اللوحات للفنان: عبد الهادى الجزار
اللوحات للفنان: عبد الهادى الجزار


أمل الفاران تكتب: جَملِي

أخبار الأدب

السبت، 11 فبراير 2023 - 03:07 م

يجتاز ظلانا قطعة الرمل مخددة الوجه الفاصلة بين بيوت الطين والنخيل. أطأ ظلى وأعرف أن البيوت خلفى تدنى رؤوسها من بعض وكأنها تتآمر علينا. نسير وتعترضنا شجيرة عِشر. تكسر رفيقتى غصنا يابسا من الشجرة وتشهره بأوراقه وأزهاره كرتونية الملمس فى وجهي. وحذرتها أن لو انصب حليبه على فسألقى بها فى البئر المهجورة. رمت الغصن، والتفتنا معا بحثا عن غنم فطيس، أو عن بقرة آل مسفر وعِجلتها الصغيرة، لم نر شيئا. قلت: تأخرنا.. أدخلوها أحواشها.


تدير رفيقتى حلقة المخرف الحديدية الصدئة حول ساعدها كمروحة، ثم تقول: جدتى ضربتنى البارحة.. مسفر شكانا لها. يقول تيسه سيموت.. يكذب.. تيسه هزيل، وأخوك ملعون.. حذّرته ألا يحلبه.. سنعود للبيت وأجلده.


قبل النخل، أقبلنا على ثلة من الصغار يتبارون فى اللعب بين قوائم ناقة. رمحت واحدّا فخرج من اللعبة. اصطف بجوار اثنين سبقاه، الثلاثة ينظرون للناقة بغيظ، وبحسد للمحظوظين الذين لم يطردوا بعد.


الناقة لم تمل من اللعب، ضرباتها لهم لم تصبح موجعة وخاطفة، لكنها فى الوقت الذى أقبلت فيه جهيّر بالت. لا أقول إنها فعلت ذلك لأنها رأت جهير، أقول إن الأمرين حصلا فى الوقت عينه. خروج جهير أزعجنا أنا ورفيقتي. انزعاجى أنا صار غضبا حين رأيت سطلها البلاستيكى تيفانى اللون.

ستخرف نخل أهلها وكنا ننوى سرقة رطبهم الأصغر حبات والأكثر حلاوة. نظرت لرفيقتى التى هزت رأسها أسفا. الناقة نظرت بعيدا وجهير تدس رأسها بين فخذيها، تتلقى جمة شعرها السائل الأصفر الكثيف، تريد أن تجعله يطول قبل زواج أخيها. 


وبما أنه لم يعد من مبرر للعجلة وقفنا نراقب جهير وسطلها المبلولين يبتعدان. دخلت رفيقتى لعبة الأولاد والناقة. لم أعارض لكنى تمنيت أن تتلقى خبطة سريعة لنكمل سيرنا. نجت فى محاولتها الأولى فتركتها وسرت فى اتجاه مغاير لاتجاه جهيّر؛ ستتبعني.


ورفعت رأسى للسماء، الشمس ستحمر بعد قليل وتهبط. مشيت مسافة حتى لم أعد أسمع ضحكات عيال الناقة. ربما نفتش تحت شجيرات القطن عن قنافذ، ثم نعود مع الشفق لبيتهم أو بيتنا.

ونستطيع أيضا أن نروع العصافير العائدة للسدر. الفكرة الأخيرة دغدغت قلبي. أسمع رفيقتى تجرى ورائى وأنفاسها تتقطع. أواصل سيرى الهادئ بانتظار أن تقبض على عنقى بطريقتها المفاجئة فأركلها بقوة.

وتجاوزتنى واستمرت تجري. لم أر وجهها لكنى أميز طعم الخطر فى نقرات أقدامها للرمل والحصى. جريت مثلها وأنا ألتفت ورائي. كان بعير هائج يهملج فى ساقتنا. عنقه السماوى يتدلى فوقنا.

وطرت متقدمة رفيقتى التى لم تكن يوما أسرع مني. اعترضتنا شاحنة ماء رابضة فى مسارنا، صعدت قمة صهريجها. تبعتنى رفيقتي. بين ظهر الصهريج المحدودب والسماء وقفنا عصفورين مذعورين. ترشح أقدامنا عرَقًا حارًا نخاف أن يزل بنا نحو شدق البعير المزبد.


ورفيقتى تبكى بكاء لم أعد أسمع معه وجيب قلبي، ولا أفكاري. لم أميز زعقات الرجال: أينادون البعير أو يتنادون ليسيطروا عليه؟
البعير يدور حول الشاحنة، شفته السفلى تلمس الصهريج تحت أقدامنا بذراع أو اثنين. بدأت رفيقتى تسعى هرولة بين طرفى الصهريج وأنا واقفة مكاني. 


البعير تركها والتصق بالحديدة الأسطوانية يمد عنقه صوبي. رغوة بيضاء تسيل من فمه، لها لون حليب الناقة لا رائحته. تصنّمت أحدق فى عينيه ورغاؤه يرج ضلوعي. جره الرجال بخطامه وأحكموا عقاله. ابتعدوا به ثم دنت رفيقتي. بمخالبها شدت كمى وهى صامتة. سال ماء أصفر نفاذ الرائحة على قدمينا، لا بد أنه منها. 


وفى الليل، أندس فى فراشى بين أشقائى الأصغر. تتربع أمى لتمسح بالفازلين عن أرجلنا مغامرات اليوم كله. الخدر يدبى فى جسدى متجها لرأسي. أخى الأصغر منى بسنة يرجوها أن تصف له «عوافى الرحمن» وبسرعة يخفى رأسه تحت اللحاف.


ثالثنا قاطع أمى التى بدأت كالعادة ترتدى فروة أبى مقلوبة. قال إن جارنا سمح له أن يحلب معه ناقته اليوم. خوّفته أمي: لا تقرب الإبل، بعضها يرمح.


دخلا فى جدال حول الناقة، ومنتظر القصة أخرج رأسه بعد أن يأس من الحكاية: يمه، الناقة تأكل العيال؟
ردت أمي: لا تأكلهم، لكنها قد تقتل. كان لشقيق جدك بعير نهش رأسه، وظل يومين فى البر لا يدرى به أحد.


وطار النوم، لكنى أغمضت عينى واستدرت للجهة الأخرى. سأخبر رفيقتى غداً أن البعير كان يريد أن يقطف رأسها، وأن جهير لا تغتسل ببول الناقة ليطول شعرها، بل ليحسبها ناقة فلا يؤذيها.


وكبرت، وبيوت الطين ماتت، رفيقتى كذلك، ومخرف جهير. جهيّر حية لكن شعرها لا زال أقل مما تريد. البعير.. لن أقول إنّا صرنا صديقين، لكنه يلازمنى أكثر من أصدقائي، يعودنى كل سنة مرة كخسوف.

ويغير هيئته وصوته، وأعرفه بالرعب الذى يصعق جسدى إن أقبل. يأتى مرة فى هيئة همّ أثقل من صهريج ماء ممتلئ، مرة أسمع رغاءه تحت ضجيج خبر صاعق، ومرات يقضم أصابعي. 


بعيرى الأحمر ذاته، وكل مرة يطلينى بلعابه اللزج، لا يقضم رأسى ولا يعطينى زمامه.

اقرأ ايضاً | سيد حجاب يكتب: صيّاد الدهشة

نقلا عن مجلة الأدب:

202302012

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة