الكتب الالكترونية. ومن ثم، هذا الشكل الغريب الذى كان يُعتقد أن كل شىء سيقتله، الإذاعة، والسينما، والتلفزيون، لا يموت أبداً. إنه صاخب ومدوى على الدوام. ولا يشغلنى بأى شكل يقرأ الناس، سواء أكان كتاباً صوتياً، أو على الكيندل، أو الأيباد. ما يهمنى أن يطالعوا الكتب. 

حينما يُذكر موضوع جائزة نوبل، تسخر من الفكرة، لكنى أعتقد أنك تستحقها.

الأمر يكون لطيفاً حينما تفوز، وغير لطيف حينما لا تفوز. لكنى لا أهتم حقاً. ما أعتبره أكثر أهمية من الجائزة هو بقاء كتبى بعد موتى . لو أنك تكتب هذا النوع من الأدب، وليس الأدب الشعبى أو الرائج، الهدف هو أن تكتب شيئاً سيبقى، ويظل موجوداً بعدما تموت. مارتن أميس لديه عبارة هتمة أستشهد بها دوماً: «عليك أن تترك خلفك رفاً جميلاً من الكتب. «إن»أطفال منتصف الليل»كتاب قديم، كتبته فى عام 1976، وأن يظل الكتاب مثيراً للاهتمام بعد كل هذه العقود، هذه هى الجائزة. إن الكتب تبقى لأن الناس يحبونها، فما من سبب آخر لبقاء الكتاب للأبد. والكتب لا تبقى بسبب فضيحة. لو بقيت «آيات شيطانية»، لن يكون هذا لأنها فضيحة. الناس ينسون الفضائح. المحبة هى الشىء الوحيد الذى يجعل الأدب يبقى. 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة