صوره أرشيفية
صوره أرشيفية


الأديب بهاء طاهر: الفضاء التجريبى وإعادة اكتشاف الذات

أخبار الأدب

السبت، 05 نوفمبر 2022 - 04:16 م

تؤسس كتابة الروائي المصري المبدع الراحل بهاء طاهر لتصور تجريبى يتعلق بفاعلية النماذج الروحية فى السياق الثقافى الحديث، والمعاصر، وتجليها – فى النص السردى – كمقولات تأويلية للكينونة؛ ومن ثم تتواتر ثيمة الرحلة الروحية، ونموذج المستكشف أو نموذج البطل، أو المبدع - طبقا لتصنيف كارل يونغ لنماذج اللاوعى الجمعى – الذى يبدو فى ارتحال البطل – فى قصة أنا الملك جئت - نحو معبد يقع فيما وراء صحراء سيوة؛ ليعيد اكتشاف كينونته من داخل الخطاب الرؤيوى السماوى المتعالى للملك القديم؛ وكأنه يعاين بهجة الزهد والتصحر الداخلي، والمراوحة بين الكشف عن دائرية الكينونة، وتجدد أسئلة الوجود فى موقف التواصل الآني؛ كما يستعيد صوت الإسكندر التجريبى / الحلمى القديم  - فى رواية واحة الغروب - كصوت سردى له فاعلية تاريخية تحمل أثر الماضى / التاريخي، وقوة الأسطورة، وأصالة أخيلة الواحة فى وعى كل من كاثرين، ومليكة؛ وكأنه صوت داخلى يعيد تشكيل الكينونة فى مسافة تقع بين الذات، والآخر، ونماذج اللاوعى الجمعي؛ ومن ثم فهو صوت عالمى وعابر للثقافات ضمن سياقين ثقافيين متباينين، ويؤسس للحضور التجريبى المكانى العميق فى تعددية طبقات المكان فى وعى ولاوعى الشخصيات، وانفتاحه على أطياف الماضي، وصخبه، والتباسه بصوت الآخر أو تجسده الإدراكي؛ مثل التباس الإسكندر بكينونة مليكة؛ ونعاين أخيلة النشوء الدائرية للروح فى شخصيتى سالم، والجد فى رواية نقطة النور؛ فسالم يعاين بهجة تكوين الكائنات الحلمية فى لحظات مرضه، والجد يعيد تشكيل ذاكرته من داخل أخيلة الصحراء فى الحلم؛ وكأن الأبنية الفيزيقية تتجه إلى دائرية نقطة النور، واتصالها بالمجال المرئي، والحلمي، والرؤيوى فى آن، كما تستنزف البنى السائدة فى السياق الثقافى الآنى للشخصيات، أو تمنح ذلك السياق بعدا يصل الماضى السحيق للزهد بالمستقبل.

ويمكننا قراءة بعض النصوص القصصية التى تجلت فيها ملامح كتابة بهاء طاهر التجريبية فى استدعائها للنماذج كمقولات تأويلية من جهة، والمزج الإدراكى بين الفضاءات والأماكن الحلمية، والواقعية، والأدبية من جهة أخرى.


ينتقل البطل – فى قصة أنا الملك جئت  ضمن مجموعة بالعنوان نفسه – من دراسة الطب بالمجتمع الفرنسى الحداثي، ومروره بتجربة حب لفتاة فرنسية تجمع بين البساطة، والتعقيد الداخلى إلى الرحلة الروحية نحو معبد يتجاوز صحراء سيوة؛ وذلك عقب تطور شخصية الفتاة باتجاه نوع من التروما، والانعزال؛ ويسهب السارد / المتكلم عبر التبئير الداخلى فى وصف الرحلة.

وصخب الإبل، ورغبتها فى التراجع أحيانا، والفضاء الصامت الفسيح للرمال، ثم وصوله إلى خطاب الملك الفرعونى القديم المتقطع والذى ينطوى على فجوات؛ وكأن السارد يوحى بأن ذلك الصوت القديم فى حالة من الانبعاث الداخلى المتجدد، أو أنه صوت تمثيلى سردى للذات فى سياق الموقف الآنى لذلك التواصل العابر للزمكانية.


وقد أعاد بول ريكور قراءة العلاقة الفلسفية والتأويلية بين الذات والآخر وفق بعض آليات المقاربة التداولية؛ ليوحى بالتدرج فى القوة فى الإحالة المرجعية إلى الذات الفاعلة فى علاقتها بالآخر من خلال لسانيات الخطاب الاجتماعية فى دراسته المعنونة ب التلفظ، والذات الفاعلة المتكلمة، مقاربة تداولية، ضمن كتاب الذات عينها كآخر.

ويشير إلى أن المؤشرات السياقية – فى موقف التواصل والتى تنطوى على الأنا، والآخر، وهنا، والآن، لا ينفصل فيها الحضور المرجعى للأنا عن الآخر؛ وكذلك الأمر فى الأفعال الكلامية مثل التمثيلات، والوعود. (راجع، بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة د. جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة ببيروت، ط1، 2005).


هكذا يصير موقف التواصل التداولى بين الذات، والآخر مفتتحا للتمثيلات الداخلية، واللسانية المشتركة؛ وإذا قرأنا سياق موقف التواصل بين البطل، وصوت الملك القديم، نجد أنه سياق ثقافى مزدوج، ودائرى فى آن؛ فهو يحيلنا إلى لحظة الوصول الأسبق.

والإحالة المرجعية إلى ذات الملك فى فضاء الصحراء الحقيقي، والحلمى التجريبي، بينما تتجدد الرحلة الروحية نفسها فى موقف التواصل / قراءة النقش عند الوصول، وتكاد التجربة الروحية النورانية بينهما تتشابه، أو تتطابق فى فضاء الصحراء الذى يوحى بالصمت، والرعب، وبهجة الوصول، واستنزاف التجسد الفيزيقي، وتحولات الإدراك فى آن.


وأرى أن انتخاب وعى البطل لصياح الجمال، وصخبها فى صمت الصحراء، والإحالة إلى فضاء الصحراء الفسيح؛ وما ينطوى عليه من انبعاث لأصوات الماضي، واستعاراته، وأطيافه يوحى باهتمام السارد بتعددية طبقات الفيزيقى التجريبى فى سياق الموقف الفعلى وفق مقولات نظرية الصلة لسبيربر، وويلسون؛ فهو ينتخب لحظات استنزاف التجسد باتجاه الطيفي، والروحي؛ ثم يراوح بين الغياب فى دائرة الذات الحلمية، والعودة الإدراكية الجزئية للعالم فى رؤية مشاهد فوتوغرافية تسجيلية استعارية لرجل ملثم وقدم فتاة سمراء؛ ويختم القصة بسؤال يقترب من سؤال الوجود الملح عقب غياب محبوبته الأولي؛ وهو من أنت؟


يعود السارد – إذا – إلى الآخر بوصفه صورة داخلية عبر فعل الكلام التوجيهى / السؤال الذى يتطلب إجابة لا نراها فى وحدة الخطاب؛ ومن ثم ينطوى فعل الكلام التوجيهى على فعل كلامى تعبيرى مضمر، وهو الانحياز إلى التجربة الروحية المتواترة بين الذات، والآخر فى فضاء حلمى / واقعى جديد يمثل فضاء المزج المركب.

وفق تعبير مارك تيرنر - من التداخل بين فضاء الإدخال الأول / الصحراء الحقيقية، وفضاء الإدخال الثانى / الصحراء الحلمية المملوءة بالأطياف، والأصوات القديمة – الدائرية؛ وهما يشتركان فى طرح السؤال حول الكينونة فى صفائها المتجاوز للتجسد، والإحالة المرجعية التجريبية إلى الآخر / الملك، وصوته الداخلى الآنى والقديم فى موقف التواصل الآنى التجريبي.


وتتواتر مثل هذه السمات التجريبية – فى كتابة بهاء طاهر التجريبية فى مجموعة لم أعرف أن الطواويس تطير، دار الشروق 2010 – فالسارد – فى قصة القصر – يستدعى نماذج الأطياف كمقولة تفسيرية لبنية القصر الغامضة، ويذكرنا بتصور نورثروب فراى عن عودة الأطياف فى مسرحيات بيكيت فى كتاب الخيال الأدبي، كما يستدعى السارد الطيف المؤجل لشخصية ك فى رواية القلعة لكافكا؛ إذ كانت القلعة ترسل الإشارات الفوقية للشخصية.

وتحتجب، ويحيطها الغموض الإبداعى فى آن؛ ومن ثم فالنص يتضمن إحالة مرجعية خارجية إلى رواية كافكا، ويقيم نوعا من التناص يتعلق بالاحتجاب والتعالى فى بنية القصر؛ وإن انتخب إدراك السارد – فى قصر بهاء طاهر – كلا من بنية الاحتجاب، والتغيير فى البيانات السمعية والبصرية واللغوية المقترنة بحضور القصر فى وعى الشخصيات المحيطة.

والإعلاء من نموذج الاستكشاف الروحي، واتصاله بتاريخ الأطياف والرواية القوطية، والفضاءات الرومنسية القديمة؛ ومن ثم يظل تأويل الفضاء ديناميا مراوغا؛ لتغير البيانات البصرية والسمعية المحيطة به؛ ونلاحظ أن المحادثات حول القصر كانت مملوءة بالصمت، والصخب، والرعب.

والأسئلة الدائرية والمواقف الصاخبة غير المكتملة فى عتمة الليل؛ وهو ما يوحى بتأجيل التناغم فى بنية المحادثة، ودائرية السؤال عن حراس القصر، ووجوههم المتغيرة؛ لذا كان فعل الكلام التوجيهى السؤال فى النهاية هو الأنسب لتأويل بنية القصر من جهة، وتأسيس فضاء مزجى تركيبى جديد يعاد تكوين القصر فيه انطلاقا من صلته بفضاء قلاع الغابات القديمة فى الأدب السردى الرومنسي، والعوالم القوطية الغامضة التى تنطوى على وفرة الأصوات والأطياف غير المرئية التى تبدو تجريبية فى واقعية بهاء طاهر الملتبسة بحضور نماذج الماضى ضمن زوايا إدراك الواقع النسبية فى القصة من جهة أخرى.


وينسج سارد بهاء طاهر استعارة إدراكية تقوم على التشابه بين فضاء العمل، وفضاء الحلم، كما يؤكد تداخل الوظائف السردية التأويلية بين الذات، والآخر الكونى / الطاووس الطائر فى قصة لم أعرف أن الطواويس تطير؛ ففضاء العمل يشبه فضاءات الحلم فى التمازج الإبداعى للعلامات التى لا يتواتر التوافق بينها فى العالم الواقعي؛ إذ نرى الطواويس تتجول بين المكاتب.

والأوراق بحرية تشبه مجال الحلم؛ ورغم أن السارد يروى أن صاحب الحديقة هو من اشترط حرية الطواويس، ولكن المجال الواقعى صار مستنزفا، ومتداخلا مع الفضاء الحلمي، أو الممكن؛ فضلا عن تداخل حكمة الطاووس المستدعاة من وظائف الطيران السردية واستقرارها فى الخضوع الطوعى للطاووس لحالة النزول؛ وتشابه ذلك الخضوع مع حالة البطل / السارد الذهنية الأولى فى نوع من التأشير العائدى فى وحدة الخطاب؛ وهو ما يؤكد تداخل الذات مع الانطباعات الذاتية عن الذات عينها فى التباسها بصورة الآخر فى السياق الإدراكى لموقف التواصل الفعلي.


وينسج السارد فعلا كلاميا تعبيريا يعزز فيه من التأويل الكثيف للزمن والأماكن فى وعي، ولاوعى الجارة العجوز فى قصة الجارة؛ فهى تقاوم حالات المرض ببهجة الذكريات، ومعانقة صور البحر، والحدائق وتمثيلاتها الذهنية الداخلية التى توحى بإمكانية اتساع الفضاءات، والأزمنة فى لحظات الهارمونى الداخلى – الكوني؛ لذا كانت محادثتها مع السارد تتسم بالتناغم، والإكمال، وتوافقية مدلولى تاريخى الشخصيتين السرديين فى تأويل الكينونة وفق العلاقة بين الكثافة الزمكانية الجمالية والاتساع الممكن فى الفضاءات والأزمنة، والذكريات، والأحلام، والنماذج الروحية.


وتتطور الشخصية الفنية من صخب السياق الواقعى إلى بهجة التأملات الروحية الكونية فى قصتى كلاب مستوردة، وقطط لا تصلح؛ فالتباين الحاد بين الحياة الواقعية، وصراعات السوق، وشعور البطلة بالألفة مع الكلب ساكي؛ هو ما يشكل موضوع الخطاب؛ وكأن ذلك الحضور الطبيعى للكلب يمثل بوابة تأويلية – إدراكية للزهد، أو السخرية من الصخب، والصراعات؛ وكأن صورة الكلب الاستعارية – فى سياق الموقف الآنى الفعلى – تنطوى على صورة ديوجين القديمة فى تراث اليونان؛ وهو ما يعزز من حدة التباين بين العالمين المتعارضين.

والمتداخلين فى الوقت نفسه؛ وينتقل البطل – فى قصة قطط لا تصلح - من الأرق الملازم لصخب مهمته كمستكشف واقعى لأحوال الموظفين إلى البحث الآخر عن الهارموني، والسلام الداخلى فى علاقته الحدسية الصامتة بالقطط فى ذلك الفضاء الآخر.

وكأن القطط تسخر أيضا من التعقيد الآلى الوظيفي، وتصير صورها الحلمية الممكنة مثل بوابة للعبور، أو الخروج من الآلية إلى فضاء داخلى كونى أوسع؛ وهو الفضاء الذى تجلى بصورة تجريبية فى مشروع بهاء طاهر الروائي، والقصصي.

اقرأ أيضا | الأديب بهاء طاهر: موهبة بهاء الفارقة.. ولعبة الانحيازات السياسية القاتلة

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة