صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه


مهاب عبد الغفار يكتب : نحت عناصر الوجود في فضاء العالم

أخبار الأدب

السبت، 22 أكتوبر 2022 - 02:18 م

لا تكون اللغة تراكبية ميكانيكية جاهزة بمعزل عن تفكيكها إلى عناصرها المنفصلة ولكنها أشبه ما تكون بالنظام العضوى الحى، حيث يمكن وصف اللغة بأنها توالد متداخل يمتلك كل مصطلح فيها معناه فى ظل علاقته بالمصطلحات الأخرى.

وهى شبكة تغزل ذاتها باستمرار وطوال الوقت،لذلك يكون فعل الكتابة فى اللغة بهذا المعنى ليس فقط تدوين الوقائع،حيث تأخذ الكتابة شكلاً من اختبار الذات فى احتكاكها مع العالم.. مع الوجود والموجودات.. مع الطبيعة.. إنها تضعنا بشكل دائم فى تلك الجدلية اليومية المبهجة أو البائسة لوجودنا،هى موقفنا الذى نقوم بتشكيل تفاصيله بدقة وصبر وإخلاص، حتى تصبح الكتابة ليست فقط كتابة فى الحياة، بل تصبح هى الحياة فى ذاتها.


إن ذلك ما يجوز به وصف تجربة علاء خالد فى كتابة نصه السردى الأول 
«خطوط الضعف» لقد كانت الكتابة لديه حينها هى كتابة فى الجسد، أو إنجاز الذات داخل الكتابة، ولا نستطيع القول إنجاز الذات فقط، وإنما هو إنجاز تلك الطاقة الداخلية للرفض والتمرد، لذلك أتى نص خطوط الضعف كنص الجسد، أى أن الكاتب دخل إلى مغامرة الوجود بكلية ذلك الجسد، حيث قررت تلك اللحظة تقريباً له أن يكون كاتباً.

وهو نص كتبه فى رحلته الأولى إلى واحة سيوة فى أعقاب موت الأب، حيث ذكر فى نصه على لسان أحد شخوصه «إن الواحة هى عبارة عن ملتقى خطوط الضعف فى الصحراء»، الأمر الذى بدا أنه يقابل ذلك الوهن الداخلى للروح فى تلك الواحة.

والذى يمكنه أن يثبت أن التجربة ليست فى العزلة بقدر ما هى فى قدرتنا على الدخول فى جدلية الوجود والحياة والبشر، وذلك بعد أن ورث جيل أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضى، إن جازت الصفة عليه، بقايا الشدة الجذرية على الذات.

وعلى الواقع أيضاً.. ورث العنف فى التمرد على كليهما، من بقايا أجيال السبعينات حيث كانت لاتزال هناك بقايا النماذج العصامية أبناء البطولة الفردية والمبادئ الجذرية، فى فترة الزوال الأخيرة للفكر التقدمى الاشتراكى، وأيديولوجياته الصارمة تجاه التحقق الوجودى باعتباره قضية الذات الملتبسة بالعالم والتى ستقوم بتلك النقلة الحادة والحاسمة للواقع، الأمر الذى من شأنه توجيه ذلك العنف للذات.

ومن ثم للآخر الذى يقف فى الطرف الآخر من النموذج المثال، وأيضاً المواكبة المتأخرة كالعادة لجماعات المتمردين من الكتاب والفنانين فى الغرب، والتى تجلت فى الولايات المتحدة فى أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضى ضد طغيان السلطة الاجتماعية.

وفى أعقاب رفض الحروب والهيمنات الاستعمارية لحكوماتها، وقد جذرت جملة المتغيرات السياسية والاجتماعية بالضرورة فى فترة الثمانينيات وما بعدها شكل ذلك العنف والحدة وتحولاتهما فى سواد الفكرة الرأسمالية بمؤسساتها الاقتصادية لتتحول تلك الحدة بعد ذلك إلى نمط سلوكى اجتماعى، ويتحول تمرد الفرد فى دفاعة عن معتقداته الفكرية ومبادئه النبيلة، إلى الدفاع عن مصالحة ومصالح ذويه.


لقد كان نص خطوط الضعف لدى علاء خالد كما قرأناه، هو لحظة منجزة فى حضوره ككاتب، وأيضاً هو المحفز على فكرة الرحلة، التى أتى منها ما يمكن أن نسميه انثروبولوجيا السرد، والتى تولدت عنها السياقات التالية لتجربته فى إصدار مجلة (أمكنة) ليحقق فيها مسار تلك الخطوط والتقائها مع آخرين ممن كانوا ربما يحملون نفس الهم، أو أجيال لاحقة أُخذت بالفكرة، لتحقق المجلة حضوراً مشهوداً له بقدرة الفرد على أن يؤسس خطاً قيمياً موازياً للواقع حتى وإن كان واقعاً بائساً.


منذ مجموعته الشعرية الأولى «الجسد عالق بمشيئة حبر» وما تلاها من مجموعات، كان هاجس اللغة الشعرية، أو لنقل النص الذى تستحضر اللغة فيه كأفق شعرى من حيث الكثافة الدلالية، وأيضاً الدفقات المتتالية الانفعالية التى تقبض على اللفظة فى تحليقها العاطفى والوجدانى، حاضر فى حالاته السردية فى النصوص الطويلة.

وربما كان «نص مسار الأزرق الحزين» إلى حد ما كاسترسال للوعى الداخلى فى مواجهة الوهن أو هواجس الموت، له دلالة قريبة على ذلك، وعندما كتب مجموعته الشعرية « تصبحين على خير» لم يكن لدى الكثير لأقوله له حين قابلته معلقاً على ما قرأت غير أنه نص كتب ذاته.. عبارة ربما متداولة.

 

ولكن النص الذى كتب فى أعقاب فقد الأم لديه لم يكن يحتمل أى تعليق، ليس من بوابة ألم الفقد، ولكن لأن هناك شيئاً حضر فى اللغة.. الحب.. هذا الذى لا يجد ميزاناً من الكلمات أو الدلالات ليتعرف عليه بها.. هو جملة كاملة وكأنه الحياة.


الحقيقة يصعب أن أقول بشكل شخصى إننى هنا أقف من أعمال علاء خالد موقفاً نقدياً، فأنا لا أصف نفسى بهذه الصفة، حيث هناك الكثير مما يمكن قوله حول أعماله السردية، فيما يخص تتابعات الزمن والأبعاد التى ترتسم كمنظور يجسد الحدث فى عدة مستويات.

ولكننى أستطيع أن أقترب من تجربة علاء ربما من بعد تاريخى عاصرناه، أو عاصره الجيل الذى تشكل فى تاريخ من التأزمات والمتناقضات، وغياب الإرشاد المخلص أو التعليمى ليس إطلاقاً ولكن إلى حد كبير، فكانت العصامية هى مسلك وطريق ورحلة، بما حوته من خسارات ومكاسب، وبهجة فى الحضور الجماعى، فى لحظة كانت متكأً أو ملاذاً.. ربما..لذلك ينطبق المكون العصامى على تجارب الكثيرين من أبناء هذا الجيل إن جاز القول.


استطاع علاء خالد أن يجد معادلاً مع الزمن والمنجز الذى حقق لديه قدراً من التوازن، أو لنقل قدرته على نحت عناصر الوجود فى فضاء العالم من أجل أن تتعادل الروح مع إيقاع الزمن، وذلك المعادل هو إنتاج أبواب من التواصل مع الآخرين، وفتحها قدر الإمكان على مصراعيها، كما تتحول المادة التى تهدأ بعد أن يلفظها البركان إلى عنصر من عناصر الحياة المنتجة، لنعرف أن ذلك التحول هو مكون لكيان حقيقى من عمق الضمير.

اقرأ ايضا | فاطمة قنديل تكتب : زهورٌ أم علبة حلوى

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة