الأديب بهاء طاهر
الأديب بهاء طاهر


الأديب بهاء طاهر: ابن رفاعة الطهطاوى.. وثقافة الحرية

أخبار الأدب

الأحد، 06 نوفمبر 2022 - 01:34 م

عندما يغادر عزيز لنا، فى سفره الطويل فى الغروب تشاغلك صدمة، المفاجأة المدوية، حتى ولو كانت علامات التأهل للسفر، تبدو محلقة من المرض، أو حالة الغياب، والسكن فى غابة النسيان، وتنتابك الأسئلة ماذا يفكر؟ هل لا تزال تلوح فى دغائل النسيان، قراءاته، ومسارات حياته؟ أم كتاباته، ونقاده، وترجماته إلى اللغات الأجنبية؟! هل لا يزال يتذكر صداقاته؟ ومن أحبوه؟ وهل يتذكر معشوقاته؟ من منهن لا تزال تلوح فى أفق النسيان؟


أسئلة تتناسل من أسئلة، وتنبثق من ألم التيه فى تبدد الذاكرة الحاملة لتاريخها المضىء، وإبداعها المتميز، والأدب الجم فى التعامل مع الآخرين، ونبض الروح الضاجة أحيانا بالضحكات الممزوجة بالبراءة، أو بعض من السخرية الناطقة بالمحبة، واللطف.


عند السفر الطويل فى الغروب - وفق نص الخروج للنهار - تشتد قوة وثقل ووقع الصدمة، وعندها، تتناسل أسئلة الوجود والعدم، وينتاب المرء فى خريف العمر، وتساقط أوراقه.

وعن عبثية الحياة وجدواها! ومساءلة بعض أوهام الكتابة وإبداع المبدعين الكبار، ومدى صدقية أن الكتابة هى محاولة لحل لغز الوجود، وشرطه الإنساني، وسعى لحل لغز الموت المحلق فوق الإنسان!


هل هناك معنى للكتابة، واشتباكاتها مع أسئلة الحياة وآفاقها الفلسفية فى ظل صراعاتها الكبري، والصغري، ودسائسها، وبعض من قدرياتها.ولا تجد إجابات واضحة على أسئلة السفر الطويل فى الغروب وتعاودك بعض الإجابات القديمة التى لا تزال بها بعض الصلاحية إنها - الكتابة - سعى وراء إضفاء المعني، وتوليده من ظواهر ومشكلات الوجود الإنساني، وأنها تعبر عن الوجود ذاته للكاتب والمبدع، وإنها صرخة احتجاج إزاء الظلم والاستبداد، والمواجع الإنسانية!


السفر الطويل فى الغروب - تعبير بالغ الدلالة والإيحاء - هو تعبير آخر فى قاع ثقافتنا الموروثة، ويستعاد للهروب، من العدم، والنهايات، ومحاولة الانتصار المجازى عليه.


هذه الحالة تربكني، وتجعلنى فى عديد الأحيان تحت أثر الصدمة لا أستطيع الكتابة عن بعض من أحببت من الأصدقاء، أو الكتاب، بل وتتناثر الذكريات وتتشظي، وتحاول فى صعوبة أن تلم شذراتها، ووقائعها، وأيامها الجميلة.

وهذه هى حالتى الآن وأنا أحاول الكتابة عن الصديق بهاء طاهر على الرغم من أن حالته كانت دالة ومؤشرة على الغياب فى دروب النسيان بعد مرضه فى السنوات الأخيرة، ومكوثه فى بيته تحت رعاية زوجته، ولا يستطيع النزول إلى مقهى أبو سنبل تحت منزله بخطوات قليلة، كى يجالس محبيه ومريديه وأصدقائه كما كان يفعل فى الماضي.


كنت أتابع الأستاذ بهاء طاهر على أثير البرنامج الثاني، وصوته المميز، وقرأت أول أعماله الخطوبة، فى طبعتها الأولى، وتشكلت صورته كقاص، متميز ضمن جيل الستينيات، وهو يحاول الخروج من معطف سيد الرواية العربية نجيب محفوظ.

وأيضا وهج شخصية و إبداعات يوسف إدريس، وصخبه أينما حل! تميز بهاء طاهر باطلاعه على الأدب العالمي، والمسرحى، وترجم ليوجين يونسكو مسرحية «فاصل غريب» ورواية «الخيميائى» لباولو كويللو بعد ذلك، وعمل مترجما بالأمم المتحدة بجنيف!


لا شك أن معرفة اللغة الإنجليزية، واطلاعه على بعض أدبها ساهم فى انفتاحه على الإبداع الغربي، فى بعض أعماله، وهو ما ساهم فى اضفاء البعد الفلسفى والوجودى فى قصصه، ورواياته، والانطلاق من سردية الواقع المحلى والوطنى المتخيل إلى الأفق الأنسانوى.

على نحو ما فعل محفوظ، ويوسف إدريس، وجمال الغيطاني، ومجايليه من جيل الستينيات، الذى اطلع أغلبهم على الأدب السوفيتى - تشيكوف ودستفيسكى وغيرهم، وآرنست همنجواي، وفوكنر، وبعض الأدب الفرنسى المترجم آلان روب جرييه، والرواية الجديدة.


بهاء طاهر، كان يطلع على بعض هذا الأدب فى مظانه الأساسية، مثل الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور الذى كان يطلع على الشعر العالمي، والأدب، وهو ما أضفى روح التفلسف، والتصوف على أشعاره ومسرحياته، وكان مشغولا بالفكر المصرى الحديث و وتشكلاته.

ومن ثم كتب «رحلة الضمير المصري» كما كتب بهاء طاهر كتابه المهم «أبناء رفاعة.. الثقافة والحرية» ورواياته ومجموعاته القصصية التى ساهمت فى تشكيل مشاهد الإبداع السردى المصري، والعربى منذ مجموعة «الخطوبة» وحتى مجموعة «لم أعرف أن الطواويس تطير».


تعرفت على بهاء طاهر المذيع، والمخرج المسرحي، الذى ساهمت خبرته، فى تأثيرها على نمطه السردي، من حيث التفاصيل، والأجواء، والايقاعات ما وراء السرد، والميل إلى بلاغة الوضوح والتجلي، ومجازاتها.

وبعض من شعرية السرد، ومساءلة إشكالية الحياة فى المنفى الغربي، وانشطار الذات العالمة بوعيها الشقي، بين غرب، وشرق مصرى فى ظلال البٌعد الإنسانوي. من ناحية أخرى حالة الاغتراب، والنفى خارج رحم الوطن ومحمولاته من الذكريات.

وكانت قضية اغتراب، وهزيمة المثقف جزءا من انشغالات بهاء طاهر، وخاصة بعد هجرته القسرية، وخروجه من العمل قسرا فى عهد السادات، ثم عمله فى الأمم المتحدة فى جنيف بالترجمة. نفيه أدى إلى حالة من التفكير العميق والتأمل حول هزيمة الثقافة والمثقف فى ظل اللا حرية، والقمع، والاقصاء، والإحساس باللا جدوى، وانعدام التأثير. من هنا جاء كتاب «أبناء رفاعة.. الثقافة والحرية».


بهاء كان ناصرى الهوى، وخاصة بعد هزيمة يونيو 1967 التى عانى، ولا يزال، منها جيلا الستينيات والسبعينيات، الكتاب بحث فى جذور السعى نحو الحرية فى الفكر المصرى الحديث (الطبعة الأولى مايو 1993 - دار الكتاب).

وقف بهاء حول محور واحد، هو الثقافة والحرية، أو بتعبير أدق حول ثقافة الحرية، حيث ذهب إلى أن قيام الدولة المصرية الحديثة قبل أقل من قرنين من الزمان - وقت كتابة الكتاب ومقدمته الأولى - قد أنقذ الدولة المصرية من الهلاك الفعلى والاندثار الذى لحق شعوبا أخرى.

ويرى أن المثقفين قد أدوا أهم الأدوار وفى إحداث التغير الفكرى الذى قاد مصر خطوة خطوة رغم الهزائم والانكسارات، لتصبح فى كل مرحلة أفضل مما كانت عليه من قبل.


كتاب أبناء رفاعة يمثل مدخلا من مداخل فهم بعض القضايا التى لاحت فى الأفق الروائى لبهاء طاهر، واشكالياته وبعض شخوصه، وأيضا كمثقف مصرى بارز!


وربما يكون من الأفضل مناقشة بعض آراء بهاء المثقف فى بعض قضايا «أبناء رفاعة.. الثقافة والحرية»  أولى هذه القضايا تدور حول الاتصال بالغرب، ومتى بدأت نهضتنا الحديثة، يرى بهاء أن ذلك حدث مع محمد على لا بسبب الحملة الفرنسية كما يذهب البعض، فالحقيقة أن الحملة أخرت النهضة.

ولم تساعد عليها! هذا الرأى إشكالي، وجزء من الاتجاه الذى ساد لدى بعض المؤرخين المصريين اعتمادا على كتاب المؤرخ الأمريكى بيتر جران، فى كتابه «الجذور الإسلامية للرأسمالية: مصر 1760-1840» وترجمة صديقنا المؤرخ البارز د.رءوف عباس.

وهو بحث يؤكد على «ما وراء المركزية الأوروبية»، ومن ثم يرى أن الحملة الفرنسية ليست هى التى كانت وراء الدخول إلى التحديث والحداثة التى بدأت مع الدولة الحديثة.


وفى هذا الاتجاه الصديقة المؤرخة الكبيرة د.نيللى حنا فى مؤلفاتها: تجار القاهرة فى العصر العثماني: سير أبوطاقية، وثقافة الطبقة الوسطى فى مصر العثمانية - من القرن 16م إلى القرن 18م. وشاركها فى هذا الاتجاه بعض من تلامذتها!


هذا الاتجاه الذى ساد فى ظل النزعة إلى مساءلة ونقد الاستشراق الغربي، و ما بعد الكولونياليه، وجد بعض الترحيب، إلا أن إمعان النظر يشير إلى أن صدمة الغرب التى زلزلت المجتمع التقليدى فى مصر جاءت مع مدافع نابليون، والمجمع العلمى المصري، وتنظيم الجيش، وإدارة المعارك، والأسلحة الحديثة فى ظل الحكم التقليدى  السائد آنذاك.

وأيضا نظام المحاكمة الجنائية، إنها صدمة زلزالية، وليست رفة فراشة، وأثرها وهو ما ظهر جليا ليس فى المواجهة مع المحتل الفرنسي، و فى تنظيمه للحارات والأحياء، وانفتاحها، وإضاءتها ليلا، ليس لاعتبارت الأمن فقط، وإنما انفتاح من الحوارى المغلقة ليلا، إلى فضاء أوسع، لا يدرك فى حينه فقط، وإنما تأثيراته فيما بعد!
 صدمة المدافع النابوليونية، كانت صدمة للعقل المسيطر لدى الحكم، والتجار، ومشايخ الأزهر، كانت انعكاساتها بعد ذلك، على بعض النبهاء من مشايخه فى عصرهم! الجدل هنا ليس افتراضيا لأن جذور الرأسمالية السابقة على الحملة لم تكن بذات الوزن والثقل التأثيرى على أنماط التفكير الدينى النقلى التى كانت سائدة.

وهذا لا يقلل من بعض وظيفة بعض التجار آنذاك. المهم أن ذلك البعد التجارى لم ينعكس على الثقافة السائدة، ويؤثر فيها تأثيرا يؤدى إلى تغيير وتحول فى العقل النقلى السائد لدى المشايخ، والتجار، والعوام. من هنا دور الصدمة الوظيفي.

وانعكاساته فى تطور الفكر والثقافة المصرية، لأنه ليس كل ما تطرحه الأفكار ما بعد الكولونيالية صالح فى تحليل وتفسير بعض الوقائع والأحداث التاريخية التى يجب أن تحلل فى سياقاتها، وفيما أدت إليه من تغيرات، أو تحولات سوسيو- سياسية، أو تاريخية.

ولا تقاس بالمعايير والمقاربات والقيم التى تسود الفكر العالمى الحداثى، وما بعده فى مقاربة هذه الأحداث فقط، على سبيل المثال توظيف كتابة ميشيل فوكو للطب العيادى، وتاريخ الجنون، والجنسانية.. الخ، مهم، لكنه لا يكفى وحده فى مقاربة جيش محمد على وإبراهيم باشا، على الرغم من بعض الممارسات العنيفة فى تجنيد الفلاحين المصريين.. الخ من المهم اظهار هذا البعد لكنه ليس كافياً فى المقاربة التاريخية لبناء دولة محمد على وإسماعيل باشا!


كان بهاء دقيقاً فى قوله أن مقاربته هى «قراءة شخصية للخطوط العريضة فى تطور حياتنا الثقافية، ولما اكتسبناه فى مسيرة هذا التطور، وقراءة شخصية أيضاً لعوامل الانتكاس والتراجع، وقد بذلت جهد طاقتى فى تلك الدراسات لتكون غايتى هى الحقيقة وحدها.


ولم يفتنى أن أنسب لكل من أفدت منه رأياً فضله، لكن مجمل القراءة والمنهج والاستنتاجات مسئوليتى الشخصية فى جميع الأحوال». (الطبعة الأولى ١٩٩٣، وص ١٢ من الطبعة الثالثة دار الشروق، القاهرة٢٠٢٠.


من الطبيعى أن تكون مقاربته شخصية، هكذا شأن المؤرخ، والمبدع، أن تكون له تأويلاته حول التاريخ وشخوصه، ومساراته لأنه يختلف عن مقاربة، والباحث فى مجال السوسيو - ثقافة، والسوسيو - سياسة.


 صحيح أن محمد على ساهم فى بناء الدولة الحديثة، مع إحداث بعض التغييرات فى النظام الجنائى الموضوعى، وتعديل بعض النصوص العقابية، مثل عقوبة السرقة، وقطع الأيدى والأرجل من خلاف، إلى النفى إلى فيزأوغلى بالسودان.

وإدخال مفهوم المساهمة الجنائية فى الجريمة، وذلك نقلاً عن القانون الجنائى النابليونى الفرنسى. هذه الاستعارات ارتبطت بمشروع بناء الدولة، واستغلال الأراضى الزراعية، وبناء الجهاز البيروقراطى، والجيش، وحركة البعثات الأجنبية إلى فرنسا.


تم تطوير الدولة الحديثة، مع حركة البعثات، ومرجعية المثال الفرنسى فى إدراك ورؤية إسماعيل باشا، ونشأة بدايات البرلمان مع مجلس شورى القوانين، ونمط العمارة الأوروبى.. الخ، ثم تصفية الدائرة السنية، وبدء الملكية الفردية.. الخ. الصدمة المحمولة على الحملة الفرنسية ومدافعها هى التى أدت إلى ظهور رفاعة رافع الطهطاوى، والشيخ خليفة المنياوى، وبدايات التعليم المدنى، ثم الحراك شبه الحداثى فى مصر.


كانت وجهة نظر بهاء مع الجبرتى، ومخالفاً لويس عوض فى هذا الإطار. قضايا إشكالية فى النظر إلى تاريخنا وبدايات النهضة المصرية المغدورة بعد ذلك، إلا أن مفاهيم الحرية، والعقل الحر.

وقف وراءها أجيال من المتعلمين المصريين من المدارس المدنية، وقبلها البعثات، وبعض نبهاء الأزهر المجددين، وتعلم اللغات الأجنبية، وظهور مفهوم المثقف فى حياتنا مرتبط بالعروة الوثقى بين الحركة القومية المصرية، والحركة الوطنية المعادية للأستعمار البريطانى، وبدء القومية المصرية.

 

وتبلورها فى المرحلة شبه الليبرالية ١٩٢٣ - ١٩٥٢،  وفوائضها مع ناصر، وقضايا التحرر الدينى، والاستقلال، وعدم الانحياز، والعدالة الاجتماعية فى ظل التسلطيتان السياسية، والدينية.


كنا جيلاً متمرداً مع هزيمة يونيو ١٩٦٧ - جيل السبعينيات، لاسيما من مارسوا البحث السياسى السوبيولوجى والسيسيولوجي، وكانت كل قضايا النهضة والتحديث، ومقاربات التاريخ الرسمى.

وغيره موضوعا للنقد، بما فيها مقاربة دور الكبار.. موضع تقديرنا واحترامنا لأدوارهم دونما تقديس أو تصنيم.. طه حسين، وعباس العقاد، ونجيب محفوظ، ولطفى السيد العظيم كل هؤلاء كانوا موضوعاً لمقاربة مختلفة بعيداً عن التقييمات المستقرة.

وكانت نظرتنا لعلاقات هؤلاء بالسلطة، والطبقة السياسية المسيطرة، ومنهم عبدالوهاب وأم كلثوم، وآخرين. كانت نظرة نقدية وأحيانا صارمة، وأحيانا آخرى بسيطة إلا أنها كانت تثير بعض الباحثين عن استقصاء منابت الهزيمة، وما بعد حرب أكتوبر، لماذا وصلنا إلى هنا! آنذاك.


طه حسين، والعقاد، وجماعات اليسار السرى.. لماذا كان الفشل؟! كان الرجوع إلى إعادة النظر النقدية فى مقاربات الآباء، وما بعدهم! ربما كان هذا المدخل هو علاقتى بالصديق الغالى بهاء طاهر، معرفتى به كمذيع، ومخرج كانت عبر الأثير، ثم مجموعة «الخطوبة»، ثم كتاباته الأخرى وبعض ترجماتته، ثم أعماله القصصية والروائية المتميزة وما أثار اهتمامى هو ثقافته المتميزة، وأسلوب الكتابى المترع بالسلاسة والعذوبة، وبعض من المحمولات الشاعرية التى عكست ثقافته.


معرفتى الشخصية به بدأت عندما كان يعمل فى جنيف بالأمم المتحدة فى الترجمة، وكان يعمل معه زميلنا الكاتب السياسي الكبير خيرى عزيز، والذى كنت اقرأ له فى مجلة الطليعة، ثم عملنا معاً، وأستاذنا الجليل أبو سيف يوسف فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وكانت لنا ذكريات جميلة.


بعد أحداث سبتمبر ١٩٨١وتم القبض على خيرى عزيز، بعدها سافر للعمل فى باريس بتوصية من أستاذنا لطفى الخولى، ثم إلى الأمم المتحدة بتوصيات عديدة منها توصية أستاذنا السيد ياسين! قابلته مع أبو سيف فى باريس أثناء الدراسة بجامعة باريس الرابعة السوريون ثم سافر إلى جنيف، وكان مثقفاً كبيراً، وإنساناً لطيفاً، ومحباً للحياة.


جاء ذات مرة إلى القاهرة، فى أجازة سنوية وقال لى إن بهاء طلب كتابك «المصحف والسيف» وأن خيرى اشترى له الكتاب من ناشره مدبولى، قلت له إننى أحب كتاباته، وخاصة مجموعة «الخطوبة»! مضت السنوات.

وعاد بهاء إلى القاهرة، وتقابلنا ذات مرة على مقهى «البوابين»  بجوار محل الشوربجى لبيع الملابس فى حى الزمالك، وأنا آتى من حى الكيت كات بأمبابة، وكان هذا طريقنا إلى بولاق أبو العلا لمقابلة الأصدقاء، وفى عديد الأحيان الجلوس فى هذا المقهى، أو مقهى أبو سمبل، وتعارفنا شخصياً، ودارت مناقشات الجمعة  فى هذا المقهى الهادىء، حول كتابه سابق الذكر، وغيرها من القضايا الكبرى، وكان حوارا هادئا، وموضوعيا، وتبادل للرؤى والأفكار.


ما راعنى هو هدوء بهاء طاهر، وذكاؤه، وطيبته الذكية، وانفتاحه على الرؤى الأخرى، وعدم تصلب رأيه تجاه الناصرية مثله مثل بعض الأصدقاء من الناصريين، أو أصدقائنا من بعض الجماعات والأحزاب اليسارية الماركسية الأخرى. كان به بعضاً من الأنفتاح الليبرالى، يشابه أستاذنا الغالى محمد عوده دون غالب صحبه، ومحبيه، ومرجع ذلك ثقافة كليهما، وإجادتهما للإنجليزية.


كانت جلسات الجمعة بمقهى «البوابين»، أهلنا وإخوتنا جلسات حوار معه، وأيضاً جلسات صمت عندما نقرأ الصحف، وأحياناً يعلق على بعضها سواء الأخبار، أو بعض المقالات. كان عذباً، وذو لغة مترعة أحياناً بالسخرية.

وفى بعض المناسبات كنا نجلس فى مطعم "الجريون" بوسط المدينة، وذات مرة جاء محزوناً، وقال لى جئت لكى أدعم رأيا لك كتبته حول دعاوى الإعدام فى علانية أمام الجمهور لمواجهة الإتجار بالمواد المخدرة، وتهريبها من الخارج! وكان رأيى أن ذلك يؤدى إلى نهاية وظيفة الردع العام والخاص فى الجريمة.

وعقوبة الإعدام، ويجعلها أمراً عادياً، ويشكل نكوصاً عن العالم المتحضر فى المجال الجنائى والعقابى الموضوعى، والإجرائى جلسنا، نتناقش ونضحك ساخرين من هذا النمط من الأفكار الوحشية!


ذات مرة دعينا معاً، وهو الكاتب الكبير، ومعنا أساتذة كبار على رأسهم أستاذنا الجليل عبدالقادر القط، وإدوارد الخراط، والشعراء.. د.حسن طلب، وفاروق شوشة وكان رئيس الإذاعة المصرية، وأحمد الشهاوى، وصديقنا المثقف والمترجم المتميز عن الروسية د. أنور إبراهيم، والدكتور ميلاد حنا فى "ليالى السنونو".

وكنا  نجلس معاً بهاء طاهر، وعبدالقادر القط، وإدوارد الخراط، وأنور إبراهيم، نتناقش، ونأكل ونشرب  معاً، ونجلس على المقاهى معاً! فى رحلة فكرية ممتعة، وذات أمسية مسائية مشتركة بين الشعراء، والكتاب الدنماركيين الكبار، وبعض المهاجرين الشعراء العراقيين منعم الفقير وسليم العبدلى، وآخرين.

وقرأ بهاء طاهر قصة قصة قصيرة بالإنجليزية «فى حديقة غير عادية» من مجموعة «أنا الملك» جئت  ألقاها بإنجليزية واضحة، كانت محلاً لإعجاب الحضور فى تلك الأمسية. كنت أنا، ود. ميلاد حنا من غير الشعراء والروائيين الكبار، وذهبنا لمحاضرة فى المكتبة القومية عن الشخصية المصرية، والاندماج الوطنى. 


فى التظاهرات الرمزية لجماعة «أدباء وفنانون من أجل التغيير» وكان محفزاها صديقينا عادل السيوى الفنان الكبير، ومحمود قرنى الشاعر المبرز فى جيل الثمانينيات لقصيدة النثر كانت رمزيات هذه التظاهرات فى ميدان طلعت حرب تجد بهاء طاهر وأحمد فؤاد نجم وبعض من كتاب وشعراء وروائيين ورسامين.

وأجيال من السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى حاضرة وراغبة فى التغيير ورفض توريث السلطة! ثم الجلوس بعدها فى مقهى ريش، أو دار "ميريت" للنقاش والضحك والسخرية أيضا! 


لم ينته الجلوس فى المقاهى  واستبدل بهاء طاهر مقهى «البوابين» بعد تغيرات وتحوله  مع الافتتاح إلى نصف مقهى "أبو سنبل" الذى قسموه إلى نصف مقهى ونصف محل لبيع الحلوى  مع الانفتاح وعصره! لأن المحل تحت شقة بهاء ومن ثم كان يسهل عليه الجلوس عليه للقاء بعض محبيه. فى تظاهرات يناير 2011 كان حاضراً بين الميدان متكأ على عصاه وبين مقهى ريش يجلس ليستريح ويتحدث مع مريدية وأصدقاءه!


ذات مرة بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة جاء وحيداً مهموما وكنت أجلس بمقهى ريش كعادتى وسألنى هل يمكن أن تحدث ثورة مرة أخرى؟
قلت له صارما: ما حدث انتفاضة ثورية جماهيرية كبرى، دون قيادة لكنها ليست ثورة بالمعنى التاريخى ووفق نظرية الثورات! كان رأيه مخالفا. لكننى قلت له ستحدث مثل هذه الانتفاضات مراراً  ما دامت الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مستمرة.

ولكن عندما يحدث تغيير جذرى فى بناء الدولة والسلطة ونظام الملكية يمكن القول أننا إزاء ثورات فى العالم العربى! وأن المستقبل قد يحمل معالم ذلك وبعض مؤشراته. قال وهل سنشهد ذلك؟ قلت له ربنا يعطيك الصحة وطول العمر وأنا معك! فضحك ساخراً من قلبه.


شخصية اتسمت بالأناقة فى الملبس والأناقة فى اللغة وبلاغة الصمت ودلالته فى عديد الأحيان! كان محباً للناس ومن هنا كثر محبوه ومدعى صداقته وربما بعض من مجايليه كانت ردات فعلهم النفسية رافضة لجماهيريته ومحبة المثقفين له وأدى ذلك للخلط بين المشاعر والرأى النقدى فى أعماله المتميزة على قلتها مقارنة بالآخرين من جيله الستيني!


بهاء طاهر ليس مقدساً أو شبه مقدس مثله مثل الكبار فى تاريخنا قابل للنقد الموضوعى والتحليل النقدى وفق مدارس ونظريات الأدب، بل وحتى والنقد الانطباعى السائد، مثله مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس، والغيطانى، وأجيال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وما بعد!


فى الفكر السياسى والاجتماعى والفلسفى والقانونى ونظريات الأدب ومناهجه لا توجد قداسات وأقانيمها هى النقد والهدم وإعادة البناء، وهكذا أيضا فى السرديات الأدبية، والمسرح والشعر والفنون التشكيلية والموسيقى والغناء، لا توجد مقدسات وانما التجديد والتجاوز والهدم والبناء المختلف.


من الشيق ملاحظة حضور بهاء المشع بالآلق أينما حل على الرغم من ميله إلى بلاغة الصمت وفضيلة الاستماع إلى الآخرين، ربما كان يستمع إلى بعض مما يقوله من أذكياء محبيه ومريديه ويعتصم بصمته وسكينته عن بعض الترهات، والتفاهات، والآراء السطحية لآخرين. هكذا كان يخيل لى، كان يبتسم ويضحك أحيانا من بعض المواقف التى تنطوى على مفارقات أو على بعض شخصيات السياسة فى مصر!


ثمة نبض من بلاغة الحزن العميق كانت  تبدو على ملامحه مرجعه هذا الحزن المقيم بين حنايا جيله، والأجيال اللاحقة على دراما الصعود والانهيار فى تجارب بلادهم فى التنمية، والتحديث، والحداثة المبتورة من نهاية القرن التاسع عشر حتى المشروع الناصرى الذى هزم بعد يونيو 1967 وكان مثل إشراقة ثانية بعد مشروع محمد على واسماعيل باشا!


ربما كانت ملامح بلاغة الحزن تبدو فى مشاهد الثقافة والمثقفين وهزيمتهم وصمتهم بعد انتفاضة يناير 2011 المجهضة!وربما كان يخايله الأستاذ العميد طه حسين، ونجيب محفوظ، وأستاذنا الجليل يحيى حقى، ويوسف إدريس، ومجايلوه فى عقد الستينيات من القرن الماضى ومحاولاتهم الخروج من معطف نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وربما كان يصمت مسافراً الى مظان الأدب الأوروبى والعالمى الذى شكل جزءاً مهما من تكوينه وروافدة المعرفية والأدبية والسردية.


فى مراجعته للتطور الحضارى المصرى حول الثقافة والحرية كان يصحح بعضاً من الحلم الناصرى الذى تحول إلى كابوس لأجيال بعد هزيمة يونيو 1967، وغياب الحرية فى الثقافة المصرية على الرغم من بعض الحيوية فى السياسة الثقافية آنذاك، وفى الترجمات، وتحول الثقافة إلى قيمة فى بناء المكانة الاجتماعية!


الحضور الطاغى فى نعومة لبهاء طاهر أدى إلى حالة من الحبور والمحبة تحطيان به أينما حل، وأيضا بعد سفره الطويل فى الغروب، حتى فى عالم الوسائط الاجتماعية الرقمية وهو أمر له دلالة على قيمته الإبداعية، والإنسانية.


لم يكن ساعيا للجوائز المصرية والعربية، السخية، وإنما جاءت له عن استحقاق، وهو أكبر من هذه الجوائز التى شرفت به. عديدون فازوا بالجوائز ونسيهم القراء والنقاد الجادين فى موضوعية، وإبداع نقدى لا مدرسى! أما بهاء ظل حاضراً قبل الجوائز وبعدها، ودخل تاريخ السرد والثقافة المصرية فى اقتدار.


سلام لروح الصديق بهاء طاهر فى مغامرة السفر الطويل فى الغروب محفوفا بأنوار إبداعه وكتابته فى عتمة السفر الطويل... الطويل فى الغروب.

اقرأ ايضا | الأديب بهاء طاهر: الفضاء التجريبى وإعادة اكتشاف الذات

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة