صورة تعبيرية
صورة تعبيرية


محمد سليم شوشة يكتب: خداع واحد ممكن.. حين يصبح الحب نافذة للاستبصار

أخبار الأدب

الأحد، 09 أكتوبر 2022 - 01:21 م

تمثل رواية خداع واحد ممكن للروائية رضوى الأسود الصادرة مؤخرا عن دار الشروق عملا أدبيا مهما ومختلفا وله خصوصيته وتميزه الأدبي، وذلك عبر ما يشكل من أبعاد وحدود لفن الرواية الذى يسترفد طاقات إدراك ومعرفة واستبصار بالذات وبالوجود، ولما يشكل من رؤية وقيم دلالية وأسئلة عبر بنائها المنفتح وذى الطابع التأملي، وعبر تشكيلها السردى وما تمكن الخطاب الروائى من إنتاجه من القيم الجمالية مثل التحفز والتشويق وتشكيل طاقة من الانحياز والانجذاب لدى المتلقي، استطاعت الرواية أن تحكم ربط أجزائها وعالمها وفضائها الزمنى الممتد بخيط الحب المتين. 

الرواية التى استطاعت أن تحكم ربط أجزائها وعالمها وفضائها الزمنى الممتد بخيط الحب المتين الذى هو أقرب لملحمة أسطورية أو شكل من الأشكال الغيبية للانجذاب، تكون وفق هذا الشكل من الربط قد حققت أهم منجزاتها الجمالية ذلك لأنها مهما اتسع فضاؤها وامتدت وتنوعت تجارب الشخصيات فيها بقيت على أكبر قدر من الالتحام والتلاحم الممكنين.

وبرغم كثرة الشخصيات أو على الأقل عدم محدوديتها وقدر ما فيها من التنوع فإنها تبدو أقرب لقصيدة عشق تدور فى فضاء شخصيتين اثنتين فقط، وهكذا فإن قصة الحب الإطار تكون قد صنعت هذه الوحدة العضوية التى توحد عالم الرواية وتعصمه من التفكك وتجعل الرواية أقرب للقصيدة فى شكلها الخاطف السريع المتشابك.

وأقصد بالطبع القصيدة فى أعلى درجات إحكامها وترابطها أو ما كان يطلق عليه النقاد القدامى بالوحدة العضوية، ذلك لأن قصة حب حازم وأحلام ليست مجرد ماض أو ليس مجرد قدر دفع الأحداث التالية نحو وجهات معينة وكان محركا للتطور الدرامى وحسب، بل إنها بالأساس أقرب لملحمة إطارية تعلى من وتيرة الشعرية فى الخطاب الروائى.

وتجعله يتجذر فى جوهره وروحه الأدبية مع أنواع أدبية أخرى مثل المسرح الرومانسى أو الملاحم الأسطورية أو قصص الحب التاريخية الخالدة مثل مجنون ليلى أو روميو وجولييت أو غيرها من النماذج الموروثة التى يبدو واضحا أن الخطاب الروائى كان يسعى لتشكيل ملحمته الخاصة ويشكل أسطورته الجديدة التى صارت تتناسب مع اللحظة الحضارية الراهنة. 


هذه الملحمة الإطارية لقصة حب حازم وأحلام ليست نموذجا ساذجا أو قديما أو تقليديا برغم ما فيها من شجاعة الإفراط والاندفاع نحو دمغها بهذه الطبيعة الملحمية والأسطورية، والسر فى تفاصيل قصة الحب هذه مع العناصر الأخرى، فإذا كانت قصص الحب القديمة تكتسب قيمتها الأدبية من صدامها ونزاعها مع الأطر الاجتماعية والطبقية.

وغيرها من المعوقات والموانع التقليدية فإن ملحمة الحب التى شكلتها رضوى الأسود لتكتسب قيمتها من صراعها مع مكون مختلف وجديد، ويتناسب مع ثقافتنا العربية وإشكالاتها أو بعض محطاتها وأزماتها التاريخية، فهذه القصة المدعومة بالأساس من الأسرة وبخاصة أميهما الجارتين اللتين تبدوان وقد غزلتا هذا الحب أو صنعتاها أو شكلتنا وجوده بمحبة خاصة بينهما قبل الولادة والإنجاب لهذا الثنائى حازم وأحلام.

وتسبق فيه الأنثى فى الحضور إلى الوجود بأسبوعين وأربع ساعات وعدد من الثوانى التى أصر الخطاب الروائى على تحديدها بدقة وكأن الصوت السردى إنما يسجل تاريخ بداية الوجود أو لحظة الانفجار الكبير، وهذا السبق للأنثى مما يمكن تفسيره ضمن المعطيات الدلالية المضمرة وتلميحات الخطاب بأنها أصل الوجود. 


إن ما تتصارع معه قصة الحب هذه هو الرجعية الدينية وموجة التطرف والوهابية التى غزت المجتمع المصرى فى السبعينيات والثمانينيات، وعلى قدر هذا العدو وقدر شراسته وغبائه وقدرته على تجريف الأرواح وتجفيفها من الحب على قدر ما كان يتحتم أن يكون الخصم بهذه القوة والطبيعة الأسطورية.

ولذا كان حب حازم وأحلام مؤسسا على قوة غيبية متجاوزا لمبررات المادية أو الدوافع المعتادة فى أى قصة حب تقليدية، ولهذا فإنه من التوفيق الكبير والذكاء ما جنح إليه خطاب الرواية من التدعيم عبر التشابك والارتباط مع القوى الغيبية أو الكونية وما حضر فى النص الروائى من إشارات صوفية جعلت هذا الحب متجذرا فى روحيهما بهذا التصوير القدرى الغامض. وبرغم انتصار الحب أو قدرته على البقاء والاستمرار فإن الآثار الناتجة عن الابتعاد والفراق والفقد وهذه التوابع هى المشكلة الجوهرية. 


وهكذا فإن فى الرواية أكثر من وضعية للصراع، الأولى هى صراع فردى يتمثل فى رحلة بحث كل منهما عن ذاته، أحلام الأكثر استقرارا على الحب والحضارة والتنوير وهو كله مما يتجذر فى المرأة بدرجة أكبر كانت فى رحلة بحث عن ذاتها ومعركة ممتدة لتجاوز آثار توابع هذا الانفصال والابتعاد عن حبيبها الملحمي.

والأمر ذاته فى صراع حازم نحو الوعى وإدراك الحقائق والوصول إلى النضج واستيعاب أخطائه وانجرافاته وإكمال فراغاته وثغراثه التى انسل منها إليه المتشددون. وهناك الصراع الجماعى الذى يتمثل فى قوة قصة الحب ذاتها وصمودها فى وجه هذه الإشكالات الحياتية كلها ومواجهتها لكل هذه القسوة والعنف والصدمات.  


ولهذا فإن تأمل شكل هذه القصة الإطارية لحازم وأحلام وتأمل وضعيتها أو أثرها الفاعل فى تشكيل الفضاء السردى يمكن أن يكون مدخلا جيدا لرؤية الكامن داخل الخطاب الروائي، وبخاصة فكرة تعليق المصير وعدم حسم العودة أو الالتحام المتجدد مرة أخرى، والمراوحة بين القرب والبعد وكذلك فكرة التكرار والشكل الدائرى الذى منحته هذه القصة الإطارية.

وخطاباتهم مع بعضهم أو ما يمكن تسميته برسائل الروح وحالات البث الروحى بينهما، وغيرها من التقنيات التى كانت قصة الحب الإطارية هى المنبع الأساسى لها أو المولّد والدافع لتشكيلها من تقنيات وأدوات سردية، ومنها على سبيل المثال هو كيفية أن يكون الحب مرضا وكذلك يكون غيابه مرضا، فثمة اختلاط وتداخل فى منطق الرواية وتصوراتها بين الحب والمرض وحالات التسمم والخلاص من هذا السم.

واختلاط وتداخل بين المادى والروحي، ولذا نجد أن قصة الحب ملكت القدرة السلسة على صبغ وتلوين كل عناصر الحكاية والعالم الروائى كله، فالشخصيتان الأساسيتان مدفوعتان من البداية للنهاية بهذا الحب الكامن فى أعماقهما ويتحركان بأثر منه ولو كان بلاوعى. 


وفى إطار تأمل مسألة التأطير أو قصة الحب التى غلفت العالم الروائى وفضائه الزمنى من البداية للنهاية يمكن الإشارة إلى لعبة سردية أخرى مهمة أيضا صنعت تأطيرا موازيا ولكنه من نوع مختلف.

وهى رحلة الأيام السبعة فى البحر، فهذه الرحلة البحرية التى تنطلق من جنوى فى إيطاليا وترد إليها مرة أخرى فى نقطة النهاية هى كذلك شكل من التأطير الموازى الذى يشتغل على مستوى زمنى أقرب، فهذه الرحلة تشير إلى دائرية المصير الإنسانى ودائرية الزمن وفكرة العود الأبدى التى تشير إليها الرواية فى فصلها الأخير.

ولكن هذه الرحلة لها آثار جمالية أخرى، فهى العامل الأساسى لتوسيع فضاء الحكاية على المستويين الإنسانى والمعرفي، فجعلت رحلات الاستكشاف متحققة بمعناها الظاهر المباشر ومعناها الخفي، ذلك لأن فى كل مدينة كان البطلان ينهلان من منابع معرفية متنوعة الثقافات بين المسيحى والإسلامى.

وفى كافة العصور القديمة والحديثة والوسطى، ففيها إشارات وعلامات تنتمى للعصور البيزنطية أو أوربا فى العصور الوسطى أو تنتمى للدولة الفاطمية أو بعضها ينتمى للحضارة اليونانية القديمة وهناك إشارات كذلك للحضارة الفرعونية. على أن فكرة الارتحال والسفر فى الرواية لم تكن مقصورة على رحلة الأيام السبعة فقط، بل زادت وتنامت برحلات حازم العلاجية فى أمريكا اللاتينية حيث بعص صور العلاج القديم أو الشعبى الموروث عن قبائل الشامان.

وهى طقوس وعادات ومواد منذ آلاف السنين من عصر الأسطورة، وفى هذا العنصر أو المكون السردى تتحقق مفارقة مهمة وهى اتصال العلم الحديث مع الطب الشعبى أو الأسطورى أو البدائي، وهو ما تم توحيده فى مصطلح الطب الشامل الذى يجمع بين المادة والروح وهناك من يؤمنون به حتى ممن درسوا الطب الحديث أو يؤمنون بالعلوم الإمبريقية التجريبية.

ولهذا فإن هذه الرحلة تجعل من عالم الرواية أوسع أفقا ويأخذ الطابع الكونى والتماس مع الآخر ويكشف للإنسان زاوية لرؤية ذاته فى إطار من الآخر، وهنا لا تصبح قصة حب حازم وأحلام مجرد قصة حب لرجل وامرأة بل تصبح نموذجا دالا على الإنسان العربى أو المصرى الذى يراجع تاريخه فى ضوء من اطلاعه ورؤيته للآخر ولمنجزات البشرية وحضارتها فى البناء والتقدم.

ولهذا فإن هذه الرحلة تمثل الدائرة الوجودية الأصغر والأضيق زمنيا التى يتم فى إطارها مراجعة كل ما مضى من خسارات وهزيمة تسببت فيها الرجعية والتشدد أو التطرف الدينى الذى أفقدنا ذاتنا حين أفقدنا الحب. فقد كانت الرواية ترسخ لهذا المعنى الذى يحدد ذواتنا بالحب أو يقول بصراحة بأننا بغير الحب لا شيء. ومن هنا يمكن القول بأن ما فى بنية الرواية مما ينفتح على تأويلات عديدة كثير ويمثل هذا جوهر ثراء هذا العمل الروائى من حيث قابليته على تعدد القراءات. 

فى الرواية جماليات المعرفى التى أكدت عليها فى دراسات ومقالات كثيرة ومنذ سنوات بحيث توسع من وظائف الخطاب الروائى وتجعله مجالا للاستبصار والرؤية والمعرفة ويتجاوز فكرة التسلية إلى أدوار تنويرية مهمة أو لا يمكن الاستغناء عنها. وتتصل هذه الجماليات المعرفية بأشكال العلاج البدائى ومعلومات عن الكيمياء وبعض العناصر وبعض الأمراض وبعض الحالات المرضية البيولوجية منها والنفسية، كما فيها مقاربات روحانية ونفسية وتشابك بين المادى والروحي.

وكذلك فيها معارف ترتبط بطقوس التداوى والطب الشعبي، وكذلك بعض حالات الكتابة والإبداع وفيها كذلك مقاربة نفسية لسيكولوجيا الإبداع الأدبى والعلاقة بين الاضطراب النفسى وحالات الإبداع، والتراكم المعرفى والنفسى لشخصية المبدع، كما فيها جماليات معرفية ترتبط بتاريخ الطباعة والتحولات الثقافية التى اقترنت ببعض عقود الصحافة المصرية.

وأبرز صحفها التنويرية حيث وقفت بشكل خاص مع تاريخ روزاليوسف العريق وارتباطها بمواجهة التطرف والفكر الرجعي، وذلك عبر شخصية الأب الذى كان يعمل فى مطابعها ويمثل تاريخ الأب نفسه رمزا لتحولات المجتمع حيث تحول هو من الصحيفة التنويرية إلى العمل فى دور النشر التى كانت نتاج ما كان يسمى بالصحوة الإسلامية التى اتضح أنها مرحلة الخمول الحضارى الكبير فى تاريخنا وهنا تكون الرواية عبر سيرورة من الرمز تشير إلى جيل كامل كان محملا بالخسارات نتيجة هذه الرجعية الدينية التى تغلغلت فى بعض النفوس وأفقدتها الحب الذى ربما كان أغلى ما تملك أو أثمن ما كان لديها. 


أما فيما يتصل بالشكل البنائى فنجد أن هناك الكثير مما يمكن ملاحظته فى تشكيل خطاب الرواية السردى وبخاصة هذا التكنيك من التوازى الحركى والمشهدى بين تفاصيل رحلة الأيام السبعة فى البحر وذكريات الشخصيتين وحركة الأحداث فى خطين زمنيين متوازيين يكشفان عن الماضى ويؤجلان عناصر معينة تزيد من التشويق عبر تقنية التقاطع والتأجيل والاستباق.

ففى بعض المواضع التى تشير إلى عودتهما أو التقائهما تكون هناك خفايا وأسرار مؤجلة عن كيفية هذا اللقاء مرة أخرى وأسباب قبولها للسفر معه، وخفايا وأسرار وتفاصيل الماضى بالنسبة لهما وهو ما يتكشف تدريجيا عبر هذا التقاطع بين الراهن والماضى أو الذكريات القديمة. ليكون للتشكيل السردى المرتبط بالزمن دوره فى إنماء الرواية جماليا ومنحها قدرات تشويقية كبيرة وجعلها قادرة على الاستحواذ على المتلقى وكسب تعاطفه ومشاعره وشد انتباهه نحو مصير هذا الحب المعلق من أول الرواية حتى نهايتها.

وفى التكنيك السردى كذلك هناك هذه الألعاب السردية المحدودة التى تمنح شكلا بوليسيا بدرجة من النسبية وذلك استنادا إلى بعض الأسرار الخفية التى يتم كشفها تدريجيا عن قتل غامض كان يبدو فى البداية موتا طبيعيا ولكن الرواية حولته عبر هذا التأجيل والإرجاء إلى نوع من الغموض والكشف عن أسرار الجريمة الكامنة لدى الناس.

وبخاصة إذا ما ارتبطت هذه الجرائم بنماذج تبدو مثالية فى الظاهر، بل هى بالأساس نماذج أقرب للبطولة وشخصية المخلص أو الرمز الذى يخلص الضحايا من الشر ولكنه فى الحقيقة فى أعماقه بخلاف ذلك تماما، فتتجلى الشرور الخفية والكامنة وراء مظاهر كثيرة من الخير أو على الأقل تتضح مساحة جديدة من هذا التداخل الغامض بين الخير والشر فى النفس الإنسانية الواحدة. 

وهكذا تبدو الرواية ذات طاقات خاصة وذات قدرات خاصة للتنقيب فى التكوين النفسى لنماذجها وشخصياتها، وهو ما يجعل منها رواية ذات طابع نفسى بامتياز، ولكن على هامش وجوانب أخرى من هذه الطبيعية النفسية تحمل دلالات اجتماعية وثقافية وتاريخية مختلفة وهو ما يشير إلى قدر ثرائها وتنوع جوانبها الإدراكية. 

اقرأ ايضا | رحيق السطور | أسرار «الميليشيات» الوظيفية

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة