ماريز كونديه
ماريز كونديه


ماريز كونديه يكتب: أزهار الظلمات

أخبار الأدب

السبت، 21 يناير 2023 - 02:29 م

بعد إعدام غارولاماى، اندلعت فى البلاد موجة أحداثٍ غير مسبوقة، فقد أنجبت بِكرٌ فى السابعة والعشرين من عمرها توءماً لهما أنف خنزير، يثغوان كالخراف. وجابت فى غبار القرى كائناتٌ ذات رؤوسٍ كرؤوس القِردة أو الفيلة، شبيهةٌ بالآلهة الهندوسية، وألقت خطاباتٍ مدوّية.

غير أنّ تلك الكائنات لم تبثّ الرعب فى النفوس بقدر ما بثّه متنبّئٌ معوجّ القدمين، جاب الشمال وهو يعرج. أُطلقت عليه تسمية المُلهِم. كان يعرض صورةً لغارولاماى ويعلن إنّه قدّيسٌ وشهيد، ويضيف إنّ الوباء هو عقاب الله.

فمنذ خمسةٍ وعشرين عاماً، تكيّف البلد مع بيغ بوس الذى شنّ حروباً ظالمة وعذّب أبرياء وقتل إثنياتٍ كاملة. لم يحدث أيّ تمرّدٍ أو عصيان. لم يعترف أحدٌ بأنّه آن أوان أن يُشهَر فى وجهه السيف الذى لطالما شهره فى وجوه الآخرين. 


تابع قاسم الأخبار برعب، وحثّه رمزى على تجاهل هذا كلّه. فهو لا يهتمّ إلّا بشؤونه الشخصية. أيّ شؤون؟ بدا على نحوٍ يوميٍّ متزايدٍ أنّه يصوّب على هدفٍ لم يتمكّن قاسم من تبيّنه.


واتّخذ رمزى قراراً بعدم العودة إلى سامسارا. أعلن أنّه قادرٌ على مكافحة الوباء، بشرط أن يُمنح الوسائل. وعن طريق قريبته، زوجة بيغ بوس الخامسة، طلب من الرئيس مكاناً واسعاً بما يكفى ليحتوى على عيادةٍ وغرفة عملياتٍ فى آنٍ معاً.

ولم يزعم أنّه سينهى من فوره داءً غامضاً أدهش العلماء. لكنّه أكّد أنّه سيبذل قصارى جهده، مستنداً إلى معرفته الواسعة بالنباتات المحلّيّة، إذ لم تعد هذه النباتات مستغلقةً عليه نظراً للتجارب التى أجراها طيلة سنواتٍ فى مختبره.

واستباقاً لمواجهته أكثر من فشل، فقد أعدّ صالات عزاءٍ يتجمّع فيها تعساء الحظّ من الأهالى للبكاء على أمواتهم. منحه الرئيس صلاحياتٍ كاملة. ومنذئذٍ، أخذ رمزى، وإلى جانبه قاسم وحفصة، يجوب أرجاء «بورتو فيراي» دونما كللٍ أو ملل.

وبعد أيّامٍ من التجوال، اختار بيتاً مهجوراً فى الحيّ المسمّى بحيّ الدبّاغين، على الرغم من أنّ نقابتهم المهنية انتهت قبل مدّةٍ غير قصيرة. يتميّز هذا القطاع، البعيد نسبياً عن مركز المدينة، ببيوتٍ صغيرةٍ متماثلةٍ مكوّنةٍ من طابقين.

ويعلوهما سقفٌ أفقيٌّ كانت توضع عليه الجلود لتجفّ. أُطلق على البيت الذى اختاره رمزى لقب «بيت الأرواح» بسبب زعم أنّ المرحوم صاحبه، الذى أفلس فى أعمالٍ مريبةٍ، وجد صعوبةً فى تركه لصاحبه الجديد.

كلّ ليلة، تُضاء الأنوار على نحوٍ غامضٍ خلف النوافذ. وتتصاعد موسيقا وأصوات محادثاتٍ من الصالة. ثمّ تظهر أطباقٌ من الكسكسى وحِملانٌ كاملةٌ مشويةٌ على الطاولات وتختفى.


سأل رمزى الذى لم تكن تخيفه الأقاويل الشعبية: «ما رأيكما؟ إنّه ممتاز، أليس كذلك؟» ،لم يكن رأى قاسم بالبيت حسناً البتّة. فقد أخافته فكرة أنّ أرواحاً تحتفل فيه. تذكّر كوابيس طفولته عندما كانت  «التخشيبة» تبدو، عندما تمرّ عبرها رياح الشمال.

وكأنّها تتأوّه بألف طريقة. كثيراً ما أمضى فيها الليل من دون أن يغمض له جفن. لكن كالعادة، لم يلقِ رمزى بالاً للاعتراضات، فوضع العيادة وصالة العمليات فى الطابق الأوّل، وصالات المآتم الستّ فى الطابق الأرضى.

وفى حين احتلّت الشقق الخاصّة الطابق الثاني. تكوّمت النباتات الخضراء فى السطيحة. واختتاماً للاستعدادات، وظّف طاهيةً وحارسَيْ أمن، لأنّ «بورتو فيراي» باتت مكاناً خطراً بقدر خطورة جوهانسبورغ، يعمل فيها أنواع الآثمين كافّةً، فيسرقون المساكن فى وضح النهار ويقتلون الأهالى ليلاً. 


سرعان ما بلغ متوسّط الوفيات اليوميّة ثلاثين وفاةً، أخذ رجال العلم يجتمعون باستمرارٍ فى مؤتمراتٍ وندواتٍ واجتماعاتٍ مغلقة. وما كان يضلّلهم هو أنّ الوباء بدا انتقائيّاً. إذ لم يُصِب أيّ رجل، سواءٌ أكان بالغاً أم مراهقاً. كما لم يُصِب أيّ طفلٍ أو رضيع.

والغريب أنّه لم يُصِب أيّ مسنّ، على الرغم من أنّ المسنّين مؤهّلون عادةً ليكونوا ضحايا الجائحات وموجات الحرّ الصيفيّة. لم يكن الداء يصيب إلّا الفتيات. ويفضّل أولاء اللواتى يتزيّنّ ويضعن المساحيق على وجوههنّ.

والغريب أنّ القبيحات المتبحّرات فى العلم، ذوات النزعات الأدبية، اللواتى لا ينظرن أبداً إلى المرآة ولا يحاولن التأثير فى الطبيعة لصالحهنّ، كانت لديهنّ كلّ الفرص للإفلات من الإصابة.


طرحت مجموعةٌ من منظّمة «أطباء بلا حدود» احتمال أن يكون الوباء ناجماً عن فقدان المواد التالى للعقوبات الاقتصادية التى فرضتها الأمم المتّحدة منذ آخر رعونات بيغ بوس. فكرةٌ سخيفة. إذ لا يعانى من هذا النوع من نقص المواد إلّا الفئات الدنيا من الشعب، تلك التى لا علاقة لها بالسوق السوداء. والحال أنّ الفئات الاجتماعية كلّها أُصيبت.

الغنيّة منها والفقيرة. ثمّ إنّ هذه المحاجّة التى فاحت منها أكثر ممّا يجب رائحة الليبرالية اليسارية لم تعجب السلطة. ولهذا السبب، طُرد أولئك الأطباء شرّ طردة. 


وفكّر آخرون فى إخطار القوى الدولية، منظّمة الصحة العالمية. وبالفعل، ألا يمكن أن يصبح هذا الوباء وباءً عالمياً مثل إنفلونزا الطيور؟ لم يحظَ هذا الاقتراح بالرضا، فأُسكت أولئك الثرثارون. 
نحتاج إلى قلم شاعرٍ ملحميّ، إن لم نجد قلم مؤرّخ، لنرسم الآن صعود رمزى الأسطورى.


فسرعان ما بدا جليّاً أنّه على الرغم من وعوده عاجزٌ عن القضاء على الوباء. ومن عيادته التى أطلق عليها تسمية «إيمان»، لم تكن المريضات يخرجن إلا محمّلات. لم تحدث حالة شفاءٍ واحدة. غير أنّ أحداً لم يفكّر فى تحميله المسؤولية.

بل على العكس. فعلى الرغم من هذا العجز، فرض نفسه على البلد بأكمله. ظهر فى التلفزيون فى ساعات ذروة المشاهدة، «prime time» مثلما يقول الاختصاصيون الأميركيّون، ليوصى بمشروعٍ يمكن أن يبعث على الدهشة. تحنيط المتوفّيات.

أعاد تسمية هذه العملية، فأطلق عليها تسمية «التزيين». أنتم معى فى أنّ كلمة «تزيين» أخفّ وطأةً من الكلمة الأخرى. ألا يعنى «التزيين» الترتيبَ ومنح مظهرٍ ألطف؟ تأثّر أولئك الذين رأوا رمزى فى تلك الأمسية بهيئته أكثر ممّا تأثّروا بكلماته. شكّوا بدايةً فى أنّه شماليّ.

وأحد أولئك الذين يشربون الماء الصرف ويأكلون اللبن الرائب، ويعجزون عن تحمّل قطرة كحولٍ فى جسدهم. ثمّ شكّوا فى أنّه مجرّد شخصٍ فانٍ. استهوى رمزى النساء والرجال على حدٍّ سواء، لأنّ غموضه جعله قادراً على أن يلعب على الحبلين.


بدءاً من ذلك اليوم، وعلى الرغم من كلفة «التزيين» الباهظة، بات مؤسّسةً شبه إلزامية. أمر بيغ بوس المصارف بالموافقة على قروضٍ بفوائد تفضيليةٍ لدعم ذاك الذى بات يبدو الأكثر حظوةً لديه يوماً بعد آخر. 


ما الذى حلَّ بقاسم فى هذه الأثناء؟
من واجبنا تجاه الحقيقة أن نقول إنّه لئن كان نجم رمزى صاعداً، فالأمر لم يكن مماثلاً بالنسبة لنجم قاسم. ولم يقتصر الأمر على المسكن، فهو لم يرَ أيّ شبحٍ فى «بيت الأرواح». 


ولم يعد قاسم يستطيع تحمّل عمله. إذ تمثّلت مهمّته فى مساعدة رمزى فى الظروف كلّها، فيناوله، حسب الحاجة، الإبرة والوتر والملقط والمحقنة المبرّدة والمبضع والمبزل. كانت جلسات التزيين تستمرّ أحياناً طيلة الليل. وعندما ينسحب منهكاً فى الفجر.

 

تاركاً رمزى يضع لمساته الفنّية الأخيرة، لم يكن قادراً سوى على إلقاء نفسه على سريره كى ينام سويعاتٍ قصيرة. فضلاً عن ذلك، لم يكن رمزى سخيّاً إلّا بالكلام. يا له من ثرثار! أو بالمداعبات! إذ يعانق قاسماً ويضمّه إليه دائماً ويقبّله، لكنّه يدفع له أجراً بالغ السوء. 

اقرأ أيضًا | أمير الصراف يكتب: منقريوس بن إبراهيم.. المستشار القبطي لشيخ العرب همام

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة