صلاح فضل مع الرئيس جمال عبد الناصر
صلاح فضل مع الرئيس جمال عبد الناصر


إيهاب الملاح يكتب: تكوينات صلاح فضل النقدية

أخبار الأدب

السبت، 17 ديسمبر 2022 - 03:35 م

بالتأكيد يمثل الدكتور صلاح فضل (1938-1922)، مع الدكتور جابر عصفور (1944-2021) عليهما رحمة الله، حالة فريدة وخاصة فى تاريخ النقد العربى المعاصر، فى أقل من عام واحد رحل عنا الناقدان الكبيران اللذان كانا يمثلان كفتى ميزان النقد «المنهجى» الدقيق والصارم، والخبرة النقدية المؤسسة على اطلاع واسع وعميق بالمناهج والتيارات النقدية الحديثة، فضلًا على ذائقة أدبية رفيعة أُرهفت بممارسة القراءة والنصوص الإبداعية على مدى زمنى يقترب من ثلاثة أرباع القرن. 

ومن المدهش أن مسارى الناقدين الكبيرين فى التحصيل والتكوين وغزارة الإنتاج، والممارسة النقدية التى اتسعت لتشمل النظرية النقدية، والمعالجة النصية (شعرا ورواية وقصة قصيرة)، كانا متوازيين تقريبا ويكادان أن يكونا متماثلين فى الاهتمامات النظرية.

وفى السعى لترسيخ وتأصيل تيارات الحداثة النقدية وما بعدها فى تربة الثقافة العربية، ثم يتمايزان بعد ذلك فى طرائق الكتابة النقدية وأساليبها، والاهتمامات الفكرية والثقافية، وإن ظلا معا فى إطار الدائرة المعرفية والفكرية التى تقوم على العقلانية النقدية والتأسيس المنهجى العميق، والجمع فى التكوين الثقافى بين التراث والمعاصرة.


ومثلما سجل المرحوم الدكتور جابر عصفور مراحل تأسيسه وتكوينه العلمى والفكرى والنقدى منذ البدايات، وحتى مرحلة النضج النقدى والقدرة على التنظير والممارسة فى كتابات عدة، فإن الدكتور صلاح فضل كذلك قد ترك لنا عبر ثلاثية سيرية ما يوضح ويكشف الجذور العميقة للتأسيس العلمى والثقافى.

ومسارات التكوين الأدبى والنقدى، وما آل إليه ذلك فى النهاية وصولا إلى الناقد الشهير الذى كان ملء السمع والبصر وملأ الدنيا وشغل الناس (مثل الدكتور جابر) طيلة ثلاثة عقود أو يزيد.


فى هذه الثلاثية (تكوينات نقدية/ عين النقد/ صدى الذاكرة) يقدم صلاح فضل نموذجاً لافتاً للسيرة النقدية التى تمتزج فيها رؤية الناقد القدير، صاحب الخبرة النقدية العريضة، بالشهادة التاريخية على مرحلة زمنية، بل مراحل من العمر، عاينها وعاصرها منذ أن كان ذلك الطالب النابه الذى ورث من جده الأزهرى نبوغه وحسه الجمالى والنقدى.

وحتى صار الناقدَ المبرَّز والأستاذ الجامعى المرموق، بكل ما أتيح له من ظروف وسياقات تأثر بها وتركت بصماتها على حياته ومؤلفاته، وإنتاجه النقدى ككل، ثم تقييمها بطريقةٍ علمية واضحة‏، وفى الآن ذاته تميزت هذه المقاطع السيرية بأسلوب سردى شائق تجعل قراءتها زاخرة بالمتعة والإفادة معاً.


وفى عام 2000 وعن دار الكتاب المصرى (ودار الكتاب اللبنانى) صدر كتاب صغير الحجم يقع فى 215 صفحة من القطع الصغير؛ بعنوان «تكوينات نقدية» موقعًا باسم الناقد الدكتور صلاح فضل؛ وقد كان فى ذلك الوقت فى أوج شهرته وذروة انتشاره فى الحركة النقدية والثقافية فى مصر والعالم العربى.


ثم وفى عام 2018 صدر كتابه «عين النقد» عن دار الشروق (وصدر فى طبعة تالية عن دار بتانة) يضم فصولا ومقالات غلب عليها طابع استدعاء الذكريات مع موضوعات أخرى تتصل بالنقد وهمومه، وتتداخل بعض موضوعاته مع الكتاب الأول، ثم جاء كتابه الثالث فى دائرة الموضوعات ذاتها بعنوان «صدى الذاكرة» (الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى 2021).

وليكمل هذه الثلاثية السيرية النقدية الزاخرة؛ أو كما أطلق عليها صاحبها اسم «مقاطع من سيرة فكرية» والتى تمثل من وجهة نظرى (وبغض النظر عن أنها كانت فى أصلها الأول مقالات منشورة فى دوريات وصحف سيارة) لونًا من الكتابة النقدية «السِّيرية» التى يختلط فيها البوح الذاتى بالتأمل الموضوعى.

والتنظير النقدى بالتطبيق النصى، و«نقد النقد» بالمعنى العام بفحص خطابات نقدية ذات طبيعة خاصة، وكل ذلك متداخلا مع التأريخ والتوثيق الذى يراوح بين الخاص والعام.


وعبر هذه الثلاثية، وما تخللتها من فصول ومقالات، نستطيع أن نمايز بين أربع دوائر تكوينية «مفصلية» فى مسيرة صلاح فضل العلمية والنقدية؛ الأولى هى «المرحلة التراثية» التى أتيح له فيها الاتصال بمصادر التكوين اللغوى والتراثى فى روافدها المعروفة؛ المعاهد الأزهرية ثم بالالتحاق بكلية دار العلوم التى تخرج فيها عام 1962، وأظن أن هذه المرحلة هى التى شكلت السمات الجوهرية فى خطاب صلاح فضل الشفاهى وقدراته الارتجالية التى تميز بها، وتدفقه التعبيرى وسيولته الأسلوبية.


والمرحلة الثانية هى مرحلة البعثة التى أتيح له أن يلتحق بها لاستكمال دراسته العليا فى إسبانيا، وقد امتدت هذه المرحلة وتوابعها طيلة النصف الثانى من الستينيات، والسنوات الأولى من السبعينيات.

وفى هذه المرحلة أتيح لصلاح فضل تأسيس علمى «منهجى» مغاير، لم يقتصر فيه على درس الأدب الأندلسى والأدب المقارن وهو التخصص الدقيق الذى نال فيه درجة الدكتوراة، بل استغل إجادته للغة أجنبية ثانية «الإسبانية» لينفتح على آفاق الاتجاهات والتيارات والمناهج النقدية الحديثة.

ويعمق معرفته بها ويتغذى من مصادرها الأصلية، مما أتاح له عقب عودته إلى مصر أن ينخرط فى الحركة النقدية آنذاك ويسهم فى تأسيس مجلة فصول مع طليعة النقاد الذين سيقودون التبشير بنقد الحداثة وما بعدها (مع جابر عصفور، وسيزا قاسم، ونبيلة إبراهيم، وهدى وصفى، وآخرين فى الشام والمغرب العربى)، يقول صلاح فضل:
«جاءت مشاركتى فى تأسيس مجلة «فصول» للنقد الأدبى مطلع الثمانينيات مع الصديقين، المرحوم عز الدين إسماعيل، والعزيز جابر عصفور، لتقدم لى فرصة ذهبية، أنشأت فيها بابًا بعنوان (تجربة نقدية) خصصته للمطارحات التطبيقية».

وسيكون من نواتج هذه المرحلة المحطةُ الثالثة فى تكوينات صلاح فضل، وهى التى أطلق عليها «الانخراط فى التنظير»، وفيها سينخرط صلاح فضل بحماس منقطع النظير فى عرض وتقديم المناهج النقدية «الحداثية» فى مؤلفات وكتابات عربية تقدم النظرية وأسسها المنهجية فى سياقاتها المعرفية والفلسفية التى أنتجت فيها.


واستهل فضل هذا النشاط بكتابه «نظرية البنائية فى النقد الأدبي» عام 1978 وهو من أوائل الكتب العربية (إن لم يكن أولها) التى عرضت للبنيوية فى النقد الأدبى، وقدمت أفكارها وإجراءاتها التحليلية، ونماذجها التطبيقية الشهيرة فى النقد والعلوم الإنسانية.

وقبل صدور هذا الكتاب بأشهر معدودة كان صلاح فضل قد أخرج كتابه «منهج الواقعية فى الإبداع الأدبي» ليكون بدوره من الكتب النظرية الشارحة لتنويعات النقد «الواقعي» من الاجتماعية الوضعية، مرورا بالواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية.

وعرض أسس نظرية «الانعكاس» فى منشأها الأوروبى، وتجلياتها فى النقد العربي. ثم توالت كتبه النظرية العميقة التى قدم فيها عددا من أبرز الاتجاهات الحداثية فى النقد الأدبي؛ ومنها:
«علم الأسلوب، مبادئه وإجراءاته»، و«إنتاج الدلالة الأدبية»، و«شفرات النص،بحوث سيميولوجية»، و«أساليب السرد فى الرواية العربية».

و«بلاغة الخطاب وعلم النص»، و«أساليب الشعرية المعاصرة»،و«قراءة الصورة وصور القراءة»، وأخيرا «مناهج النقد المعاصر» الذى مثل خلاصة وعصارة مركزة للجهد النظرى السابق، ومثل هذا الكتاب تحديدا واحدا من أهم المداخل النظرية لمناهج النقد المعاصر تتوخى الشرح وعرض الأفكار وتحيل إلى عدد من القراءات لمن أراد التوسع والتفصيل.


وهكذا يمكن القول إن هذه المرحلة التى امتدت من أواخر سبعينيات القرن الماضى وحتى نهاية القرن العشرين، قد استوعبت النشاط النظرى والجهد التنظيرى الوافر لصلاح فضل، مقرونة بدراسات تطبيقية وتجارب نقدية حاولت أن تطبق هذه الاتجاهات والمناهج على النصوص الشعرية والسردية معا.


ثم تأتى المرحلة الرابعة والأخيرة التى أسميها «الانخراط فى القراءة»، وهى التى تشمل إنتاج الدكتور فضل من المتابعات النصية والقراءات النقدية لطيفٍ واسع من النصوص الروائية والقصصية والشعرية، وهى المرحلة التى بدأت مع نشر مقاله الدورى فى (الأهرام) مع السنوات الأولى من الألفية الثالثة، وقد جمع الدكتور فضل كمًّا هائلا من هذه المقالات والقراءات فى ما يقرب من الكتب العشرة.


من الصعب فى هذا الحيز المحدود إحصاء الجوانب المتعددة والمتنوعة والمتداخلة لموسوعةٍ ثقافية ونقدية تجسدت فى شخص صلاح فضل، والذى كان واعيا تماما بضرورة استجلاء هذه التجربة الخصبة الثرية على كل المستويات.

وإعادة قراءتها وكتابتها معا فيما سيطلق عليه «مقاطع من سيرة فكرية» توزعت على هذه الكتب الثلاثة؛ «تكوينات نقدية»، و«عين النقد»، و«صدى الذاكرة». 


وأخيرًا، ومهما كان حجم الاختلاف مع الدكتور صلاح فضل فى بعض الآراء أو المواقف أو الانحيازات الفكرية والثقافية أو حتى الاختلاف على شخصه هو، فلا أظن أن أحدًا سيختلف على قيمة الجهد النظرى والتطبيقى الذى قدمه -رحمه الله- على مدار ما يقرب من نصف القرن، ويضعه فى صدارة الصف الأول من نقاد الأدب فى تاريخنا الأدبى والنقدى المعاصر.

اقرأ أيضًا | جامعة القاهرة تنعي صلاح فضل رئيس مجمع اللغة العربية

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة