الفنان التشكيلى العراقى غسان فيضى
الفنان التشكيلى العراقى غسان فيضى


جمال العتّابي: التشكيلي العراقي غسان فيضي قدرة عالية في تجسيد اللون والحركة

أخبار الأدب

الأحد، 05 مارس 2023 - 03:07 م

كان غسان فيضى المولود فى معقل البصرة، يعرف من أين جاءت السفن، وأين رست؟ حرارة التوابل تخطف رغباته عندما تقع الشمس على أطراف النخيل تطير كالحمامات، ههنا حاضر له زمان ومكان يتذكر فيه موت أبيه، باحة البيت تتوسطها شجرة سدر، طالما تلعنها الأم بإعتقاد منها أنها تجلب النحس إليهم، ها هى العائلة تعدّ نفسها للرحيل، ينسون أيامهم خلفهم.

 يشعر الفنان التشكيلي فيضى المقيم فى فرنسا بالحزن لأن مدينته البصرة تنسى أبناءها، حين لا يجد أثراً  لاسمه من بين (تشكيليو البصرة)، الكتاب الذى أصدره الناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي عام 2017، وهو يستعيد الأيام والأحلام والذكريات كواحدة من صفحات تاريخ الفن فى العراق، وقد أدركها الغياب من طول ما بعدت عنه ونأت، إذ تبدو له من وراء شفيف ضباب السنين، وردية قليلاً، شاحبة بعض الشيء.

وكنت قد اخترت يوماً غائماً لأغادر البصرة، ورحت أشرب حفنة ماء من نهر (بويب)، وأقول لأهلها: سلاماً أيها الباقون، سلاماً أيها النخل، لم آخذ أدوات قلبى كلها، تركت بعضاً منها هناك، يقول فيضى المولود عام 1948: استحضرها على الدوام فى أعمالى الفنية.

بعد أن تركت الوطن عام 1974،نحو باريس بعد عام واحد من تخرجى فى أكاديمية الفنون الجميلة، كنت أحمل معى حقيبتى الصغيرة وآلة العود. بكفالة صديقه الفنان فيصل لعيبي، الذى سارع هو الآخر للالتحاق بغسان، ينطبق عليهم المثل المحلى «عصفور كفل زرزور واثنينهم طيارة».

واصنع بنفسك ما تشاء يا غسان، فقد اخترت طريق الرحيل، واسم حضارة الرافدين والموروث العراقى يرنّ على خطاك، ربما امتلأت رئتايك بهواء المعقل وبغداد، فرحت الى مواجهة الزمن المتحرك، بما يحمله من توقعات حادة ومفاجآت قد تعطّل فى نفس الفنان تلك الطاقات الحبيسة التى تريد أن تعلن عن ذاتها بسرعة.

ومثل هذه المعادلة الصعبة التى تفضى الى حالة من اللاتوازن مع العالم الذى يحاول الفنان جاهداً أن يبقى على علاقة سليمة به، قد لا تسعفه فى المضى بالتجربة حتى نهايتها لأنه حينما يقف إزاء كل جبريات الحياة ويواجه امتحاناتها ومعضلاتها.

ويجد أنه فى حاجة الى معين يتجدد من طاقة الحياة لاينضب، حملت عودك الى أنفاق مترو، ترسم على جدرانه، وتعزف كى تأكل، مغامراً فى آن أو مكتشفاً فى آن آخر، كنت تعمل طبقا لمزاج خاص لم تهزّك عواصف التحديث.

أدرك غسان ذلك حين بدأ الدراسة فى معهد (البوزار)، وتخرج فيه عام 1980. لتغتنى تجربته كشاهد للطبيعة وملوّن رصين شغوف بعراقية المنظر، وهو يمنحه قدراً كبيراً من العاطفة المشبوبة، يضيف إليه بصريات ريشة عريضة ذات سحبات جريئة وواثقة.

وما يمكن أن يؤلف غنائياً نسيج اللون التعبيري، متأثراً بأستاذه الفنان الفرنسى «جان برتول» الذى طالما يحثه وينصحه فى العودة إلى ثقافته الشرقية ومنابع حضارته وتاريخه، وهو بهذا القدر من الحرية التقنية يتيح لنفسه قدراً من المساحة الكافية بين أسماء فنانى جيله (صلاح جياد، نعمان هادي، فيصل لعيبي، متقذ شريدة)، ويبتعد عنهم بمعالجات مغايرة، شكّلت ملامح اسلوبه الخاص.

ويطالعنا أبداً وجه العراق السومرى فى أعمال غسان فيضى التشكيلية، إذ استأثر بالنظرة الصافية للمشهد العراقي، وظل متوازناً مع ذاته من دون مفارقات ولا مواقف دراماتيكية مفتعلة، ولا حتى محاولات فنية تهدم عالماً منظوراً لتشيد نقيضاً له.

وربما كان ينظر الى تلك المحاولات نظرات فنان يحلل ويركّب، ويقارن ويجانس ويغاير، لكنه لا يستسيغ الدخول إلى التجربة الفنية مغامراً، حين يعمد الفنان إلى الكشف عن جوهر جماليات الطابع الدينى فى جداريات نفذها داخل كنائس فرنسا ضمن اختصاصه الدراسي، سعياً منه الى اقتناص لحظات الإيماض فى ولادة الخلود.

تأثر فيضى بمعلميه رواد المدرسة البغدادية،  إذ يقدم نفسه كامتداد لمدرسة جواد سليم فى موضوعات الحب والحنين والفرح، والأجواء العراقية بطقوسها وقصصها، شناشيل بغداد والبصرة، وألوان الزجاج والأقواس فى النوافذ والأبواب.

وللمرأة حضور غالب فى أعماله، فى أوضاع منحنية ومكورة، بحالات حنين وإنسانية مشبعة بالعطف، وجوه النساء مليئة بالرموز والألغاز التى تتطلب لمعالجتها قدرة حلمية ولونية لا حدود لها، عناصر اللوحة لديه فى تناغم وانسجام جميل ومتناسق.

ويبرز لنا دلالة رمزية فى الأشكال المكونة لها، والنسب الفنية الظاهرة فيها تعطيها قيمة بنائية عالية فى تجسيد اللون والحركة بما يحقق القيمة الجمالية. لوحات (بغداد حبيبتي، وبغداد بين نافذتين).

وفى ضوء هذه المعطيات، يمكن القول إن لغة فيضى التشكيلية تحولت إلى مادة فنية مطواعة مؤهلة للتعبير عن ذلك الإيقاع البصرى المؤثر بالمضامين غير معقدة التركيب، بعيدة عن سطوح التجريد، والاستخدام الفج والمباشر للفولكلور لعل أغلب موضوعاته تأخذ نمطاً شكلياً واحداً للتعبير عن أفكاره وعواطفه.

وفى الذهاب نحو النستولوجيا كمتنفس من ضغوط الغربة، فيجد نفسه مشدوداً بقوة إلى مصادر وعيه وجذوره الأولى، الحضارية والروحية، فضلاً عن حالة القلق وأسئلة المصير التى منحته قدرة التعبير عن أفكاره بنمط صريح يعالج عبره الموضوعات الإنسانية والاجتماعية، فكان أكثر أمانة من سواه فى حدود تجربته الفنية أن يتمثل بعض ما جاءت به التيارات الفنية المعاصرة، فلم يخضع كلياً لتأثيراتها، كما لم تحمله على التقليد فيسقط فى هاوية المماثلة الرديئة.

تجربة غسان تبدأ عادة من نقطة الإشارة إلى المرأة،  تتجمع فى مختبره الداخلى كل الطاقة التعبيرية على أداء الفعل، لتفرغ فى النهاية بالتشكيل الذى يمثل شخصية الفنان وأسلوبه، المرأة فى أعماله مثل رغيف الحياة، وجوه مدوّرة بعيون مفتوحة واسعة، الصغار من حولها يتمسكون بأصابعها، يتشبثون بأذيالها لائذون، اللوحة تسبح بلون الضياء، والخدود كلون الأجاص، نجوم شفيفة تضيء، وهمس النساء الغارقات بحزن الفقدان يتحول إلى صراخ من خلف الأسوار (لوحة سبايكر) مثلاً.

اللوحة عند فيضى تحفل بمعانى الخط كوسيلة تعبير عن الحقيقة والحركة على رقعة مسطحة ساكنة، و شدّة اللون فى عام الأساطير الشرقية، ألوان الزجاج والسجاد، والأقواس الرقيقة، والمثلثات، أعماله واسلوبه على وجه التحديد.

عالم ألف ليلة وليلة الذى ينتظره الأوربى أن يقدمه الفنان المقيم فى بلدان الغرب، فكان أميناً لما تمناه معلّمه جواد سليم فى أن يجد امتداده بتجارب شابة، أصيلة المنابع، منفعلة بالأحداث، غير غائبة عن التأثيرات الاوربية، بما يمنح فن جواد القدرة على النمو والانتشار.  

اقرأ أيضاً | كريم محسن يكتب : الكتابة المُطمَئِنَّة فاشلة وبائسة وأنانية

نقلا عن مجلة الآدب :

2023-3-5


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة