هشام مبارك
هشام مبارك


احم احم !

«قارىء الجثث» فى شبكة الصياد مصطفى عبيد !

هشام مبارك

الأربعاء، 15 مارس 2023 - 05:49 م

يذكرنى الكاتب الروائى والمفكر والمترجم الكبير مصطفى عبيد بسانتياغو بطل رائعة إرنست همنجواى العجوز والبحر، ذلك الصياد الدؤوب الذى يصر مع صبيحة كل يوم على أن يبحر بشراعه ويقبع فى قلب البحر أياما وليالى طويلة طمعاً فى صيد ثمين يملأ به شبكته ليعود به للشاطىء.يظل مصطفى عبيد شهوراً طويلة يدور مثل قط صغير، مفتشاً عن المنسى وباحثاً عن المخبوء، يحاول استقراء جوانب قد تبدو منسية فى تاريخنا الحديث.

وهذا تحد ما شبكه فى هذا الصيد الثمين وأعنى به مذكرات سيدنى سميث طبيب التشريح البريطانى الذى عاش عشر سنوات فى مصر الملكية من 1917 وحتى 1927 وهو ما يضفى أهمية أخرى على هذا الكتاب القيم حيث تلك الفترة الزمنية المهمة فى تاريخ مصر، والتى أتاحت لذلك الطبيب أن يحتك بالمجتمع المصرى خلال مرحلة مهمة من مراحل تطوره عقب ثورة 1919 وما نتج عنها من تطور مجتمعى واضح انعكس على مختلف مناحى الحياة.كما تابع الطبيب البريطانى فى تلك السنوات قضايا جنائية وسياسية عجيبة انحاز فيها جميعاً إلى ضميره العلمى قبل انتمائه الوطنى لدرجة أنه فضح فى كثير من صفحات الكتاب توظيف سلطات الاحتلال الانجليزى لبعض اللصوص السابقين للعمل كخفير غير نظامى ثم تستخدمهم لقتل المتظاهرين المصريين وإثارة الشغب لتحقيق أهداف سياسية، كما شهد فى إحدى المرات لصالح سجين مصرى تعرض للتعذيب فى أحد السجون.

اختار مصطفى عبيد أن يترجم تلك المذكرات تحت عنوان عبقرى وجاذب جداً «قارىء الجثث» بدلاً من عنوانها الأصلى «على الأرجح قتل». كنت قد انتهيت لتوى من إعادة قراءة رائعة صلاح عيسى وأيقونة أعماله من وجهة نظرى «رجال ريا وسكينة سيرة سياسية واجتماعية».

والتى تتناول تلك الجرائم التى هزت المجتمع المصرى فى نفس تلك الفترة التى تناولتها مذكرات سيدنى سميث لذا من المفارقات الجميلة بالنسبة لى أننى تلقيت تلك الترجمة عقب انتهائى من قراءة دراسة صلاح عيسي، فأجاب طبيب التشريح على كثير من الأسئلة التى دارت فى ذهنى وأنا اقرأ تفاصيل جرائم ريا وسكينة وكيف أن الطب الشرعى وقتها والذى كان سميث أحد أهم رجاله نجح فى تحديد الكثير من صفات ضحايا ريا وسكينة الجسمانية والشكلية والتاريخية.

فجاءت تلك المذكرات وكأنها تكمل عندى ما لم أستوضحه من كتاب صلاح عيسى الشيق عن الطريقة التى يعمل بها الطبيب الشرعى كمخبر ومحلل للأحداث، وكيف يستنطق الجثث ويعيد اضاءة مسرح الجريمة ويتتبع الآثار ليخلص بريئاً أو يلف حبل المشنقة حول رقبة مجرم، تعجبت من قدرة ذلك الطبيب على كشف جريمة قتل وراء ثلاث عظام صغيرة وجدت فى قاع بئر تم إعادة فتحها بعد سنوات من عدم الاستخدام.لم يكن للشرطة أى أسباب للتشكك فى الأمر جنائياً وتم إرسالها لمعمل سيدنى سميث كإجراء روتينى معمول به، بل وكان الهدف تحديد ما إذا كانت العظام لحيوان أم لإنسان قبل أن يأتى تقرير سميث بمفاجأة مدوية أن العظام لفتاة عمرها بين 23 و25 عاماً ومر على وفاتها ثلاثة أشهر أنها حملت أكثر من مرة وأنها مصابة بعرج وقتلت ببندقية محشوة بطلقات مصنعة محليا.

أندهش من هذه القدرة الرهيبة التى أودعها الله فى علم التشريح. وأتصور أنه إذا كان هذا العلم على هذه الدرجة من التطور منذ ذلك التاريخ البعيد فلعله الآن لا يدع جريمة بدون معرفة كنهها ولا مجرم بدون الجزاء العادل.

كل الشكر لـمصطفى عبيد على هذا الكتاب الذى اعتبره كنزا يجب أن يستفيد منه طلبة الطب وبالذات المتخصصين فى الطب الشرعى وكذلك الشكر موصول للناشرة المتميزة والمشجعة والمساندة نيرمين رشاد رئيس الدار المصرية اللبنانية وفى انتظار الجديد من سانتياغو العصر الحديث الروائى والمترجم مصطفى عبيد ليلقى بشباكه من جديد فى المياه العميقة ليعود لنا بصيد ثمين و لينبش فى الدفاتر القديمة ليستخرج لنا كنزاً جديداً.
 


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة