عزت عمر يكتب : بار ليالينا: صراع وجودى فى الهوامش
عزت عمر يكتب : بار ليالينا: صراع وجودى فى الهوامش


عزت عمر يكتب : بار ليالينا: صراع وجودى فى الهوامش

أخبار الأدب

السبت، 03 سبتمبر 2022 - 02:02 م

نهض السرد بوساطة راوٍ عليم أدار العملية السردية من بعيد، ولكن ليس على الشكل النمطى المألوف حيث تنطلق الأحداث من نقطة ثم تتسلسل باستقامة إلى النهاية، وإنما وفق منهج الرواية الجديدة فى التعامل مع عنصر الزمن بنظام التقطيع المشهدي، وأدار الأحداث بمهارة المحترف وحرّك الشخصيات المختارة بعناية مانحاً إيّاهم فرصة التعبير عمّا فى دواخلهم بموضوعية.

الدنيا مسرح كبير وكل الرجال والنساء ما هم إلاّ ممثلون على هذا المسرح.
هذه العبارة الشكسبيرية المشهورة ربّما تتموضع ثيمة رئيسيّة لرواية «بار ليالينا» الصادرة حديثاً (صيف 2022) عن دار الشروق بالقاهرة، للروائى المصرى المجتهد أحمد الفخراني، وكنت قرأت له روايتيه «بياصة الشوام»

و«4إخضاع الكلب» بإعجاب لما انطوتا عليه من اشتغال دؤوب على نصّه فى إطار ما بعد الحداثة متوخياً التجريب الدائم للكشف عن ممكنات السرد غير المتناهية للرواية باعتبارها جنساً أدبياً غير منته فى تكوّنه.

ومن هنا تغدو المقترحات الجمالية والاجتراحات التقنية الجريئة سمةً أساسيةً لروائى طامح فى موضعة نتاجه المكانة التى تستحقّها عربياً. والفخرانى إلى ذلك ينتمى إلى الجيل الجديد من كتّاب الرواية ومازال المستقبل مفتوحاً أمامه على احتمالات الشهرة والتألّق. 


اختار الروائى (بار ليالينا) عنواناً ذا صلة بمقاصده الأساسية كمكان يضمّ أصنافاَ مختلفة من أبناء المجتمع، لكنه فى الوقت نفسه يتجاوز دوره الواقعى المعروف ليغدو رمزاً ينفتح على التأويل بل وحتّى الإسقاط السياسى فيما إذا اعتبرنا أن منهجه يقارب روح المحاكاة الساخرة الناقدة، لكنها فى النهاية هى عملية تخييل كبرى ساهمت مجموعة من التقنيات فى روائيتها فى هذا الحيّز الذى يمكن بطبيعة الحال مقاربته بـ «ميرامار» نجيب محفوظ بالرغم من اختلاف الزمن والرؤية.

بل لعلّ «بار ليالينا» تستكمل بعض مقاصد «ميرامار» فى الكشف عمّا آلت إليه أوضاع المثقفين فى مصر من استشراء الفساد وخراب النفوس والتسابق إلى مراكز النفوذ للاستحواذ على السلطة والقوّة. وإذا اعتبرنا بنسيون ميرامار رمزاً لمصر الناهضة حديثاً مودعة زمناً قديماً، فهو أيضاً ينفتح على الاحتمال تبعاً لصراع شخصيات البنسيون المختارة.

وظهور بوادر الفساد فى بدايات التطلّع إلى النهضة والتقدّم تبعاً للآمال التى كانت معقودة على ثورة يوليو1952. إلاّ أن المكان هنا بار يستوطنه مثقفون ثملون يعيشون أوهامهم المحدودة فى ظلّ متغيّرات سياسية وفكرية عاصفة ترافقت مع الثورة الرقمية.

ومحركات البحث الجبّارة ومواقع التواصل الاجتماعي مع بدايات الألفية الثالثة، وانكشاف حقيقة بلدان الشعارات والأوهام الممجدة لحضارة وتاريخ لم تساهم فى صنعهما، كما أنها مع الأسف لم تتمكن من إنجاز ما كان مطلوباً منها على مختلف الصعد.

وبشكل خاص عملية بناء الإنسان باعتباره رأسمالاً رمزياً ساهمت التكنولوجيا الذكية فى بلورته كفاعل فى النظام العالمى الجديد، وليس منفعلاً ما انفكّ يتخبّط فى اتخاذ قراراته المصيرية ما بين ثقافة الأمس واليوم.


وهذا مستنتج من جملة حوارات الشخصيات التى لم تخل من أبعاد فلسفية فى الشأن الوجودى للإنسان كفرد أو كشريحة اجتماعية مرتاحة لأوهامها ولم تفكّر فى تجاوز هذه الأوهام معرفياً وسلوكياً، بل لعلّها نظّرت لهذه الأوهام.

ولاسيّما ما تمّ طرحه من رؤية حول الإنسان الكبير القوى والصغير الضعيف متبناة من قبل رئيس تحرير مجلة «باب الحقيقة» تيسير الحلو الذى فيما يبدو أنه ينحاز لهذه الرؤية اعتماداً على قراءته لكتاب (خطاب إلى الرجل الصغير) لفيلهم رايش (طبيب ومحلل نفسى إشكالى من أصل نمساوي).

ومن مقالته: «إننى أفهمك أيها الرجل الصغير لأنى رايتك عارياً روحاُ وجسداً ودون قناع..» وكان العاملون فى المجلة متأثرين بأفكاره فدأبوا على مجالسته فى بار ليالينا معتبرين أنفسهم نخبة مثقفة مكتفية بذاتها وليس بإمكان الحمقى والصغار اقتحام جدرانها الافتراضية العازلة. 


والموضعة هنا مقصد توخّاه الروائى للكشف عن (مآثر) هذه النخب داخل منظومة القيم المستشرية التى تبتعد بمقدار عما يمكن وصفه بالقيم الاجتماعية والإنسانية التقليدية المتعارف عليها فى الوجدان الشعبى المصري.

حكاية الكومبارس
تبدأ الحكاية مع نوح الرحيمى الشخصية المحورية التى اشتغل عليها الروائى بدأب كإنسان ينتمى إلى الطبقة الوسطى يعمل موظّفاً فى دائرة حكومية، وشأنه شأن غالبية الموظفين من أصحاب العوائل سعى لتحسين دخله بالعمل فى حقل السينما كـ «كومبارس» يؤدّى الأدوار الصامتة المطلوبة منه.

والبقاء فى الظلّ. وموضوعة الكومبارس المتطلّع لفرصة ظهور فى الضوء حلم مشروع لهؤلاء العاملين فى هذا الحقل، لاسيّما وأن نوح اشتغل فى نحو ثلاثمئة فيلم سينمائي، فانتابته غواية أن يتقدّم خطوة إ ضافية ليصبح ممثلاً يؤدّى أدواراً حقيقية تكشف عن مواهبه الدفينة فى هذا المجال الذى عشقه.

وأدمنه منذ الصغر، لكن هذه الأمنية المتواضعة لم تتحقق والسبب أنه مجرّد كومبارس يفتقد المؤهلات اللازمة للتمثيل بنظر مخرجى ومنتجى الأفلام السينمائية، لكنّ هذه الرغبة تصاعدت لتغدو حمّى حقيقية انصرف تفكيره كلّياً إليها فهجرته زوجته مع أبنائه، فلم يبد أنه تأثّر بل ازداد إصراراَ على أن يجد له مكاناً فى النور.

ومن هنا تبدأ مغامراته الدونكيشوتية تقودها أوهامه فى كسر حلقة النخبة المثقفة، فما لقى سوى الهزائم، ولاسيّما من غريمه الأساسى الصحافى نديم الصبّان الذى كشف جهله وحماقته منذ اللقاء الأوّل بينهما، إذ قدّم نوح له مشروع فيلم صامت يؤديه وزملاؤه من الكومبارس.


بطبيعة الحال ما كان نوح يتطلع من الصحافى سوى إلى الاعتراف بموهبته ونجاح فكرته، لكنّ ضحكة نديم المجلجلة وازدرائه به وبفيلمه أشعل فى داخله رغبة جارفة لردّ الاعتبار لذاته المجروحة.

ومن هنا تبدأ سلسلة مغامراته التى خطط لها بإحكام، لكنها مع الأسف اصطدمت جميعها بطواحين الهواء التى أدارها نديم الصبّان بمهارة معززاً بمواقف جماعة مجلة «باب الحقيقة» ورئيس تحريرها يسرى الحلو من هذا (الصغير) الذى يسعى للتطاول عليهم وجعلهم يعترفون به وبمواهبه.


والاعتراف هنا بطبيعة الحال، خاصية إنسانية ترتبط بالذات والوجدان منذ بدايات الوعى بهذه الذات فى الطفولة المبكّرة وحتّى نهايات العمر، وهذا يعنى فى المحصّلة التقدير الذى يفترض أن يسود الحياة المشتركة فى المكان والزمان المتعينين.

ولكن كيف سيلقى التقدير فى هذا الوسط الشحيح العواطف والمزهو بنرجسيته وبإنجازاته ولا تستهويه إنجازات الآخرين فهى قد تعيق وصولهم إلى الأعالى والتموضع كنجوم مشعة ! ولعلّ تساؤل نوح وهو يقلّب صفحات كتاب رايش جاء فى صميم المشكلة: «أمن هنا يستقون أفكارهم عنه؟ أهذا كلّ ما تمثّله حياته لمؤلّف الكتاب؟ هل سرق يسرى الحلو تك الأفكار أم أنه أراد ردّ الاعتبار إليه بأعداد أكبر من الكلمات.. فكّر أن حياة الجالسين بأكملها تدور حول الانزعاج من وجوده، وذلك ما يمنحه أهمية كبرى.»

 

تقنيات السرد
نهض السرد بوساطة راوٍ عليم أدار العملية السردية من بعيد، ولكن ليس على الشكل النمطى المألوف حيث تنطلق الأحداث من نقطة ثم تتسلسل باستقامة إلى النهاية، وإنما وفق منهج الرواية الجديدة فى التعامل مع عنصر الزمن بنظام التقطيع المشهدي.

وأدار الأحداث بمهارة المحترف وحرّك الشخصيات المختارة بعناية مانحاً إيّاهم فرصة التعبير عمّا فى دواخلهم بموضوعية، فضلاً عمّا تتطلبه العملية السردية من الكشف عن هذه الشخصيات عبر وصف مباشر للجسد والعمر والطول والوزن و العلامات كما فى وصفه لصاحبة البار نعمات أو ليسرى الحلو: «الرجل السمين ذو الشارب الكثّ والقمصان ذات الحمالات.. وجهه مستدير كبدر، بشرته بيضاء مكتنزة مشوبة بالحمرة..»


 أو أن يتحرّى تاريخهم كى يمنح القارئ إضاءة كافية تستكمل أبعاد الشخصية النفسية والاجتماعية من مثل: «انضم نديم إلى مائدة بار ليالينا قبل ثلاث سنوات عندما بدأ أولى خطوات عمله الصحفي.

وكانت سيرة والده هى تذكرة دخوله.. استخدم نديم عناوين مكتبة أبيه التى لم يقرأ منها حرفًا لإنشاء سمعة زائفة كمثقف عتيد».لكن سوف يتّضح من السياق السرديّ أن معرفة عناوين الكتب والجلوس فى مقاهى المثقفين لا يعوّل عليهما فى انتاج ثقافة رفيعة، فضلاً عن أن ثقافة الشخصية لا تتحدد فى عدد قراءتها للكتب بمقدار ما تتجلى فى سلوكاتها وتصرفاتها المرتبطة بالقيم الإنسانية والفضائل العليا على الأقل.

وهذا لاينطبق على مجتمع بار ليالينا مثل: يسرى الحلو و نعمات وزوجها فؤاد وعلى الأمير ونديم الصبّان وسواهم من شخصيات أساسية وهامشية، فالكلّ هنا منغمس فى الإثم والسلوك الشائن فى حلقة عبثية لا يعرف المرء مبدأها ومنتهاها، حلقة مفرغة خاوية تتآكل حتّى النهاية التى هندسها الروائى بإحكام، فذلك هو مآلها بطبيعة الحال. ولعل هذه النهاية الموجعة تذكّر بحكمة الأسلاف من أن الخير حاضر أبداً فى النفوس النبيلة، والشر فائض فى النفوس الخبيثة فاستحقّت هذه النهاية التعيسة. 


وإلى ذلك لابدّ من التنويه إلى فاعلية المونولوج وأثره فى الدفع بالنصّ الروائى إلى درجة درامية عالية، ولاسيّما مونولوجات نوح، ومثل هذا التوظيف بات أساسياً فى رواية ما بعد الحداثة التى تبنّت موضوعة المهمّشين كأحد أهم الموضوعات الإنسانية التى يمكن الاشتغال عليها.

فضلاً عما اجترحه من أساليب بلاغية تكاثف فيها المجاز والاستعارات المناسبة إلى براعة التشبيه المعبّر باستمرار عن الروح الساخرة التى ينضح بها أسلوبه: «ذات مساء غادر نوح بيته متنكرًا كأرستقراطى متأفف متوجهًا إلى بار ليالينا، ولم يثنه عن عزمه الغبار الأصفر الذى جاب المدينة فى تلك الليلة كنذر لعاصفة ترابية.


استقل سيارة فورد صفراء قديمة كانت ملكًا لرشدى أباظة، أعاره إياها صديق عمره، سيد سيما، الدوبلير السابق ومورد السيارات الأنتيكة لاستوديوهات التصوير، وقد آمن أن حصوله على تلك السيارة التى لا يُفرط فيها سيد أبدًا لغريب، هى بشارته الكبرى على أن خطاه مباركة من القدر.»


فضلاً عنإدارته البارعة للحبكات الفنية والدفع بها نحو عقد مستعصية كالمواجهة الأولى بين نوح ونديم، ثمّ ما تلبث أن تنحلّ لتبدأ بعدها حبكة مثيرة أقوى بينه وبين فريق «باب الحقيقة» وانتصارهم عليه وإقصائه عن المكان لمدّة عشرين عاماً أمضى سنوات منها فى السجن، ليعاود بعدها فى العام 2022 للانتقام بلعبة مشابهة وأقوى وكأننا فى فيلم سينمائى تتصارع الشخصيات فيه وتتهادن ومن ثمّ تعاود الصراع إلى لا نهاية.. صراع وجودى أزلى ولكن فى الهوامش.


كان ضروريّاً أن يحشد الروائى كلّ هذه الأحداث المتتالية المتصاعدة فى لعبة الانتقام الرهيبة التى أجاد إدارتها ما بين الكومبارس الصغير نوح وبعض مساعديه فى شركة «الصمت الرهيب» للأفلام الصامتة، وفريق مجلة «باب الحقيقة» بكامل أكانه، وكان لابدّ فى النهاية من توظيف تقنية المرآة أو «مرآة الحقيقة» السحرية.

وحكايتها مع نوح طويلة فهى تتفاعل مع الناظر إليها وكأن ثمة روحاً تقطنها: «بينما كان يحدّق فيها امتدت يدها فقبضت على ذراعه تجره للولوج إلى داخلها، لكنه فى اللحظة الأخيرة تراجع فى ذعر بعد أن دفع اليد الوهمية بغلظة، فسمع صراخاً مكتوماً يتلاشى تدريجياً مع الصورة، فهرول إلى فراشه يرتجف.. عرضت له مملكة من النساء.. ثمّ عرضت عليه صوراً لمقاطع تمثيلية مضحكة لشارلى شابلن وفؤاد المهندس صار يحاكيها بالتمثيل والغناء.

وعرضت له صورة على مسرح يؤدى فيه دوراً حاسماً لموهبته.. تعزيزاً لوهمه فى أن يكون نجماً كبيراً» بينما تجلّى دورها فى نهاية الرواية فى كتشف مدى عريهم وخوائهم الثقافى والروحى بعد تعريتهم واحداً تلو الآخر والروث والقذارة يغطيانهم منكسرين ومنهزمين كى يثبت لهم نوح فى النهاية أنه ممثل بارع فى التنكّر أدّى أدواراً استقى فكرتها من ذات الأفلام الهابطة، وليس ثمة منتصر فالهزيمة الجميع كانت ساحقة! 


ولعلّ التوظيف الذكى للمتفاعلات النصّية المستقاة من الفلسفة وعلم الاجتماع والطبّ النفسى والثقافة الفنية والسينمائية من مثل «وردة وبليغ وفؤاد المهندس ورشدى أباظة وشارلى شابلن وسواهم، إلى جانب تسمية للفصول بأسماء الأفلام: كلاكيت، شنبو فى المصيدة، أضواء المدينة، عفواً أيّها القانون، المليونير الصعلوك.

وحافية على جسر من الذهب وسواها ساهم فى الكشف عن ثقافة الروائى السينمائية وبراعته فى توظيفها بما يخدم المقاصد السردية والمواقف المطلوبة درامياً، فضلاً عن مدى الخواء المعرفى والحساسية الجمالية الهابطة لهذه الفئة من المتثاقفين.

بينما المثقفون الحقيقيون من مبدعين ومفكرين وسواهم مغيبون عن المشهد قصداً، ولذلك لم نجد لهم مكاناً فى هذا العالم الثمل، فهم ما انفكّوا يساهمون فى كتابة النصّ الإنسانى الكبير بكلّ تواضع وصمت يليقان بهم.

اقرأ ايضا | انطلاق مهرجان «لقاءات سرد البحر المتوسط» في الإسكندرية

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة