عبد العزيز المقالح
عبد العزيز المقالح


د. عبد العزيز السبيل يكتب: في وداع الرمز العربي «عبد العزيز المقالح»

أخبار الأدب

السبت، 03 ديسمبر 2022 - 04:08 م

مر المقالح بتحولات أدبية، فإذا كان بدأ تقليديا، فإنه انفتح على عوالم الحداثة، رؤية وفكرا وتوجها. وله بعض القصائد التى تبدو، فى ظاهرها، خارجة عن مألوف القيم الدينية، لكن أسره فيما بعد الشعر الروحي، والعشق الصوفي، فهام بهما.

الرمز العربي الكبير عبد العزيز المقالح (1937-2022)، من أبرز القامات الثقافية على المستوى العربي. أقام في مصر عدة سنوات، لاستكمال دراساته العليا. واستقر بعد ذلك في اليمن، متشبثا بأرضها، معجونا بترابها وتراثها، ملتصقا بها. لعقود عديدة، لم يبرح اليمن أرضا، لكنه حلق في سماء الثقافة العربية. لم يكن صوت اليمن فى محافل الثقافة العربية، بل كان، دوما، صوت العروبة ونبضها. 

أجزم أن معظم الأدباء من مجايليه، وتلاميذهم مدينون له، بشكل أو بآخر. كان، بشغف وحب، يتابع إنتاج الأدباء الشباب، ويعتنى بالمتميزين منهم. يكتب مقدمات أعمالهم الشعرية والقصصية، ويتابع مسيرتهم، ويوجه بوصلة معظمهم نحو التميز. كان، دون ريب، الأب الروحي لكثير من الأدباء والكتاب اليمنيين.


حين بقى عقدين من الزمن رئيسا لجامعة صنعاء، كانت الجامعة كعبة للأساتذة والمفكرين العرب الذين ضاقت بهم أوطانهم، بسبب الواقع السياسي المرير الذى كان يخيم عليها. لم يهرب هؤلاء الأساتذة من أوطانهم الصغيرة إلى بلاد المستعمر، بل اتجهوا إلى اليمن، نبض العروبة.

ومعظمهم إلى صنعاء تحديدا. أغراهم الدكتور عبد العزيز المقالح، واحتواهم، فعاشوا فى أجواء أكاديمية عربية. بوجوده، كانت اليمن الحضن العربي لكل الباحثين عن الكرامة والعزة والضمير الحي. أحسن المقالح إليهم، وبادلوه بإحسان كبير. أفاد منهم فى البحث والتدريس، وبناء كوادر وطنية متميزة. تتلمذ على أيديهم فى جامعة صنعاء.

وجامعات يمنية أخرى مئات الطلبة والطالبات الذين يدينون لهم بالفضل فى فتح آفاق المعرفة أمامهم، فى زمن لم تكن وسائل التواصل تتيح الوصول بيسر إلى أنواع من المعارف والعلوم.


وبين أحضان الطبيعة الخلابة، والأجواء المعتدلة، وبين القلوب العامرة بالمحبة، وكرم الضيافة، ظهر إنتاج عربى ثقافي، وإبداع شعرى وروائي. عشرات الأساتذة الكبار ممتنون له بفتح أبواب المعرفة أمامهم، وتهيئة الأجواء العلمية لإنتاجهم، فأخرجوا كنوزا من الآداب. 


كان مجلسه (مقيله) جامعة عربية، يرتفع فيه صوت العروبة، وتتلاشى فيه الأوطان الصغيرة. تذوب فيه الفوارق المذهبية، وتختفى الطائفية، ويرتفع الفكر، ويسمو الأدب. هو الرئيس، والمحرك، والقائد لكل مجلس يحضره.

ويوجه بمناقشة قضية أدبية، أو كتاب صدر حديثا، أو منح الفرصة لزائر جديد ليحدث الآخرين بما لديه. كان يدير المناقشات بالهمس، ويوجه الحاضرين بالإشارة. كلامه قليل، وصوته خافت، وجمله بليغة، ورؤاه عميقة، ومعانيه ثمينة. تغشاه السكينة، وتحوطه الهيبة، وتدثره السماحة، ويسربله الهدوء. الذين عايشوه عن قرب، وشرفت أن كنت من بينهم لزمن قصير، يدركون مدى البعد الإنسانى العميق الذى كان يعيشه. 


معظم مؤلفاته، ذات صلة بتاريخ اليمن، وأدبه، وشخصياته. اليمن الواحد بجغرافية شمولية. عبرت كتبه الحدود السياسية الضيقة، وأهداها للقارئ العربى الذى ظل متعطشا لمعرفة ثقافة أرض سبأ. أما دواوينه الشعرية، فمعظمها يحمل رائحة اليمن.

وعبر الأمكنة والشخصيات اليمنية. يحضر سيف بن ذى يزن، ووضاح اليمن، وبلقيس. غير أنه، بإبداعه الشعري، لا يبقى أسير محيطه الجغرافي، وهو ذو البعد الإنساني، فيتجول فى حدائق طاغور، ويرحل مع تغريبة ابن زريق البغدادي. 


مر المقالح بتحولات أدبية، فإذا كان بدأ تقليديا، فإنه انفتح على عوالم الحداثة، رؤية وفكرا وتوجها. وله بعض القصائد التى تبدو، فى ظاهرها، خارجة عن مألوف القيم الدينية، لكن أسره فيما بعد الشعر الروحي، والعشق الصوفي، فهام بهما، واتضح ذلك جليا فى ديوانه «أبجدية الروح» 1996. ومنه:
إلهى 
ساعترف الآن أنى خدعت العصافير
أنى هجوت الحدائق
أنى اختصمت مع الشمس
أنى اتخذت طريقى إلى البحر منفردا
وانتظرت الزمان الجميل
فما كان إلا السراب
وما كان إلا الخراب
ولكننى انصعت للشك 
كابرت
بعثرت نصف الجنون
ونصف الضمير
 فأدركنى دمل الوقت
شاهدت نعشي
خالطت أشياء لا تقبل التسمية
إلهي
تزينت الأرض
أنت الذى بظلال الندى، بالبحيرات
بالعشب، بالأخضر المتوهج زيّنتها
وشعشع ضوؤك فى الماء
فاستيقظ الروح
وارتعشت فى الأثير المعارج
فواحة - كانت- المدن الذاهبات إلى النهر
والقادمات من النهر
لا شى يشبه شيئا هناك
ولا شى يشبه شيئا هنا
أنت شكلت باللون هذا الفضاء المديد
وأطلعته.. كيف تنفلق الثمرات
كيف يجيء المساء وحيدا إلى البحر
يسحب خطوته خائفا 
وينام.
ظلت صنعاء أثيرة لديه، فهى رمز الوطن، رمز التربة، رمز الانتماء. تحدث عنها طويلا، وخاطبها كثيرا:
صنعاء 
يا بيتا قديما 
ساكنا فى الروح
يا تاريخنا المجروح
والمرسوم فى وجه النوافذ 
والحجارة
أخشى عليك من القريب
ودونما سبب
أخاف عليك منك
ومن صراعات الإمارة.
فى السنوات الأخيرة، ومن خلال ما مر به اليمن (السعيد) من ظروف صعبة، وحروب طاحنة، عاش مع نفسه فى غربة عميقة، وضاقت به الأرض بما رحبت: 
دثريني
فإنى أرى القبر
أوسع من هذه الأرض
أوسع من بحرها
وأرى فيه شمسا
أحن وأرأف من هذه الشمس
أشهد فيه نجوما ملونة
وملائكة فى الفضاء المديد تصلي
وتغسل بعض ذنوب البشر 
دثريني.. 
دعينى أعانق فى شغف صحوة الأبدية
أرحل عن وطن بائس الأمس واليوم
فيه تموت العصافير جوعا وتسمن فيه الذئاب
وما كتبته يدى ليس إلا صدى شجن حارق
وبكاء من الكلمات
على بلد كنت أحسبه بلدا
وعلى أمة كنت أحسبها أمة
ظلها كان يمتد من ماء تطوان 
حتى سماء الخليج.
كان يرى فى الموت راحة وخلاصا من هذا العناء والألم الذى تمر به أرضه، وآلام القلب أشد مضاضة من آلام الجسد:
أنا هالك حتما
فما الداعى إلى تأجيل موتي
جسدى يشيخ
ومثله لغتى وصوتي
ذهب الذين أحبهم
وفقدت أسئلتى ووقتي
أنا سائر وسط القبور
أفر من صمتي
لصمتي. 
تغمد الله عبد العزيز المقالح بواسع رحمته، وأمطره من شآبيب رضوانه.

اقرأ ايضا | منصورة عز الدين تكتب : هل يقود تيك توك ثورة فى سوق النشر؟

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة