وائل عشرى
وائل عشرى


وائل عشري يكتب: عُشّاق وحمقى

أخبار الأدب

السبت، 21 يناير 2023 - 01:19 م

جادة روميو لاتور هادئة الآن لأنه صباح يوم أحد، يمشي كريس ويحاول أن يحدد ما الذي يريده أكثر: الاستمتاع بالتمشِّى فى صباح مبكر رائق مثل هذا، أم الذهاب إلى بارِهِ المعتاد كى يأخذ رشفة اليوم الأولى من الويسكى. إنه رجل ذو رغبات عديدة، متعارضة. يعرف هذا عن نفسه، ويتقبَّله.


يمرُّ بسجن الولاية الشرقية؛ «كيف تمضى الحياة كالمعتاد بجوار مبنى كهذا!» يربكه الأمر دائمًا. لا يعرف كيف ينبغى أن يكون الحال. «وهل أنت شُرطيُّ الحياة تحدِّد لها كيف عليها أن تحدث؟» يعنِّف نفسه، «هل على الحياة أن تتوقف لأنها تحدث، لأن عليها ألَّا تحدث، بجوار سجن الولاية الشرقية حيث أُهدرت حيوات كثيرة؟»


يخمِّن أنه فى وقتٍ ما من ماضى المدينة لم تكن هناك حياة بشرية هنا. كان ذلك السجن الضخم، بأسواره الوحشية العالية، وأبراجه الأكثر وحشيةً وعلوًا، خارج المدينة تمامًا. هى المدينة ما امتدَّت ووصلت إليه. هذا أيضًا يحدث. لا تتوقف الحياة من أجل شىء. الحياة والموت. تتمدد الحياة دائمًا إلى أن تبلغ حدًّا لا يمكن تجاوزه.

وتقف أمامه حائرة، تستكين على تخومه، تسترق النظر إليه من بعيد، خوفًا أو رهبة. خوفًا أم رهبة؟ «أفكارك، أيها العجوز،» يقول كريس لنفسه، «ليست سوى خراء ثيران.» هذا الحدُّ، إن تجاهلنا خراء الثيران، لم يكن الموت قَطُّ. ليس الموت أبدًا.

وتتمدد الحياة ويتمدد الموت معها، دائمًا معًا، إلى أن يبلغا ذلك الذى لا يمكن تجاوزه. وبما أنه لم يكن هناك شيء مثل هذا يفصل المدينة عن السجن فى الأيام الخالية، فقد بلغته، احتوته، ومضت قُدمًا فى طريقها إلى ما وراءه.


قد يقول شخصٌ أكثر تفاؤلًا منه إن الحياة حاصرت السجن، إنها ابتلعته، «لست أكثر تفاؤلًا من نفسي!» يفكر، وفى تلك الأثناء، بينما تمتد المدينة، وتتسع، أو ربما بعدها، أُغلق السجن، ثم مرت بضع سنين فصار متحفًا لأسباب غامضة بالنسبة له. لا بُدَّ أن الأسباب متاحة فى مكان ما، ويمكن معرفتها بسهولة، لكنه لا يريد أن يعرفها.


متحف لأى شيء رغم هذا! للحبس؟ لوضع الحياة والموت فى صندوق صغير وإغلاقه عليهما؟
يأتى سكان المدينة إلى السجن الذى صار متحفًا. يتجوَّلون فى أرجائه. يلتقطون صورًا يبتسمون فيها. وفى النهاية، يشترون تذكارات. والسُّيَّاح كذلك! السياحة الداخلية الرائعة! يأتون من البلدات الصغيرة بلكناتهم الصغيرة. ينتهون من الزيارة، ثم يجلسون، بصخبهم وهياج سعادتهم، فى المقاهى والمطاعم والبارات.

ويشعرون أنهم أتموا ما على سائح أن يفعله فى هذه المدينة، وأن ذلك كان أمرًا رائعًا. وهم مغرمون فوق كل هذا بتلك التذكارات اللعينة. جزء جوهرى من التجربة. قلبها. معدتها. لكن لأى شيء حقًّا؟ كى تذكِّرهم بماذا؟ بالوقت السعيد الذى قضوه ذات ظهيرة أو أصيل؟ صور ممغنطة يضعونها على أبواب ثلاجاتهم كى يراها الضيوف وتسنح فرصة لبعض الكلام الصغير. بطاقات بريدية يرسلونها من هذه المدينة إلى شخص ما بعيد. حبيب قديم؟

«أكتب إليكِ من مقهى يواجه سجن الولاية الشرقية؛ اسمه لقطات جنائية! أليس الاسم مناسبًا جدًّا؟ أليس عبقريًّا صغيرًا مَن اختاره؟ لسبب ما، تذكَّرتُ قبلاتنا اليوم. مذاق فمكِ! أفتقدكِ بشدة، بألم. هل تتذكريننى أحيانًا؟ هل أظهر فى أحلامكِ؟»

وفى البداية، كان فقراء يسكنون هنا. لهذا، لم يكن أحد يهتم بالمكان، وكان ذلك على ما يرام. ثم أتى الأشخاص المهذِّبون – أى، كما دائمًا، الشباب والشابات البيض الحالمون بالمدن الكبيرة. «ربما أنا فقط متحيز ضد الضواحى والمدن الصغيرة والبلدات البيضاء التى يأتون منها؟» حينها، تحولت جادة روميو لاتور إلى مكان أنيق، جذاب، حيث أوقات طيبة تنتظر الجميع. إنها، على أى حال.

جادة قريبة من أماكن أخرى كثيرة رائعة: متحف الفن الحديث. متحف رودان. المكتبة التى يسمونها مكتبة فيلادلفيا الحرة. ميدان لوجان الذى منحه للعالم رجل لديه مفهوم خاص جدًّا عن الجمال. وكل خراء آخر. أصبحت المكان الذى يجب أن تكون فيه. الكثير من المطاعم الرائعة. الكثير من المتاجر الغالية. بارات أيضًا كى تكتمل المتعة بكوب بيرة طازجة من الإنتاج المحليِّ.


قبل عدة سنوات، قبل التهذيب هذا، لم يكن كريس يبالى كثيرًا بوجود السجن، «مجرد حياة فقيرة» كان يقول لنفسه، «تجاور سجنًا ضخمًا انتقلت إدارته من هيئة ما، ربما هيئة الإصلاح والتهذيب، إلى هيئة ما أخرى، ربما وزارة الترفيه وتسلية المواطنين. لا يعنى هذا شيئًا».


وبعد أن تهذَّبَت حياة جادة روميو لاتور والشوارع المحيطة بها، بدأ الأمر يضايقه. أثار غضبًا شديدًا داخله. كرجل عقلانى جدًّا، فكر كريس أن الغضب الشديد من شيء خارجك لا بُدَّ يعكس غضبًا ما من أمر فى حياتك أنت.

ولم يهتم بأن يفكر فى الأمر أكثر من ذلك. على الحياة أن تمر، وليس من المفيد أن تجد الأشياء فى حياتك التى تستحق الغضب. الزمن كفيل بكل شعور حاد على أى حال. الآن، لم يعد التجاور بين سجن الولاية الشرقية وذلك الجزء من الحياة الذى يحدث حوله يتعدَّى شيئًا آخر يفكر فيه، يمكن التفكير فيه، ربما كثيرًا، لكنه لا يثير فى كريس مشاعر قوية بشكل خاص.


و«الحياة تمضى، أيها الرجل العجوز» يخبر نفسه، «الحياة تمضى. الموت صنو الحياة، والحياة صنوة الموت. يتهاديان معًا، يدًا بيد، قُدُمًا. من قال ذلك؟ فى أى كتاب رائع عن حياة ساكنة؟ عن حياة راكدة؟»


ودخل إلى «عشاق وحمقى»، أحد الأماكن القليلة التى تُرِكت على حالها القديم. لم تمسه الحضارة فقط لأن أليخاندرا ب أعلنت أنها لا تقبل أن توجد فى بار واحد، بارها هى بالذات، مع الحضارة.

«مَن يحب مكاننا كما هو يحبه» قالت، «مَن لا يحبه لا يحبه؛ لهذا يمكنه أن يضاجع يده فى مكان آخر».


حضارتنا هذه الرائعة، يفكر كريس، مهووسة بأن تجعل كل شيء قديم، لعين، متهدم قليلًا، يبدو جيدًا، وجذابًا، وملائمًا لأن تنفق فيه الكثير من نقودك إن كان معك منها الكثير. «اللعنة على كل حضارة» يقول لنفسه.


«متى تنامين، أيتها الخاسرة!» يسأل كريس للمرة الألف،«لا أفعل،» ترد أليخاندرا ب، «مَن غيرى سيخدم عظمتك، ويقدم لجلالتك مشروبك الصباحى إن نامت هذه الخادمة المتواضعة!».


ويجلس كريس أمام البار، ويُقدَّم له كأس الويسكى المزدوج. تُحضِر أليخاندرا ب منفضة سجائر مع المشروب. فى مثل هذا الوقت المبكر، خاصة أثناء يوم عطلة، تكون سلطات المدينة نائمة ما تزال. من يهتم إن رغب شخصٌ أن يدخن فى بار! لماذا تتدخل الدولة فى رغبات المواطنين على أى حال!.


ويتبع كريس عادة صارمة. يُشعل سيجارة أولًا. يأخذ أنفاسًا ثلاثًا، ببطء. ثم تأتى الرشفة الأولى من السُّمِّ. هو يدعوه سُمًّا، وأحيانًا ترياقًا ضد الوجود فى العالم. ما إن يفتح عينيه فى الصباح، يكون دائمًا فى أثر رشفة سُمِّ الترياق الأولى الذى لا يسمح كريس له أن يُسكِرَه. فقط الشعور بالثَّمل ما يريد. بدايات السُّكْر لا السُّكر ذاته.


«سجائر فى بار! هل هذا هو آخر الأماكن الحرة على الأرض؟» يَصِله صوت، «تعنى بالإضافة إلى مكتبة فيلادلفيا الحرة؟» تمزح أليخاندرا ب، ولا يضحك أحد.


لم يكن كريس قد لاحظ وجود شخص آخر فى البار. يلتفت، ويرى رجلًا فى منتصف العمر يجلس وحده فى ركن، «لمَ لا تنضم إلى الحفلة، يا شقيق؟» يدعوه.


و«أنا فى الحقيقة لا أدخن» يقول الرجل، بينما يحمل مشروبه رغم ذلك، ويغادر طاولته، ويجلس بجوار كريس، ويضيف: «اسمى توماس كيد. أزور المدينة، فى عطلة يمكن أن تقول».


«وأنا كرستوفر مارلو، لكن كل ابن عاهرة يعرفنى فى هذه الأنحاء يدعونى كريس. لقد عشت فى هذه المدينة البائسة أغلب حياتى البالغة»و يرفع توماس كأسه، يهزُّ رأسه لكريس، ويشرب فى صحته. كريس، بدوره، يرفع سيجارته، ويهز رأسه لتوماس، ويسحب نفسًا فى صحته.


«غالبًا ما ينام السياح إلى وقت متأخر، أليس كذلك؟» يقول كريس،«لستُ مَن يمكن أن تدعوه سائحًا نمطيًّا. أنا فى عطلة لكنها رحلة عمل أيضًا.»
«ما هو عملك؟»


«أنا أستاذ للتاريخ الشعبى الأمريكى فى بارد كوليدچ.»، «بارد كوليدچ! أليس هذا شيئًا!» ، «إنه شيء على ما يرام!» ، لم يكن كريس فضوليًّا، لكنه شعر أن الرجل يود أن يتحدث، ولم يجد ضررًا فى بعض التسلية.


«أى عمل هذا الذى تقوم به فى هذه المدينة أثناء عطلتك؟» ، «حسنًا، إننى أبحث عن الإلهام. أعانى من حالة سيئة من استعصاء الكتابة!» ، «هل هذا صحيح؟»،«نعم، لم أكتب كلمة منذ شهرين أو أكثر قليلًا.»


أضاف توماس أنه يكتب سيرة لحياة «البروفسير»، وأن ما تبقَّى كى ينتهى منها هو فصلها الختامى. فى الحقيقة، لقد ذكر بروفسير بارد اسم بروفسير فيلادلفيا. تصنَّع كريس الانزعاج الشديد.


«اسمع، أيها الشاب،» قال كريس بأشد رقة استطاع أن يدَّعِيها، «لا نذكر اسم البروفسير هنا فى هذه المدينة. حسنًا، أنت غريب وكل شيء، وأنا أحترم الغرباء، خصوصًا إن لم يكونوا... ماذا دعوتهم؟.

سياحًا نمطيين، لكن إن كنت تكتب حقًّا سيرة أخرى للسيد البروفسير، لا أستطيع أن أصدق أنك لا تعرف أن اسم البروفسير سِرٌّ مُصان فى هذه المدينة، وأن لا أحد ينطق به.»
«لكن... أى معنى فى عدم ذِكر اسم يعرفه الجميع!» احتجَّ توماس.

اقرأ ايضَاً | ماهر البطوطي يكتب: الموسوعي.. عميد المترجمين العرب

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة