خليل صويلح يكتب : شهوة الكتابة وشهوة الحواس
خليل صويلح يكتب : شهوة الكتابة وشهوة الحواس


خليل صويلح يكتب : شهوة الكتابة وشهوة الحواس

أخبار الأدب

السبت، 17 سبتمبر 2022 - 02:59 م

يمتلك عزت القمحاوى ميزان الصائغ فى ترويض الكلمات. لا ذهب مزيّفاً فى مشغولاته، فهو يعمل فى منطقة القيراط لا الكيلو فى وزن العبارة، مستبعداً الشوائب عن المعدن النفيس. تكفى تحديقة مراوغة تنطوى على نظرة صقر للانقضاض على الفريسة النائمة باطمئنان. لا مكان آمناً لمخلوقاته. يباغتها بشفرة حادة تفتح جرحاً غائراً فى الجلد فينبجس «مسك الغزال» فوق الصخور. منذ «الأيك فى المباهج والاحزان» بنسخته الأولى، ابتكر سكة حراثة مختلفة فى تأصيل معجمه الخاص. الآن، لديه ثروة من النفائس، إذ لطالما اصطدمت سكة الحراثة بلقية هنا.

وجرّة فخّار هناك، محشوة بفضّة عشّاق، وخواتم غائبين، وتذكارات مهملة، وذلك تبعاً لتراكم تجربة الكتابة وتجربة العيش. هكذا بنى عمارته السردية على مهل، من دون أن يلتفت إلى مشاغل الآخرين، وعلى نحو أدقّ، اعتنى بما أهمله الآخرون، متسللاً إلى موقع النباتات المهملة فى حدائق الكتابة، بقصد تعشيبها وتقليب تربتها.

ووضعها فى مهبّ أوكسجين مختلف. تأتلف هنا شهوة الكتابة بشهوة الحواس لتشريح الجسد المنهك بالمحرمات والأمراض المزمنة، وحقنه بتفاح الرغبة، ليستعيد عمل الأصابع أولاً، بوصفها «أول تصريح علنى بالحب»، وكأن حاسة اللمس هى من تقود إلى تضاريس الجسد المرتبك وخلاياه النائمة.

ولكن مهلاً، ليس «الأيك» كتاباً فى الشهوة الخالصة، إنما هو أنطولوجيا حسيّة فى تمجيد الكائن بأحواله المختلفة، وتأريخ شبقى للموجودات، واختراع سردى مبهر فى هدم الحدود الصارمة بين أجناس الكتابة، واستنفار الحواس الخمس نحو طاقتها القصوى لجهة الرائحة والصوت والملامسة والتذوّق والنظرة، فلكلّ حاسة حارسها المناوب وأسوارها وبواباتها وأنفاقها السريّة، ليستكملها بحاسة إضافية هى حاسة الحبر المختلف، أو ضربة الكيبورد التى لا تخطئ مجرى النهر، بصرف النظر عن الهجنة السردية التى تنطوى عليها هذه المدوّنة الشاسعة، فمهنة الروائى وحدها لا تفى بالاندفاعات الجانبية لنزوات المخيّلة بقدر ما تغنيها بدعائم صلبة، سوف تتسلل بجرعات مدروسة إلى نسيج الرواية بوصفها حقل عباد الشمس الأكثر إشعاعاً وخصوصية فى التجربة. على الأرجح، فإن ترميم «الأيك» بأشجار إضافية يأتى من باب فحص المسافة بين بصيرتين، ومحاولة لإدارة الظهر للنص المستقر. 


فى «غرفة المسافرين» يرتحل إلى فضاءات أخرى، ونزوات سردية أكثر هتكاً ليعزّز ضرباً من الكتابة الذاتية التى تحفر عميقاً فى طبائع الشخصيات ومصائرها المتحوّلة، تبعاً لمشيئة الأمكنة، فتتوالد حقائب السفر على طريقة «ألف ليلة وليلة» التى يفتتح بها صندوق حكاياته بوصفها النصّ الأم لمفردة السفر: «ماذا يمكن أن يتبقّى من «ألف ليلة وليلة» إذا حذفنا السفر من متنها؟» يقول. ويوضّح بأن السفر هو «روح السرد فى كل زمان، يمدّه بالدهشة، ويمهّد للانطلاقات الكبرى فى الحكاية»، كأن الكتابة هى الأخرى حقيبة أفكار موازية.

أن تجرّ حقيبة ثقيلة فى دماغك، تستدعى نصوصاً ترمم المشهد الأصلى بما ينقصه من وصف أو حفر أو إيماءة إضافية، كما فى «البحر خلف الستائر» الرواية التى تستدعى «مدينة اللذة» بتطريز مختلف لسجادته السردية فى ما يخص الأمكنة الضيّقة، والهجرة والمنفى، مغلقاً القوس على ذلك العالم الغرائبى المشحون بالشهوات السريّة.

لكن مهلاً، ألم يرصد عالماً ضيّقاً فى روايته «غرفة ترى النيل» فى وصف جسد يحتضر داخل غرفة مستشفى؟ وماذا بخصوص «الحارس» ذلك العسكرى الذى يجد نفسه أسير تعليمات صارمة داخل قصر، من دون أن يراه مرّة واحدة؟ الاشتغال على جماليات المكان المغلق إذاً، سمة أساسية فى تجربة عزت القمحاوى، بقصد فحص داخليات شخوصه ووضعها فوق طاولة التشريح، فى تحدٍّ صريح، ومواجهة صارمة لطبقات الحكى وتقليبها فوق نار هادئة، بأقصى حالات الكثافة والصقل والتأمل.


على المقلب الآخر، اشتغل عزت القمحاوى على سيسيولوجيا الطهى بسكين حادة، ومائدة شهية، تجتذب شهوات إيروتيكية بمذاق مختلف هو الوجه الآخر لمذاق كتابته النوعية، وتحديقته الخاصة، كتاباً وراء آخر.

كنّا معاً، ذات يوم، بصدد ابتكار اسم جديد لمفتاح غرفة الفندق، بعد إلغاء المفتاح التقليدى واستبداله ببطاقة ممغنطة، فاقترح عزت كلمة «مهماز» للمفتاح الجديد. الآن، أستحضرُ هذا «المهماز» فى توصيف أحصنة المخيّلة، بوصف صاحب هذا الاسم المبتكر، حصان رهانٍ رابح فى ميدان المدوّنة السردية العربية
 

اقرأ ايضا | عبد الله ناصر يكتب: الكتابة لوجه الجمال

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة