علاء خالد فى شلاتين
علاء خالد فى شلاتين


فاطمة قنديل تكتب : زهورٌ أم علبة حلوى

أخبار الأدب

السبت، 22 أكتوبر 2022 - 01:44 م

فى كل مرة ألتقى فيها علاء خالد فى الإسكندرية، وعبر سنوات طويلة، نسأل أنفسنا سؤالا واحدا: «ما الشعر؟!» ونعرف أننا لن نصل إلى إجابة

منذ ثلاثة أسابيع علمتُ بتلك الأزمة الصحية، التى يمر بها صديقى علاء خالد، فذهبت إلى الإسكندرية. كان قد مضى وقت طويل لم أره فيه، لم نتحدث كما عهدنا، إلا من بضع رسائل إلكترونية موجزة. فى الطريق إلى بيته كنت أخفى ارتجافى عن مرافقيّ فى الرحلة (الشاعر عبد الرحيم يوسف، والكاتب أحمد عبد الجبار) سألت عبد الرحيم عن مكان لبيع الزهور، فقال لى إن علاء مازحهما فى المستشفى حين اعتذرا له عن عدم جلبهما زهورا معهما.

وقال: «زهور إيه؟! هاتوا لى فلافل، أو حاجة حلوة» فقررت أن أذهب إلى علاء ومعى علبة حلوى! لم أحمل قط إلى علاء فى رحلاتى المتعددة إلى الإسكندرية سوى كتب، أو محض أفكار، لكن المرض فرض قواعده وأطره الرسمية علينا، تركت علبة سجائرى فى السيارة (كنت قد أنهيت علبة فى الطريق لأخفى توتري).

وفى الممشى الصغير إلى بيته داهمتنى الهواجس والتوقعات، ما إن دخلت من باب البيت حتى وجدت علاء واقفا فى منتصف حجرة الاستقبال يستقبلنى بذراعين مفتوحتين وابتسامة واسعة. هكذا اعتدنا أن نتقابل، لسنوات عدة، وأظن أننا لم نجلس أبدا أمام البحر، دائما فى مقهى صغير أنا وهو، كأننا نخاف أن يلهينا البحر عن ما يشغلنا.

ويملأ قلبينا بالهموم، فدائما ما كنت أذهب إلى الإسكندرية حين تنقطع كل الخيوط بينى وبين الكتابة فلا يبقى لى سوى ملاذ وحيد: «الحديث مع علاء خالد»، شيء قدرى يسمونه «التواصل عن بعد» يحكم صداقتنا، تكون الطرق فى اللحظة نفسها قد تقطعت بينه وبين الكتابة.

وعلى المائدة التى تفصل بيننا، ونحن نجلس متقابلين، نلقى بحيرتنا وأسئلتنا، يمتد الحديث بيننا لساعات ونحن نفك الخيوط ونتجاذب الحيرة ثم يحدث لى شيء أشبه بالمعجزة، كأننى أرى كل شيء واضحا وملتمعا وفى مكانه تماما.


فى زيارتى مؤخرا لعلاء لم نتحدث عن المرض إلا قليلا، ثم تطرقنا إلى الكتابة، كعادتنا، سرت الضحكات فى جلستنا بينما سلوى (زوجته ورفيقة عمره) تعد لنا العصائر، وتسترق النظر من لحظة إلى أخرى، بعينين حانيتين إليه، لم تكن لدينا أسئلة كبرى تخص الكتابة فى تلك الجلسة الدافئة، كنا نتحدث عن ذكرياتنا المشتركة، ربما هى المرة الأولى التى نستعيد فيها أنا وعلاء ما مضى من حياتنا، بينما جلس عبد الرحيم وعبد الجبار ينصتان « للإشبين»: علاء خالد، كما يطلق عليه شباب الكتاب فى الإسكندرية. 


عرفت علاء خالد فى بدايات التسعينيات، زارنى فى بيتى مع ياسر الزيات، كان ياسر صديقى الأقرب، وقتها، وبتوصية من «أسامة الدناصوري» (رحمه الله)، تم تعزيز الزيارة، ويبدو أن ياسر وأسامة قد أكدا له أننى شاعرة خارج السياقات الفجة، التى كنت وكان، وكنا جميعا، نمقتها، ولم نزل. لم يكن تعرفى بعلاء إلا عاصفا، كان متوترا وقلقا وقد أصدر كتابه الغريب على ّ وقتها «الجسد عالق بمشيئة حبر»، أحببت الكتاب مع تحفظات على كونه «ملغزا» بالنسبة إلي، علاء نفسه كان لغزا فى تلك الفترة، لا يمكن أن تحبه.

ولا يمكن أن تكرهه، كجمرة تتحرك، وكأنه يريد أن يحتوى العالم كله، دفعة واحدة، فى قلبه، وهو ما أجهد روحي، التى كانت تبحث عن سلام «مؤقت» فى تلك الأيام، قلت لأسامة: «أظن أننا لا يمكن أن نكون أنا وعلاء – رغم تقديرى لكتابته- أصدقاء!» ظل «أسامة الدناصوري» بسخريته الهادئة، بتوتره، الذى يخفيه وراء عينين تقطران حنانا، هو الأقرب لي، خاصة أنه انتقل إلى القاهرة وصرنا نلتقي، ونتهاتف، ونتحدث عن الكتابة.

وتفاصيل الحياة الصغيرة من حولنا. بينما ظل علاء بعيدا، ربما حتى عن نفسه، فى تلك الفترة البعيدة. تذكرت أنا وعلاء هذه الزيارة الغريبة، فى لقائنا  مؤخرا-  وضحكنا طويلا. ضحكنا أيضا على غضبتى الطفولية حين قرأت مانشيتا لمقال كتبه رفعت سلام (رحمه الله) فى مطلع التسعينيات : «قصيدة النثر تأتى من الإسكندرية!» ما أهدر «دمنا» نحن شعراء القاهرة!.

واكتشفنا أننا لم نستطع - حتى الآن- أن نفسر تلك العواصف، التى كانت تحوم فى الفضاء، الذى كنا نتحرك فيه، كنا مشغولين تماما بما نكتبه، وكانت بلادة التسعينيات، اجتماعيا وسياسيا، وثقافيا، تدفعنا دفعا إلى أن نعمل بصمت، فى جزر منعزلة، تتلاقى أحيانا وتبتعد، لا «مانيفستو» لدينا.

ولا «جماعة» أدبية، ولا تصور مسبقا للكتابة، لا تنظيرات سوى الانكباب على حياتنا، بتفاصيلها الصغيرة، بإخفاقاتها المتوالية، وبحس المقاومة والرغبة فى البقاء. أظن أن علاقتى بعلاء بدأت مرة أخرى، واتخذت أعماقا أخرى،  بعد أن قرأت «خطوط الضعف»، ذلك الكتاب الصغير المُلهِم، الذى بدا لى «طوق نجاة».

وأدركت أننى لم أفهم علاء جيدا، فى لقائنا الأول، أدركت أيضا أنه الوحيد بيننا (نحن جيل الثمانينيات كما يطلقون عليه) القادر على الحفر عميقا فى ذاته دون أن أن يخاف من «تلاشيها» بل إن حتى «تلاشيها» لم يكن ليوقفه عن  خوض المغامرة! اعتزل علاء أصدقاءه قبل كتابة «خطوط الضعف».

و فى «واحة سيوة» التقط روحه، كأورفيوس الباحث فى مملكة الظلمات عن حبيبته يورديكي! ظل علاء دائما يمتلك تلك القدرة، وذلك الوعي، على النظر إلى ذاته من بعيد، على خلق تلك المسافة التى تمكنه من  تأملها، واستعادتها جديدة ولامعة مرة أخرى. لا أتذكر متى بدأت صداقتنا الحقيقية؟ ربما بعد خطوط الضعف بقليل.


ظلت «الإسكندرية» تمثل لى علاء خالد، هو بحرها، يعلو موجه، وتندلع «نوّاته» ثم يهدأ ويصفو، ليكتب كتابا جديدا، أو ينهمك فى الإعداد لمجلة «أمكنة» هو وسلوى، أو يرتحلا معا ليجوبا مصر شرقها وغربها، كأن المكان هو تيمة حياته الرئيسية، حيث ولدت روحه ذات يوم فى «سيوة». انتقل علاء بين كتبه تماما كما يتنقل بين الأماكن، لا حدود مرسومة مسبقا، لا شكل أدبيا يحاصره، يكتب «طرف غائب» و«تصبحين على خير» مثلا.

ولا رابط يجمع بينهما سوى علاء نفسه، سوى تجربته، سوى ذاته، وتلك المهارة الفائقة التى ينقل بها لغته بين الأشكال المتعددة، ثمة حرية مطلقة هنا، حرية لا يعرفها الكثيرون، باب مفتوح على مصراعيه على فردوس الكتابة، ينتقى منها ما يشاء!


فى كل مرة ألتقى فيها علاء خالد فى الإسكندرية، وعبر سنوات طويلة، نسأل أنفسنا سؤالا واحدا: «ما الشعر؟!» ونعرف أننا لن نصل إلى إجابة، يستهوينا التسكع فى طرق «إيثاكا» فحسب، لم تعد المقولات الساذجة، التى أطلقناها ذات يوم.

والتصقتْ بتجربتنا، حتى الآن، بالنسبة إلينا سوى أضغاث أحلام مراهقين : «شعر التفاصيل اليومية»! أو «كتابة الجسد»، وغيرها..لكننا صدقناها، وقتئذ، بإخلاص حقيقي، ثم أدركنا- وكم تكلمنا أنا وعلاء طويلا فى هذا- أنها دون بُعدٍ وجودي، دون ظل، أو ظلال، دون شكل يمور، ويتحرك.

وينفعل، دون روح تقبض عليها، ستكون مجرد ثرثرة على مقهى! ما الذى يمكننا، إذن، أن نفعل سوى الحركة، حركة وجودنا فى هذا الفراغ، صوت أقدامنا ورائحة أنفاسنا ننقشها ونلون بها حوائط وجودنا، بحثنا الدءوب المرهق عما يسجل أننا كنا نحيا هنا ذات يوم؟! 


عدت هذه المرة من الإسكندرية ومعى كتاب علاء، الذى لم ينشر بعد: «العدم أيضا مكان حنين»، كنت أنوى أن تكون هذه الصفحات كتابة عن الديوان، لكننى أرجأتها، يحتاج كتاب جديد لعلاء خالد إلى التروي، إلى أن تجعله جزءا من حياتك، كل يوم، تعويذة بقاء، أو أغنية تترنم بها ويطاردك لحنها فى النوم، يحتاج إلى أن تقتفى أثر العبارات فى كتب أخرى له، كل كتاب جديد لعلاء قطعة من فسيفساء إنجازه الذى ألهمنا نحن أصدقاءه، وفتح لنا الطرق؛ نحو الكتابة، ونحو أنفسنا أيضا، كل كتاب ينبغى أن يوضع فى مكانه، فى تلك اللوحة التى صنعها عبر حياته، اللوحة المتطلعة دوما-  لكتاب جديد.

اقرأ ايضا | عبد الرحيم يوسف يكتب: مكتبة الإسكندرية عشرون عامًا من الشد والجذب

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة