لوحة للأميرة فخر النساء زيد
لوحة للأميرة فخر النساء زيد


جلال برجس يكتب: الثقافة المصرية.. الحاضنة الأكثر نزوعًا نحو الإنسانية

أخبار الأدب

السبت، 28 يناير 2023 - 03:19 م

فى القاهرة صُنعت لى ذاكرة جديدة، أثثها أناس يحلمون بغد لا ينفصل عما مضى. كان الوقت فيها يمضى بوعى المتخفف من أوجاعه وهو على موعد مع البهجة. بهجة أهدتها لى متاحفها، مساجدها، مكتباتها، مقاهيها.

عرفت مصر من خلال ثلاث نوافذ الأولى كانت عبر تلك الإطلالة التى توفرها الكتب؛ إذ قرأت فى مفتتح الشباب لعدد من الكتاب المصريين وأخذت بوعيهم العالى، وبتلك الرؤية المهمة التى كانت تستشرف ما يمكن أن يؤول إليه عالمنا العربى وهو يمور بالأحداث والتقلبات.

كانت مرحلة فى غاية الخطورة، وكان الإنسان العربى آنذاك فى أقصى درجات أحلامه. قرأت توفيق الحكيم، والعقاد، وإحسان عبد القدوس، ومحمد عبد الحليم عبد الله، وكثر ممن آمنوا بالكتابة سبيلًا إلى الوعى، وبالوعى سبيلًا إلى النهوض بواقع الأمة العربية.

ولقد تشكل جزء من وعيى الثقافى على ما كانت تصل إليه يدى من كتب مصرية. لكنى بعد ذلك وجدتنى استقر وأميل إلى ما كتبه نجيب محفوظ، ومن ثم جمال الغيطانى، وسعيد الكفراوى، وآخرون. كانت إطلالة مهمة بالنسبة لى على الفضاء المصرى الثقافى فى زمن الكتاب الوسيلة الأكثر رواجًا للمعرفة، وللثقافة آنذاك. 


وحين ظهرت أدوات ما بعد ثورة الاتصالات تعمقت علاقتى بمصر أكثر من ذى قبل، فقد صارت لى صداقات مهمة مع العديد من الكتاب من جيلى وممن يكبرونى فى العمر والتجربة الأمر الذى كان أرضية مهمة للقائى بهم فيما بعد، شعراء، وكتاب قصة، ورواية، ومسرح. 


وأما النافذة الثانية التى عرفتنى أكثر بمصر وبمثقفيها هى الإسكندرية التى حظيت بأول زياراتى، وذلك حين وجه لى مختبر السرديات المصرى دعوة لمناقشة روايتى (أفاعى النار) فى مكتبة الإسكندرية.

وقلت وقتها فى لقاء إعلامى إن هذه زيارة متأخرة بسبب عملى الذى لم استطع بسبب التزاماته على مدار تلك السنوات أن أسافر. التقيت أيامها العديد من الكتاب أبناء الإسكندرية مثل (إبراهيم عبد المجيد، ومنير عتيبة، والدكتور شريف عابدين، وهناء عبد الهادى) وكثير من الكتاب الذين وجدت إيمانهم وتعلقهم بالكتابة على درجة عالية من الاستثنائية. 


لم أكن أعرف الإسكندرية، كنت بحاجة لمن يدلنى إلى أسرارها وما كان ذلك إلا برفقة الدكتور شريف عابدين الطبيب والأديب والمحب لمدينته بوعى فريد. كان رفيقًا وفيًّا عرفت من خلاله تلك المدينة المدهشة التى فى زياراتى اللاحقة لها وجدت أنها لا تريك كامل ما عندها دفعة واحدة، وكأنها تريد لك أن تفهم تاريخها وواقعها بتمهل.

وفى تلك الزيارة أدركت ما معنى أن يكتب من يجاور البحر، ومن يعيش البحر فى دواخله. لقد تعرفت بنصوص روائية تعى جيدًا قيمة الإنسان وترسم شكلًا طريفًا لصراعه مع الوجود، ومع ذاته، ومع الكون.  


وكانت القاهرة نافذتى الثالثة على مصر، مدينة تأخرت كثيرًا فى زيارتها، لكنها من المدن التى تأتيك قبل أن تزورها؛ فقد عرفت بعضًا منها عبر القراءة قبل أن أغادر زمن المدرسة. كنت صغيرًا على أن أفهم مدينة ضاربة جذورها فى حقل التاريخ الشاسع.

وكانت أكبر مما يمكن لواحد مثلى فى ذلك الزمن يرى الأشياء عبر نافذة أعدت للأغنيات.  وكان دليلى إليها الكبير نجيب محفوظ، القاهرى بامتياز مذهل، حيث دلنى على أبعاد لا يعرفها سوى الذين أصابهم الأدب، واختطفتهم الكتابة إلى حقيقة الأشياء. 


وما يقال عن القاهرة، وما يرى عن بعد ليس إلا جانبًا بسيطًا لا يشكل ظلالًا لكامل الحقيقة؛ حقيقة الثالثوث (الإنسان، ومكانه، وزمانه) الذى كان وراء حضارة ما يزال الغموض بقداسة سرية يلفها. درس تلقيته مع أول خطوة كانت لى فى تلك المدينة التى يلظم وجوهها خيط سرى يرى ولا يُرى.

ومدينة لا يمكن لك أن تفهمها من دون أن ترخى العنان لحواسك الست لتعود إليك بصوف المعنى. تأخرت كثيرًا عن القاهرة لكنى زرتها. حدث ذلك فى صيف عام 2019؛ إذ هبطت الطائرة فى أول لحظات الصباح، حيث كانت الشمس قد ألقت بضوئها على البنايات، والبيوت، والشوارع محدثة ذلك التمازج الجميل بين لون عتيق تتمترس وراءه الأشياء.

وبين الضوء بشارة النهار. مدينة ما أن تراها للوهلة الأولى حتى تعتقد أنك أمام مشهد روائى خرج للتو من بين يدى كاتب ينحاز إلى ما وراء القشور للأشياء. إنها مدينة بلا قشور، ولا محسنات، تشبه إحساس عطشان حالفه الحظ بالشرب من رأس النبع. 


وفى القاهرة صُنعت لى ذاكرة جديدة، أثثها أناس يحلمون بغد لا ينفصل عما مضى. كان الوقت فيها يمضى بوعى المتخفف من أوجاعه وهو على موعد مع البهجة. بهجة أهدتها لى متاحفها، مساجدها، مكتباتها، مقاهيها، أناسها البسطاء الذين ما أتت بساطتهم إلا من عمق عتيق فى سبل العيش والحلم. مدينة تعلمك كيف تكون مشاءً. فى آخر الليل كانت تفتح شهيتى على الكتابة، كتابة حرة عن مدينة وقعت فى غرامها.


وفى آخر لقاءاتى بالراحل القاص الكبير سعيد الكفراوى، قلت له إن القاهرة تشبه رواية كبيرة يحلم كل كاتب بأن ينجزها. حدثنى عن نجيب محفوظ، وعن إدوار الخراط، وعن الروائى الأردنى الراحل غالب هلسا الذى أقام أكثر من عشرين عامًا فى شقة فى (الدقى).

وعرفت جوانب فى حياته لم يتطرق لها أحد من قبل. لقد كان تعلق غالب هلسا بالقاهرة وبفضائها الثقافى السبب الأكبر فى أن ينفق كل تلك السنين من عمره فيها، إلى درجة أن هنالك الكثير من المصريين لا يعرفون أن غالب أردنى الجنسية.

وفى ذلك اللقاء سألت سعيد الكفراوى: لماذا لا تكتب الرواية؟ سألته فى مرحلة باتت فيها الرواية الأكثر انتشارًا وذيوعًا وإقبالًا من جهة الكتاب والقراء. قال لي: لا أتقن كتابة الرواية. وإن حصل هذا سأفعل. رحل الكفراوى وهو فى شديد إخلاصه لفن القصة، وللثقافة المصرية التى ينتمى إليها.  


لا يمكن تجزئة الثقافة المصرية؛ فهى فى كتبها، ومقاهيها، وشوارعها، ومسارحها، وفى دور السينما، على شاطئ البحر، وعلى ضفاف النيل، فى قراها، وفى أريافها، وفى مناطقها الصحراوية، إنها الحاضنة الثقافية الأكثر أهمية، وعمقًا، ونزوعًا نحو الإنسانية.

اقرأ أيضاًَ | "غيوم فرنسية" في مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة