محمد عنانى
محمد عنانى


فاطمة ناعوت تكتب: محمد عنانى.. العصىُّ على الرحيل

أخبار الأدب

الأحد، 15 يناير 2023 - 05:58 م

مازلتُ أذكرُ خفقَ قلبى المتسارع بعنف وأنا بعدُ فى بداية مشوارى الأدبى فى أوائل الألفية الراهنة، جالسةً فى مكتب الأستاذ بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية جامعة القاهرة، أنتظرُ لقاءه، بوجلٍ، وشغفٍ، وترقّب، وقلق، وحبّ، وفرح. مجموعة من الصراعات النفسية المتنافرة لا تجتمعُ فى قلب إنسانٍ، إلا قُبيل لحظات «مواجهة العظماء». 


كنتُ قد هاتفتُه فى اليوم السابق، وطلبت لقاءه، راجيةً أن يكتب لى تصديرًا لأحد كتبى الذى يضمُّ ترجمةً للعربية، لإبداع قامة إنجليزية شاهقة. ولم أذكر له اسمَ المؤلفة التى ترجمتُ أدبَها خوفًا من سخريته أو رفضه المُسبق.

وحين سألنى فى الهاتف عن اسم الأديب العالمى الذى تصدّيتُ لترجمته،  ارتبكتُ وراوغتُ، ثم طلبتُ منه على استحياء أن يتفضّل باستلام المخطوطة أولا. وكنتُ قد أعددتُ كلامًا كثيرًا حتى أقنعه بالموافقة على تصدير كتابٍ لكاتبة فى بداية مشوارها الأدبى.

هى أنا، لم تصنع اسمَها بعدُ وقتذاك. والأخطر أننى قادمةٌ من عالم بعيد كلّ البعد عن عالم الآداب والفنون والترجمة الأدبية العسرة. فماذا تفعلُ خريجةُ كلية الهندسة فى دنيا ترجمة الآداب المعقّدة؟! خصوصًا حين تتصدّى تلك المهندسة لإبداع روائيةٍ شاهقةِ القامة، «مخيفة وصعبة» مثل «فرجينيا وولف»، التى تُعدُّ أحد أهرامات الأدب العالمىّ.

رغم أن القدرَ قد ضربَها بمَسٍّ من الفصام الذُّهانى ثنائى القطب Bi-Polar Disorder جعل إبداعَها الساحرَ يقفُ على الحافة الحرجة بين الإبداع و الجنون! وربما هذا سرُّ صعوبة إبداعها الأدبى، وسرُّ جماله.

وهالنى أننى لم أحتج إلى ما أعددتُ من كلام كثير وحُجج لكى يوافقَ الأستاذُ  على مقابلتى، بل ضربَ لى مباشرةً موعدًا فى اليوم التالى بمكتبه بجامعة القاهرة. وكانت لحظةً مربكةً فى حياتى تجاورُ الفرحَ والشغفَ  برؤية رجل عظيم، مع القلق والترقّب تحسّبًا لرفضه وخُذلانى.

ودخل الأستاذُ فى كامل بهائه وجماله وسطوته وتحضّره وسموّه وبساطته ورأفته وحُنوّه، عطفًا إلى ذكائه الحادّ الذى جعله يقرأ فورًا، على صفحتى عينيّ، كلَّ ما بداخلى من صراعات. استقبلنى أ.د. محمد عنانى بمحبة وودٍّ كأنما يعرفنى منذ دهور! ورحبّ بى باحترام وتوقير كأن لى باعًا فى دنيا الأدب! ووافق على تقديم كتابى، مُسبقًا حتى قبل أن يعرف لمَن ترجمتُ، كأنما أبٌ رحيم يُهدى ابنتَه قطعة من الألماس من خزائن مِداده وحروفه.

وسألنى بابتسامته الطيبة الشهيرة: (ها، ترجمتِ لمين يا حبّوبة؟) وحين سمع من بين حديثى المتلعثم كلمتي: «فرجينيا وولف»، ضحك قائلا: (ايه بس اللى وداكى فى سكّتها؟ دى حارة سدّ! )  أجبتُه بعفوية وخجل: (أحببتُها، وعشتُ أوجاعَها!)، ثم بترتُ كلامى، لأننى فجأةً كنتُ قد تأكدتُ من رفضه، وغشانى الحَزَنُ.

وغرقتُ فى لحظة انفصال وغياب، أتدثّرُ فى خجلى وخذلانى، وأتمنى لو أختفى من أمامه، ورحتُ أفكّر فى طريقة للهروب الآمن من لحظة صعبة. حتى أفقتُ من غيابى على صوته يقول: (على فكرة، أنا قرأتُ منذ عامين كتابَك الأول عن وولف: «جيوب مُثقلة بالحجارة».

وأعجبني. وقرأت ما كتبه  د. ماهر شفيق فريد فى مقدمة الكتاب، وهى شهادةٌ طيبة لك، من مترجم كبير. فدعينى أقرأ مخطوطة كتابك الجديد، ونشوف.)  عادت الابتسامةُ إلى وجهى والاطمئنان إلى قلبي، ورحتُ فى سِرّى أشكرُ وأدعو بالخير للدكتور «ماهر شفيق فريد»، أحد أكبر رموز فنّ  الترجمة، وصديق الأستاذ  ومصدر ثقته.

وللأنه كتب لى مقدمة بديعة لكتابى الأول عن «فرجينيا وولف»، تلك التى كانت بوابتى لعبور باحة د. «محمد عنانى»الوعرة. بعد أسبوعين، مرَّا عليّ كما الدهر، هاتفنى الأستاذُ يدعونى إلى مكتبه من جديد.

وقدّم لى عدة ورقات فلوسكاب، تحملُ مقدمةً رفيعةً لكتابى الجديد بخط يده الجميل، أشادَ فيها بدقّة ترجمتى وبراعتى فى القبض على مفاتيح أسلوبية «ڤرچينيا وولف». وصدر الكتاب عن (المركز القومى للترجمة) عام ٢٠٠٩.

ومازال يُطبَعُ فى طبعات عديدة كل عام، مُتوَّجًا بمقدمة د. «عنانى» الجميلة، التى أعتبرها تاجًا فوق هامتى أزهو به ما حييت، وسوف يصدر قريبًا عن دار «هنداوى» فى طبعة جديدة، كنتُ أُمنّى النفسَ بأن أهدى الأستاذَ أولَ نسخة منه.

لكن القدرَ قد سبق للأسف باختلاسه منّا إلى فردوس الخلود! ومازلتُ أحتفظُ بتلك الورقات بخط يده الأنيق فى خزانة كنوزى الأثيرة، كأغلى ما أمتلكُ من ثروات. 

كانت مقدمةً أنيقةً رفيعة الطراز، كجميع ما خطَّ الأستاذُ بقلمه. مقدمة أتيهُ بها فرحًا وخُيلاءَ؛ كأنما هى وثيقةُ حيثيات فوزى بجائزة نوبل للآداب. إضافةً إلى كون تلك المقدمة بمثابة درسٍ عميق فى فن الترجمة الأدبية، يضمُّ عصارةَ نهجه القيّم فى كتابه العمدة «فن الترجمة».


أذهلنى تواضعُه حين كتب: (كنتُ أنتوى كتابةَ كلمةٍ موجزةٍ عن «فرجينيا وولف» ... ولكننى عندما قرأتُ مقدّمةَ «فاطمة ناعوت» هنا بهذا الكتاب، التى تنثر فيها مفاتيحَ قراءة «وولف» التى أسمتها المترجمةُ: «الفَرَسُ الحرون»، وجدتُ أنها تفى بالغرض. وهكذا اكتفيتُ بالمراجعة اللغوية.

نجحت «ناعوت» فى تَمَثُّل أبنيةِ «فرجينيا وولف» واستيعابها قبل نقلِها إلى العربية، بلونٍ من المحاكاة يقتربُ من «الإبداع الجديد»، فهو مكتوبٌ بلغةٍ جديدة، وهو ترجمةٌ، «والترجمةُ فى معناها الاشتقاقيّ: نقلٌ للمكان»، فهى تنقلنا من مكانٍِ إلى مكان.

وها هى  «فاطمة ناعوت» تعيدُ بناءَ المواقف الشعورية فى القِصص الأصلية بالبريطانية إلى لغة الضاد، مُتيحةً للقارئ العربيّ فرصةَ الاطلاع على فنِّ «فرجينيا»، ولو اختلفتِ اللغةُ.... لقد نجحت «ناعوت» فيما تصدَّتْ إليه هنا فى هذه المجموعة: «أثرٌ على الحائط»، مثلما قدمّت لنا قبل سنواتٍ كتابًا آخر لـ«فرجينيا وولف» ذاتِها، عنوانُه: «جيوبٌ مُثْقَلةٌ بالحجارة».

ونرجو أن تتبعه بآثارٍ أدبية أخرى تُثرى بها المكتبةَ العربية.) تصوّروا أن يتزيّن صدرُ أحد كتبى بتلك الزهور الأدبية الملوّنة التى منحها لى الأستاذ، عميد المترجمين العرب، الأستاذ الدكتور «محمد عنانى»، الذى غادر عالمنا قبل أيام، ليترك فراغًا أدبيًّا هائلاً، من العسير جدًّا ملئه. لكن تراثه القيّم الخالد الذى أورثنا إياه، يؤكد أن المبدعين لا يرحلون، لأن آثارهم الإبداعية تُكرّس حضورَهم العصىّ على الرحيل. 


أثرى الدكتور «محمد عنانى» ذاكرةَ الأمّة العربية الناطقة بلغة الضاد، وأغنى مكتبتَها بما يُقارب المائة وخمسين كتابًا من أمّهات الأدب الإنجليزى وعيونها لأساطين الأدب مثل وليم شكسبير، جون ملتون، هارولد بنتر، وغيرهم، بالإضافة إلى فرائد من الكتب فى تعليم فنون الترجمة الأدبية.

وعشرات من إبداعه الخاص فى فن المسرح، عطفًا على موسوعة «المصطلحات الأدبية الحديثة»، كما نقل إلى الإنجليزية عيونًا من تراثنا العربى القيم الفكرى والشعرى والقصصى والمسرحيات لكل من: «صلاح جاهين، عز الدين إسماعيل، صلاح عبد الصبور، فاروق شوشة، فاروق جويدة، مى رجب،  د. مصطفى محمود، وغيرهم.

وأننى دائمًا ما أقفُ مشدوهةً أمام ترجماته لمسرحيات «هارولد بنتر» بالذات؛ تلك التى يحارُ المرءُ كيف كُتبَت أصلا فى لغتها الأم بالإنجليزية، فضلاً عن كيف بوسعها أن تُترجم إلى لغةٍ أخرى خصوصًا  إلى لغتنا العربية الصعبة، حيث يقف الحوارُ بين الشخوص على الخيط الحرج بين الغرابة والتهديد واللامعقول والفانتازيا والارتجال والعبثية والغموض! 


ثمّة أسطورةٌ فكرية وأدبية ولغوية كانت تعيش بيننا  اسمها د. «محمد عنانى»، قبّلتُ جبيَن ابنته قبل أعوام على خشبة المسرح القومى ، وأقبّل اليومَ يدَه الراحلةَ عبر هذا المقال المرثاة.

وإن كان هناك ما أندم عليه فى حياتى، فهو أننى لم أتتلمذ على يد هذا الرجل العظيم فى الجامعة، فطوبى لمن حصدوا هذا المجد ونالوا ذاك الشرف. 


حين شاهدتُ ابنته على خشبة «المسرح القومى» العريق قبل أعوام، تُلقى كلمة أبيها فى اليوم العالمى للمسرح، شعرتُ بهول اللحظة. كان يعيشُ بيننا رجلٌ عظيم ساهم فى تغيير وجه المكتبة العربية وإعادة رسم ملامحها بقلم رفيع وفكر رفيع ورؤية باذخة وإبداع عزّ نظيرُه.

وحين خرجنا من قاعة العرض بعد انتهاء مسرحية «ميراث الريح» فى ثوبها العربى البهىّ: «المحاكمة»، أسرعتُ نحو تلك الابنة التى أكرمها الزمانُ بأبوّة هذا الرجل الاستثنائي، ثم عانقتُها وقبّلتُ جبينَها، فكأنما بهذا كنتُ أُقبِّل جزءًا أثيرًا من الرجل الذى أدينُ له بالكثير، مثلما تدين له مصرُ والناطقون بالعربية، بالشىء الكثير.


رحم اللهُ الأستاذ الغالى عظيم الترجمة والأدب العربى الدكتور «محمد عنانى»، وأحسنَ مُقامه فى علّيين لقاء ما قدّم لمصر وللمكتبة العربية من كنوزٍ خوالدَ، وألهمنا وذويه الصبرَ والاحتساب. 

اقرأ ايضاً | ماهر البطوطي يكتب: الموسوعي.. عميد المترجمين العرب

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة