صوره أرشيفية
صوره أرشيفية


مؤمن سمير يكتب: قصائدُ من «ذاكرة بيضاء»

أخبار الأدب

السبت، 03 ديسمبر 2022 - 04:55 م

تحكي الأحجارُ في صندوقها كي لا تموت
يحبون الجلوسَ على سلالم البيوت وسلالم الساحات وسلالم المترو.. ثم يملكون فلسفةً لهذا الأمر.. يقولون إن السلالم أقدامُ طيورٍ تجمدت، كانت تضحك ثم مرت غيمات وغيمات فوق رأسها، فأخذ وجهها فى التجهم حتى التقطَ القَدَرُ اللقطةَ هكذا.. إذن كان دورهم أن ينظر كل واحدٍ فى قلب الآخر ثم يضحك، يضحكُ بعمق، إذ ربما تصحو مظلةٌ من ذاكرة أحد البيوت وتحوشُ المطرَ من غير أن تنجرح كبرياء الدَرَجاتِ أو تحلمَ بأن تتوالى بلا نهاية.. أو ربما يفيق أسيرٌ عندما يتذكر ساقه المقطوعة التى سندوا بها الأحجار، كى تعدو الحربُ وتصعدُ وتهبط، كأنها طفلةٌ نَمَت لها جناحات.

قُبَيْل الفضيحة
بجوار ظلالنا، كانت تتمشى شحاذةٌ عجوز، يسحبها عُكَّازها الذى هو فى المساء حبيبها وفى الصباح عيونها المتقدة.. صحوتُ اليوم مستثاراً بعد أن حلمتُ أنى أطيرُ معها من النافذة.. انتظرتها وقلت لها إنى حزين يا أمنا وخائفٌ من أطفالى وبلاط الغرفة ونظارتي.. أخبرتها كيف سافرتُ فجأةً ونسيتُ جسدى جوار النافذة التى فى حافلة العودةِ وكيف تغيم عيونى كلما فكرت فى شهقة أبى رغم أن الذى قتله ربه بينما كنا غائبين.

وقلت كثيراً وحكيت وغنيت والشحاذة تسمعُ وتضحك وتبكى وتحلق.. قالت أنت جميلٌ لأنك كاذبٌ مثل هذه الدنيا.. أنت قريبٌ أيضاً، لأنك شبحٌ ولأنك فى هذه الليلةِ الباردةِ هواءٌ دافئٌ.. هل تعلم أن يدى اليمنى تأخذ نقودكم وتطبخها فى قِدرى الضخم فتتمشى فى عظامى روائحكم وأسراركم.

وأنَّ فمى لا يأكل ولا يشرب منذ سنوات، وعيونى لا ترى سواكم ولا يتنفس أنفى إلا من رئاتكم الغامقة.. حتى مرت الأزمان كلها على دخولى تحت جلودكم ورقودى وملَّتنا اللعبة فى النهاية.. إذن لا بد وأن تفكروا من الآن.

وفى اليوم الذى سأختفى فيه من هذا الشارع وأظهر فى شارع بعيد.. ساعتها ستحسون بوطأة الصقيع وتفهمون سر أحضان زوجاتكم المليئة بالديدان.. ستعدو من أمام أعينكم كل الأذرع التى ارتعشت فى الصور والرئوس التى اقتربت من البحر لتلهو فالتقطها السِرُّ.. حتى الغول الذى كان حبلاً رفيعاً وهو صغير، سيهربُ وهو يملأ بظهره الضخم جدران الحكاية.. كلما تذكروننى أختفي.. ويوم تنسونَ.. تضيئون.


صَفيرٌ يفضل بصدقٍ، ألا يتوقف
وأخيراً رجعتَ من عِندها أيها القطار.. ماذا قالت وهى تودعك.. كم مرةً نَطَقت باسمى وهل كانت عيونها تلمع.. هل كانت الحروف ترتعش أم كانت عروقها كالأحجار.. وكل هذه الأشباح التى تحرك أحداقها داخلك، هل انتبَهَت للأمر أم أن الدراما التى تسعى كالحية بين المقاعد اقتَنَصَتْها.. ألن تخبرنى يا أخى بأى شيء.. ألن توقف حتى صفيركَ الطويل الحزينَ الذى يجعلنى أُجَنُّ.. ثم.. قل لى بصراحة.. هل كان باب مقبرتها مفتوحاً أم موارباً فقط؟
كَفٌّ تسبَحُ وحدها وتصيرُ فنانةً
كنتُ أتوقُ لسيجارةٍ لكنها كانت لا تريد، تقول حريقكَ صار قديماً، عجوزاً كأنهُ ماءٌ يخدعنا بالوَهَج.. هى لا تدرك أننى كنتُ أحلم بقاربٍ ينجينى من حصار عينيْ حبيبتي، القادر الذى جعل تنفسى ملتاثاً ويديَّ ترتعشان وهى تسلم الذكريات للحارس.. كنتُ أودُّ أن أُمَرِّرَ الأمرَ للسيجارةِ وأرتدى شجاعةً بألوانٍ زاهية، فيلتقطها البحرُ ويتركنى أَمُرُّ.. كنا وسط الحربِ، والقائدُ لم يسمَح إلا بمذبحةٍ صغيرةٍ ونحتاً خفيفاً على بطن الكف..

شقوقُ الحكايات
أشعلتُ سيجارتى فانطلق سربُ اليمام من الشقوق.. استيقظى يا أمى وأخبريني: متى قَرَّرَتْ الجذوةُ أن تَطِيرَ من قلبى وتَدُكَّ الطريق القديم للسماء؟ كلما هربتُ إلى السطوح يَظْهرُ ما يخبئهُ جنبى من ريشٍ وأعودُ إلهاً تملأ مكائده المدينة حتى يمرَّ دهرٌ ودهرٌ وينضُجَ الثوارُ ويمحونهُ من الذاكرة.. لكننى بعدما أسقطُ فى دوامتى كالحَجَر أرى الأمور بشكل بسيط وجميل.. فأجهِّزَ سُمَّاً وأضعهُ فى الطعام وأتركه يختمر.. الحل فى هذا السديم إذن أن تظهر حبيبةٌ فى الحكاية.. تُحَوِّلُ الرمادَ الأسودَ أشجاراً تبتسمُ وتفوتُ علينا وتُسَلِّمُ كلما رواغَ ذاكَ القَدَرُ أو حتى تَرَكَنا وهرب..

فى تبرير الخوفِ والخِفَّة
عندما زارنى حكيمُ القرية انتهَزْتُ الفرصةَ وبَكيْتُ فقال إذن حان وقتكَ لتَعْلَم.. تهتُ قليلاً ثم أدركتُ أخيراً سر أنياب الشتاء التى تغزونى حتى فى جهنم.. وكذا تلك الجدران العالية التى تصحو وتتثاءبُ كلما فتحتُ عَيْنَيَّ أو نسيتهما حتى.. السببُ كما رأى قلبي، أن كل الذين لضموا حياتهم معى وشطروا جسدى كالسِكِّين، طاروا فى صباحٍ غامض.

وأن الذين زينوا جثتى بشرائطَ ملونةٍ، رحلوا كالنور.. لهذا صرتُ عارياً.. بلا ذكرياتٍ حيةٍ ولا أشواقَ ولا ضغينة.. فقط رياحٌ تُصَفِّرُ وتُصَفِّرُ وأنا أسيرُ فى الشوارعِ غريباً، مرتاباً.. بلا روحٍ عفيَّةٍ أسنِدُ عليها رُكبتَيَّ ولا ظِل.


ملوكُ الصناديق
كانت روحُ أبى تخرج من صندوقها لتزور السوق القديم، تصطادُ الخُبثَ من ضحكات العجائز وتُضيِّق ما بين حاجبيها وتتنهد.. تنطُّ فى الأجولةِ وفى حكايات اللصوصِ والهارباتِ وحتى مواعيد الفيضان ورفرفة الحربِ فى القلوب.. روح أبى التى كانت تُخرج لنا من جرابها أبواباً مسحورةً تضحكُ كلما صرخنا من التنينِ الذى يكحت الملامح.

ملامحنا التى اختارها أبى برويةِ راهبٍ راسخٍ فوق الجبال.. هذه الروحُ صخرةٌ، مسنونةٌ كأنها ماءُ بحرٍ ملتاث.. حيةٌ لها أجنحةٌ  وحبالٌ تشدُّ نظرتنا لحد المنتهى.. هذه الجافةُ كلما هدأ الليلُ أو عادَ كأهلهِ مسكيناً، تشبهُ غَيْمَاتٍ وعواصف ضالةً وعمياءْ.

كلما نبتت شجرة فى الفِناء الخلفيِّ، أو دقت ذكرى على شُبَّاكنا لتملأ جرة الماءِ، تشدُّ هى من الغابة ناراً وتفرُّ بها من الحنين.. هى روحٌ شكاكةٌ فى الجانب الأعم، تظن أنه ما أعادنا إلا لنَزُقَّها فى الصندوق.. كأنها لا ترانا ونحن نغمض عيوننا، ونقول كل فجرٍ جبَّارٍ أوحشتَنَا يا أبي.. كأنها لا تراقبُ زفراتنا.

وهى تُحَلِّق فى سماء الغرفة لترضى علينا روح أمى وتهمس من قلبها سأخرج الآن من صندوقي، بلا عصا لها زوائد تخدش لحمى وترسم أسواقاً بعَظْمى وحوائطَ ومتاهاتٍ ملونةٍ.. تقولُ، هذا بيتى الجميل.

الذى تمرُّ عليه أيامٌ بحالها بلا رعشة.. وهذه أحضانى لأولادى الشجعان الذين يكبرونَ كلما تَبَخْتَرْتُ بين الممراتِ والظلالُ تنحني.. ثم يشكرون الرب لأنهُ أرسل فيهم مَلِكَةً مهيبةً.. يصيحُ ديكها فى كل الحكايات.


حلمٌ غريبٌ عن الناحية
ليلة أمس، أمسكتُ حُلمى من قرنيهِ ثم دسستهُ بين وسادتين.. كى يغطس ويلهث ولا يصل أبداً.. هذا ما نصحنى به أبى لأكون جَبَلاً كَجَدِّى وأَنْتَصِرُ على أقدارِ الليل الطوَّافة.. لكنَّ المسكين عندما سيرفع عينيهِ، لن يجد إلا رأسى المقطوعة تحاصرها الطبول وحزن الصياد المغدور.

والفارين كلهم هنا.. تجمعوا على السفح ونادوا على المُخَلِّصين والكهنة.. كانوا يأملون أن تراهم الشمس على القمة وتكشفهم، فيعرفون أنفسهم.. هم ذاهلون منذ زمنٍ وذاكرتهم فارغة.. الأحلام الغامضة، الغريبة عن القرى والكتب وعن جدودها حتى.

دائماً ما تنبت لها أقدام لتتسلق أشجاراً وتعدو فى الصحارى وتحفر الأصوات على الحائط.. السيقان التى تنفع أذرعاً وراياتٍ للمراكب، تُخلَقُ كذلك للهروب وتغيير دفة الأحداث ودفع المسامير فى قلب البطل.. لكنَّ حلمى أعمى.

ولا يدركُ أن الصباح وقع عليهِ، إلا إذا ذكَّرته الريحُ بأنهُ عجوزٌ منسيٌّ بجوار حانةٍ رخيصة.. فيكتفى ساعتها بمشهدٍ بعيدٍ عن العدسة.. ويترك قصاصةً من ملابسه لتهدينى حتى مُقامى الجديد.

اقرأ ايضا | رحيق السطور| خفايا الساحرة المستديرة.. «تاريخ شعبي» لكرة القدم

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة