صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


د. رضا عطية يكتب: فاتح طريق الحداثة النقدية

أخبار الأدب

السبت، 17 ديسمبر 2022 - 03:57 م

صلاح فضل مضى، والأحباب
ذهبوا، ورجعنا يتامى 
هذا ما قلته لأحمد عبد المعطى حجازى عند لقائى به بعد سويعات قليلة من توديع أبى الثانى وأستاذى الحبيب، شيخ النقاد العرب، الأستاذ الدكتور صلاح فضل، رئيس مجمع اللغة العربية، إلى مقامه الأخير. روادتنى هذه الكلمات على مثال ما كتبه حجازى فى قصيدته الشهيرة «مرثية للعمر الجميل»: «زمن الغزوات مضى، والرفاق/ ذهبوا، ورجعنا يتامى»، ولا أعرف أيضا لماذا حضرتنى كلمات حجازى وأنا على باب قبر أستاذنا الجليل:هذه آخر الأرض لم يبق إلا الفراق هذا الفراق الأليم الذى بطعم اليتم حقا، وجع لا يحتمل وجرح كيف يندمل؟!


ولكن لماذا روادنى هذا الإحساس باليتم لفقدان، هرم مصر النقدى صلاح فضل، طبعًا لا أخفى بعدًا إنسانيًّا فى هذا الشعور لمرافقتى الأستاذ وتشريفه لى بصحبته طيلة خمسة عشر عامًا، لكن يبقى شعور آخر باليتم يخص الأدب العربى والنقد الأدبى، لفقدانهما «كبيره»، الأستاذ صاحب الإسهام الأكبر بالفعل فى تحديث النقد الأدبى العربى.

على مدار النصف قرن الأخيرة تقريبًا، وهو بحق الشريك الأكبر فى تأسيس الحداثة النقدية العربية، والانتقال بالنقد الأدبى العربى إلى طور الحداثة المنهجية بالتحول به أكثر ليكون علمًا له ضوابط منهجية وإجراءات بحثية وآليات دراسية تتعامل مع النصوص الجمالية وفق منظومة نسقية من القواعد المنهجية، مع وجود حيز لشخصية الناقد وذائقته ودور لوعيه النقدى فى قراءة النصوص واختياراته لمداخل دراستها وطرائق فحصها.


ويتجاوز صلاح فضل كونه ناقدًا كبيرًا صاحب منجز فارق فى سفر النقد الأدبى العربى أو كونه ناقدًا استثنائيًّا فى عطاءاته النقدية وإسهاماته الفكرية إلى ما يمكن اعتباره او وصفه بأنَّه «فاتح طريق» و«مرشد» و«قائد مسيرة» وهادٍ إلى طريق الحداثة النقدية فى الفكر العربى بما قدَّمه على مدى ما يناهز نصف قرن من الزمان منذ سبعينيات القرن العشرين حتى رحيله. 


عوامل كثيرة أسهمت فى تشكيل شخصية صلاح فضل بفرادتها واستثنائيتها، حيث نشأته فى أسرة ريفية متدينة وإلحاقه بالتعليم الدينى فى الكتاب والمدرسة الأزهرية حتى المرحلة الثانوية وحفظه القرآن الكريم ما أفاده فى حسن تأسيسه لغويًّا من حيث تمكنه من قواعد اللغة وتشربه بلاغاتها عبر النص القرآنى، بالطبع لم يكن هذا ليتم بدون موهبة فريدة.

كذلك كان للمواقف الطريفة والأقدار إسهام فى تشكيل وعيه، حيث فضل فى دراسته الثانوية مرافقًا فى المسكن لعمه طالب الحقوق، الذى كان «يسمع» له مقررات الحقوق والقوانين، فكان دائمًا يردد بأنَّ هذه الفرصة قد منحته ليسانس حقوق ودراسة القانون بالمجان، ما أسهم فى إثراء الحس التنظيمى وإنماء جهازه المعرفى منطقيًّا.

ثم كانت دراسته فى كلية دار العلوم فى أواخر خمسينيات القرن العشرين وأوائل ستينياته وتعيينه معيدًا فيها فاتحة لآفاق جديدة أمامه، حيث عاين فضل مع دراسته ألوان الأدب المتنوعة جدلاً قويًّا، وصراعًا مشتدًا بين تيارى الحداثة والمحافظة فى الكلية فى صفوف أساتذتها وطلابها.


وتتبدى أهمية هذه المرحلة الجامعية وما قبلها فى تشكيل شخصية صلاح فضل المتزنة والمتعمقة والمختبرة الخيارات والمجرِّبة البدائل المتعددة، فيقول عنها:
فى هذه المرحلة الجامعية، وحتى من قبلها، كنت قد اختبرت بقسوة إمكاناتى الإبداعية فى الشعر والقصة، فلم أرض عنها، مارستُ نقد الذات بحدة، ونما لدى وعى نقدى جارف ينشب أظافره فى كل نواحى الحياة: فى السياسة والاجتماع والأدب والإبداع.

قرأت مكتبة الإخوان المسلمين كلها، ثم شُفيتُ بسرعة من حُمَّى الافتتان بها، اطلَّعت على الأدبيات الماركسية فى مصادرها المتاحة؛ فشعرت بأنِّى مُطعَّم ومُحصَّن ضدَّ الوقوع فى لوثتها، أرجعت ذلك إلى الجرعة الدينية التى تشبَّعت بها فى الصبا.


يبدو اقتدار صلاح فضل منذ حداثته العمرية على اختبار التيارات الأيديولوجية عبر مصفاة الوعى فلم ينجرف نحو التشدُّد اليمينى أو المبالغة اليسارية بين الإخوان المسلمين أو الماركسيين، ما منحه تحصينًا من الإصابة بأى منها.

وأذكر أن أستاذى الدكتور فضل فى عام حكم الإخوان الأسود لمصر كان دائمًا ما يردد لى لابد أن مصر تختبر حكم الإخوان ثم تلفظهم مثل الطفل الذى يصاب بالحصبة حتى تكون إصابته بالحصبة تحصينًا له من الإصابة بها ثانية، مثلما جعلتنى قراءتى لكتب الإخوان المسلمين فى طفولتى وصباى أتحصَّن فيما بعد من الوقوع تحت سطوة أيديولوجيتهم المتطرِّفة.


ويبدو أنَّ ممارسة صلاح فضل للقصة والشعر فى صباه وحداثته العمرية قد أفادته وبخاصة الشعر فى كتابته النقدية فجاءت لغته النقدية محمَّلة برحيق الشعر، لغة أنيقة ومعبِّرة عن مقولات الاختبار النقدى بما يكافئها استعاريًّا من مجازات اللغة واستعاراتها.

فقد كان فضل شديد الإيمان والحرص على أن تكون للنقد لغته الجميلة وشعريته التعبيرية ما يجعله ندًا للإبداع فى جمالياته وأداءاته الشعرية، ليكون النقد ليس إبداعًا موازيًّا فحسب وإنَّما هو إبداع جديد على نص إبداعى. 


ثم كانت سفرته إلى العاصمة الإسبانية مدريد بمثابة نقلة نوعية كبيرة فى تشكيل فكره وتوطيد صلاته بأفكار الحداثة العالمية فى أحدث أطروحاتها الفكرية وتشكلاتها الثقافية وتياراتها النقدية، فقد كان صاحب مقولة كانت بمثابة قناعة راسخة لديه بأنَّه على الناقد لكى يحقق إنجازًا ذا قيمة أن يتعمَّد بماء الثقافة الغربية.

وأن يطلع على أحدث تطورات الفكر الإنسانى والنقدى العالمى، دونما تخل عن جذور المكونات الثقافية العربية فيقول فضل عن هذا التشكيل المدهش لوعيه الثقافي:
شربت كأس الثقافة الإسبانية طيلة سبع سنوات، وهى فترة البعثة، حتى ثُمالَتِها، بيدَ أنَّها لم تكن صافية فى أى لحظة، كانت دائمًا تمتزج بما ترسَّب فى وعيى بقوة من تكوينى العربى الصُّلب.
كان انفتاح صلاح فضل على الثقافة الغربية انفتاحًا واعيًّا بشخصية تحافظ على أصالتها الهوياتية.

وتعتز بكبريائها وتحفظ وطنيتها بقدر ما ترفد من الآخر أحدث أساليب التفكير الإنسانى، فيتجلى ذلك فى موقف دال أنَّه حين كان فضل قد شرع فى ترجمة كتاب للكاتب الأرجنتينى بورخيس عنوانه الألِف، الذى هو أول حروف الكتابة العربية.

فيما قيل إنَّه تأثرًا بانفتاح بورخيس على الثقافة العربية وقرائته لكتاب ألف ليلة- قد قرأ خبرًا فى الصحف الإسبانية بتوجُّه بورخيس إلى السفارة الإسرائيلية فى بوينس آيرس، عاصمة بلاده، لتقديم التهنئة بانتصار الصهاينة على العرب البرابرة، حتى قام بتمزيق مخطوط ترجمته لكتاب بورخيس، غير عابئ بما أنفقه من وقت وجهد فيما قطعه من أشواط فى ترجمته... وطنى عزيز النفس وملء قامته شموخ وكبرياء. عظيم الكرامة ودماء وريده عزة وإباء.


وبمناسبة الترجمة فإنَّ لصلاح فضل دورًا مهمًا وجهدًا نوعيًّا فارقًا فى الترجمة، ففى ترجماته من الإسبانية قدَّم لنا نصوصًا مهمة وبديعة لعدد من أعلام المسرح الإسبانى من مراحل تاريخية مرواحة بين كلاسيكياته الأولى كما فى ترجمته لـ«لوبى دى بيجا».

وأيقونة حداثته المتمثلة فى ترجماته لأربعة نصوص لبايخو منها: حلم العقل والقصة المزدوجة للدكتور بالمى التى استلهمها المسرحى السورى سعد الله ونوس فى مسرحيته، الاغتصاب، كما كانت دراساته عن المسرح الإسبانى بالغة الأهمية فى تعريفنا به وبظواهره التعبيرية.


كان صلاح فضل صاحب رؤية وفلسفة فى النقد قد طرحها فى العديد من كتاباته، التى ضمها كتابيه: عين النقد، وصدى الذاكرة، وكانت وصيته الأخيرة لى بتقديم سيرته النقدية هذه، وطرحها فى مجلَّد واحد، وأذكر حين أصابه المرض اللعين فى 2017 كان قد أراد أن يقدِّم شهادة عن النقد تُضاف بعد ذلك إلى طبعة جديدة من كتاب عين النقد، فعنوَّن هذه الشهادة بـ«عشق التميُّز».

فيما يكشف عن رؤاه لدور الناقد ودوافعه للممارسة النقدية، باعتبار النقد- بحسب تعبيره- هو «رسالة حياة»، ويرى النقد عشقًا للتميُّز، وجلاء لجماليات الإبداع وكاشفًا لأسراره، ويرى أنَّه من أدوار الناقد الممايزة بين أقدار المبدعين، للناقد أن يستعمل «أفضل» التفضيل.

التى يظن كثيرون أنَّها مجافية لروح العلم، ليقول إنَّ هذا هو العمل الأجمل فى نوعه أو هذا المبدع هو الأقدر والأعلى بين أقرانه، فالنقد معرفة إنسانية أخرى تجمع بين الموضوعية الممثلة فى كونه علمًا له نظرياته ومناهجه التى لها أدوات خاصة بالبحث الأكاديمى، والذاتية، نعم الذاتية التى لا تعنى أهواء الناقد العاطفية وإنَّما حدسه المدرَّب وذائقته الفَطِنة وقدرته على أن يزن قيمة النصوص الإبداعية بميزان حساس وأن يعرف أقدار مبدعيها.


كان الراحل العظيم صلاح فضل متقد العطاء، شديد التوهج فى أطروحاته النقدية حتى فى سنوات عمره العشرة الأخيرة، نجده قد أخرج عددًا كبيرًا من المقالات فى نقد الرواية المصرية والعربية فناهز عدد النصوص الروائية التى كتب عنها المائتين وخمسين رواية استوعبها عدد من الكتب مثل أحفاد نجيب محفوظ وسرديات القرن الجديد وأنساق التخييل الروائى وغيرها.

غير أنَّ طرحه الفارق والمهم الذى صدر فى مطلع العام 2020 كان كتابه شعر العامية «من السوق إلى المتحف»، فيقتحم صلاح فضل مسلحًا برؤية المفكر أوكار السلفية الفكرية متناولاً القضايا الشائكة التى آثر غيره السلامة بالنأى عن الخوض فيها، ليفتح أبواب الجدل الفكرى بخصوص الصراع الدائر حول ثنائية الفصحى والعامية.


يتجلى لنا، بقوة، قيمة صلاح فضل وعظمة مشروعه النقدى، فيما قدَّمه من نقلات نوعية على مستوى الأطروحات التنظيرية فى علوم النقد الأدبى برفد النقد العربى بأحدث المناهج النقدية العالمية، وعلى مستوى القرائات التطبيقية لنصوص الإبداع الأدبى ما بين كلاسيكياته ونصوصه الطليعية.

وكذلك النصوص التى كان ينظر إليها المحافظون باعتبارها آدابًا دنيا كشعر العامية، كما راوح فى دراساته النقدية بين أجناس الإبداع المختلفة: رواية وشعرًا وقصة ومسرحًا وكذلك كانت له قراءات يسيرة لبعض الأعمال الدرامية المحوَّلة عن نص أدبى.

وكان كثيرًا ما يشدِّد على تبنى تعبير آرثر ميللر الذى هو عنوان أحد نصوصه «كلهم أبنائي»، بتصوُّر أنَّ الناقد الذى يريد أن يكون له شأن بارز فى تاريخ النقد عليه أن يراوح بين أجناس الإبداع المختلفة.

وللأنَّه كان مؤمنًا أيضًا برفد الأنواع الإبداعية بعضها للآخر فى تفاعل أجناسى. يبقى أثر صلاح فضل عظيمًا فى تاريخ الفكر النقدى العربى وتبقى عطاءاته ثروة معرفية وكنوزًا تنهل منها الأجيال المتعاقبة.

اقرأ ايضًا | إيهاب الملاح يكتب: تكوينات صلاح فضل النقدية

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة