علاء خالد فى مدينة فاس المغرب
علاء خالد فى مدينة فاس المغرب


أحمد الفخرانى يكتب: ما الفردوس إلا مشهد واحد يستحق التكرار

أخبار الأدب

السبت، 22 أكتوبر 2022 - 02:09 م

إذا ما ذكرنا الأدب وحده، لا يمكنك أن تغفل اسمه، ولو حاوطتك أسماء المئات الذين تحول الأدب على أيديهم إلى ألعاب سيرك، سيقفز فى ذهنك اسم علاء خالد فى أعلى القائمة

قبل 15 عاما، أو أقل قليلا، كتبت بورتريه هو ثمرة حوار مع علاء خالد، ونشر فى أخبار الأدب حيث عملت لفترة قصيرة لم تتجاوز بضعة أشهر، نشرت فيها عددا من التحقيقات بطلها الأمكنة واكتشافها، كمجلة علاء الشهيرة: السيرك القومي، قرية القصر بالواحات فى الوادى الجديد، ترعة المكس، العطارين، ودير أبى حنس بالمنيا والطاحونة المقدسة فى عزبة خير الله، أنقذتنى تلك الرحلة من أشياء كثيرة، من بينها اليأس وشعورى بالضياع والشك فى المدينة الكبيرة، وخلفت لى مادة ما زلت أستعمل بعضها إلى اليوم، وكانت تعويضا مكبوتا عن انطوائى وقلة خبرتى وخوفى من الحركة خارج غرف العائلة وأمكنتها، بل وحكاياتها المقررة سلفا، بل إن تحقيقاً كالعطارين، كان أقرب لإعادة اكتشاف لجذوري، ولمكان ولدت فيه دون أن أعرفه خارج حدود ما تقره العائلة عن المعرفة وضبط حكاياتها داخل المثالي.

كنت فى مستهل حياتى الأدبية لا أملك سوى ديوان شعر عامية منشور فى دار غير معروفة هجرت به كتابات الجامعة وخواطرها، أى سجل خال، إلا أنى كعادة الطائشين فى ذلك السن، ملأته بسجل متخيل من الغرور والثقة مستندا فى ذلك إلى ما لم يسطر ولو حرف فى الهواء منه بعد، ثقة وغرور تقل يوما بعد يوم، مع كل عمل جديد ينشر.

وأظن أنه لا بأس فلنحاول من جديد، ليس عن تواضع، فالتواضع أيضا غرور مقلوب، وليس بسبب توصلى إلى نتيجة سلبية ، لكن لفهمى العميق لذلك المعنى: أن الأدب هو كل ما يهم لا ما حوله، لا يعنى الرواج، النسخ المباعة، الندوات، الحوارات الصحفية، الصور، حفلات توقيع، ولا التواجد المكثف فى الأنشطة الأدبية، كل تلك الأشياء ليست إلا محض طقوس عبور، إن اضطررنا لفعلها فليس لنا أن نفعلها إلا بالجزء الميت فينا، الحى وحده للأدب.

وهو مجاز لم أتخيله الآن، بل حفره فى علاء خالد بأغرب الطرق فى قصيدة يتحدث فيها عن خادمة، تؤدى عملها فى المنزل بالجزء الميت فيها، حصنها الأخير كى لا يمس الجزء الحى منها، الحميمى والخاص، كى لا يفسده شيء.

وحده اليأس العميق من كل ما هو حول الأدب هو ما ينتج الأدب، الهدوء والصبر، والنسج الهادئ. كما أظن أن علاء خالد نفسه يؤمن، ووحده الجزء الحى هو ما يستحق الحماية فى مواجهة العالم بأسره الذى يستهلكنا بعيدا عن الهام والجوهري، ولو عبر خدعة الجزء الميت.

لا أشبهه طبعا ولا بعد 15 عاما أو أقل قليلا، فلن أشبه أبدا ذلك الذى ليس إلا أذنا كبيرة مرهفة، روحا حساسة لم تشبع فضولها أبدا من العالم، لسانه فى فمه، كأن استعماله ليس إلا تعطيلا للأذن الكبيرة المرهفة والروح الحساسة.

وتحفيزا للجزء الميت، لا يستعمله فقط إلا لكى  يسأل بفضول، أسئلة مقتضبة، أحيانا تبدو الأسئلة وعذرا للتشبيه العادى كرجل يقشر بصلة، بتوالى الأسئلة الحاد المكثف كنصل سكين، تنزع القشور ببطء كشفا لطبقات أخرى،  حتى إن الموقف كله كان غريبا، كان المفترض فى الحوار أن أسأل أنا، لكن ذلك لم يمنعه من حركة تقشير البصل.

اللسان المتحفزة للثرثرة، هى الأنا الكذوب، استعماله الأفضل هو فتح مجرى جديد للفهم عبر الكلام المحسوب لا منعه عبر الثرثرة، الأذن هى وعاء خال ومنتبه لاستيعاب العالم، الروح جهاز إشارات لالتقاط علاماته المخاتلة، للاندماج فيه، بأن يحل ذلك العالم محل الأنا، منطلقا منها.

لن أستطيع أن أكون مثله، يكفينى أن أضع مثاله نصب عيني، كما فعلت مع كل من احترمت إرادتهم الجبارة، لأن الصمت، السكون، عدم الفعل فى مواجهة عالم لا يتوقف عن دعوتك لاستهلاك نفسك فى الكلام،الحركة، الفعل، هو أمر يحتاج إلى إرادة جبارة.

علاء خالد مثلا ليس ضمن الأعلى مبيعا، لكنه واحد من أكثر الكتاب جدارة باحترامنا، إذا ما ذكرنا الأدب وحده، لا يمكنك أن تغفل اسمه، ولو حاوطتك أسماء المئات الذين تحول الأدب على أيديهم إلى ألعاب سيرك، سيقفز فى ذهنك اسم علاء خالد فى أعلى القائمة، كما تنجو فى كل جيل أسماء قليلة.

وهو واحد من أسماء قليلة ضمن جيل التسعينات، أغفر لها ما أدركته بعد كل تلك السنوات، ولم أعد أخطئه وإن كنت أنفر منه أحيانا، عنف مكبوت وشراسة مضطرة إلى قناع الرزانة والهدوء بحكم النضج، لكنه لم يختف، يمكنك دوما تمييز شيئ من أثره.

وهو أمر أدعى أنه يسم جيله كله، ويمكننى تفهمه لدى من يتمتعون بأصالة الموهبة، لابد أنهم واجهوا سخافات واتهامات بلا حصر عندما كانوا فى مستهل حياتهم الأدبية، وهم يحاولون إضاءة الجزء الميت فى أدب من سبقوهم بفكرة ، ولابد أن من استمروا منهم يواجهون كل يوم كراهية ومرارة ومظلومية من فشلوا فى تطوير كتابتهم عن النقطة التى بدأ منها الجميع.

ربما كان لقائى معه من أجل الحوار هو فرصتى الأولى للقاء كاتب أحبه، ويمثل لى قامة كبيرة عن قرب، كما أنه ابن مدينة الإسكندرية، على عكسه غادرتها إلى القاهرة، فقد كفت الإسكندرية فى زمنى عن أن تكون مركزا للتمرد، ولم ألحق من أساطير ثورة جرائد الماستر الأدبية، سوى حكايات تروى بصيغة الماضي.

وعلاء نفسه هو آخر من ظل من تلك الأساطير الحية فى الإسكندرية، الأثر الوحيد الذى استمر صلبا هو مجلة أمكنة، المجلة التى صنعت فى الهامش ويسعى كل من فى المركز إلى الكتابة فيها، ومن مكان بسيط يحوى تحفا تجعل الحركة داخله حذرا دائما من قبل أخرق طائش مثلى حينها، ويعلم صاحبه البطء والمراقبة، حارس الجميل والحميمي.
كانت افتتاحية البورتريه كالتالي:

(ذات يوم مر أحد أعضاء مجمع اللغة العربية بالصدفة على جاليرى علاء خالد بحى رشدى فى الإسكندرية، توقف أمام اسم الجاليرى «فراديس»، فدخل إلى صاحب الاسم معترضا على جمع الكلمة «لا يوجد سوى فردوس واحد فى الجنة، لا أحد يملك فردوسه على الأرض، ولا يمكن جمع الكلمة» لكن الجاليرى بالفعل هو فردوس علاء خالد الخاص، جنته التى أنشأها عام 1996 مع زوجته سلوى رشاد، رفيقة حياته ونصفه التى قاسمه أحد أهم المطبوعات الثقافية فى مصر، مجلة أمكنة.

«كانت فكرة منقذة» يقول علاء خالد، بعد انقطاع خمس سنوات عن العمل حيث كان يعمل كيميائيا بإحدى شركات القطاع الخاص، زوجته خريجة الفنون الجميلة، كانت العنصر الأساسى وراء اختيار الجاليرى كمشروع).

«فكرة منقذة» فى العام 2014، أتذكر ما جئت من أجله إلى القاهرة بعد سبع سنوات من وصولى إليها، لا حاجة لى بهوس الصحافة التى فتحت لى أبوابها بمناصب ورواتب ممتازة، وفى سبيل ترسيخ أقدامى بالمدينة الكبيرة، كى لا أعود إلى قضبان الحكاية المثالية فى الإسكندرية، نسيت الهدف: الأدب، أنتج أشياء هزيلة، القراءة ضعيفة.

ولا تتقدم. لم يكن اختيارى لمهنة الصحافة إلا لأنها مهنة قريبة من الأدب، لكنها فى ذلك التوقيت كانت تبتلعنى بما تعرضه، لذا بحثت مثله عن فكرة منقذة، تمكننى من التحرر قليلا، وبالطبع لم تكن فكرتى بجمال «جاليرى يدعى فراديس»، لكن على الأقل كان المثال نصب عيني، وأنقذتنى الفكرة، بل وأنقذت عائلتى بالكامل من كل هوس يحجب عنا ما نحب وما نريد، بل تجرأت أخيرا فى عام 2019، وغادرت القاهرة، إلى مدينة توفر لى الهدوء والتركيز.

يقول علاء خالد (رويدا رويدا اكتسبت حساسيات المكان الذى يمتلك قدرة على صنع علاقة حميمية مع من يدخله، صارت خبراتى مع الناس أكثر صقلا ورهافة، أعطانى وقتا أكبر للكتابة والقراءة والتأمل).

(حياة المصريين وصلت إلى حالة من الاختناق، حياة مثل تلك تحتاج إلى شيء من المخاطرة والابتكار، لا تصدق أبدا أن فرديتك ناجية، اختياراتنا التى تقربنا من الأمان، ما هى إلا حواجز تعيقنا عن اكتشاف أرواحنا، المخاطرة وحدها هى التى ستقف بنا فى مواجهة ذواتنا ورؤيتها من جديد).

حينها بطيش الشاب ونزقه وفضوله الذى لم يرتو بعد، كنت أظن أنه سيرغب فى مغادرة فردوسه «بحثا عن آخر»، لكن الآن وقد صرت فى عامى الواحد الأربعين، أعلم ما كان يقصده. السعادة بل والنشاط والتجدد تأتى أحيانا من شيء آخر، كالتكرار، ففى «فراديس» علاء، فى ذلك المكان الذى يشيع بتحفه وأنتيكاته حالة جمالية داخله. واحتوى (على كلام عميق وحميم بين بشر مختلفين).
الفردوس هو الأدب لا ما حوله، فرح العائلة لا هوس البرجوازى بالاستهلاك، أن تسأل نفسك ما الذى يربطك بالحياة حقا.

ويجعلها ذات معنى، ما المشهد الذى تتمنى أن تراه كل يوم ولن تشعر معه إنك ميت، فوحده الشعور بالموت هو ما يتطلب مغادرة الفردوس بحثا عن مشهد يضمن لك تكراره السعادة وتجديد عقدك مع الحياة. لم يغادر علاء خالد الإسكندرية أو الجاليري، لم يبحث عن فردوس آخر.

بعد 15 عاما أو أقل، لا أفكر فى مغادرة فردوسي، الانتصار الأكبر هو الدفاع عنه، لكل منا فراديسه، رحلة اكتشافها قد تتطلب التقلب طويلا فى كل جحيم حتى تجد ذلك المشهد الذى يستحق التكرار.
اقرأ أيضا: عبد الرحيم يوسف يكتب: الشاعر يعيش مرتين.. على الأقل


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة