لوحة للفنان سمير الفيل
لوحة للفنان سمير الفيل


د. إبراهيم منصور يكتب: سمير الفيل في سرده.. هذا الطفل هو أنا

أخبار الأدب

السبت، 18 مارس 2023 - 04:06 م

قصص «دُمَى حزينة» ليست سوداوية إلى هذا الحد، بل فيها خيط نور، ومسحة من المقاومة، تشبه الجهاد عن قناعة، كما كان يصنع  «سانتياجو» بطل «آرنست هيمنجواي» (١٨٩٩- ١٩٦١) فى رواية «العجوز والبحر»، وأسعدني، بل أبهجني غلاف المجموعة القصصية الأخيرة للكاتب سمير الفيل (مواليد ١٩٥١) فقد وضع الفنان على الغلاف صورة دُمْيَة تلبس ثوبا أخضر تحته رافعة بيضاء، وقد أحاط بالدمية أغصان شجرة ورد أحمر بأوراق خضراء، أما حذاء الدمية فقد جاء لونه بنيّا، هذه الألوان المبهجة كلها زينت غلاف كتاب «دُمَى حزينة» (بتانة ٢٠٢٢) لكن دار النشر، للأسف، لم تعرّفنا باسم الفنان المبدع الذى صمم الغلاف ورسم الدمية والورد والأغصان.

  تبقى الإصدارات السردية لسمير الفيل مليئة بالألوان المبهجة، فعناوين الكتب فيها ألوان: الأحمر والليموني والأسود والذهبي والبنفسجي والأصفر والأبيض والخشبي والرمادي، ولكن مصدر البهجة لا يستمد من الألوان وحدها بل من الكائنات والأشياء: الخوذة والأرجوحة والنورس والحمام والضفيرة والصندل والباب والدفتر والجبل وأخيرا الدمية.

وكل هؤلاء يستمدون حياتهم في السرد من وجود الإنسان، وما يحركه من مشاعر ورغبات، لكن اللافت أن السرد في أعمال سمير الفيل مشغول بفترتي الطفولة والصبا، وزمنهما، فهو عنوان عمل من أعماله القصصية (مكابدات الطفولة والصبا).

حين تلقيت آخر ما كتب سمير الفيل، لم يدهشنى، بل أبهجني، أن وجدته كتابا سرديا للطفل، عنوانه «مغامرات الديك العجيب سابو» (المركز القومي لثقافة الطفل ٢٠٢٢) فيه ثلاث قصص يرويها الديك سابو، حيث يتحدث الديك إلى الأطفال من سن ٩ إلى ١٢ سنة، كما هى طبيعة كل مسرودة «خرافية» من عهد «أيسوب» Aesop اليونانى (ت ٦٢٠ ق.م.) ، مرورا بابن المقفع (ت ١٤٢ هجرية) الذى صاغ «كليلة ودمنة» وحتى اليوم، سابو يندفع ويخطئ ثم يستدرك خطأه، فيكون في ذلك درس وعبرة، لكن القصة لا تقول العبرة، بل تعلّمها فقط من خلال الحكاية، الحكاية مقنعة جدا، ومنطقية جدا، وبسيطة جدا، قد غلفتها رسوم مبهجة.

ولم توجد على الغلاف وحده بل في سائر صفحات كتاب «مغامرات الديك العجيب سابو» هي ٢٤ صفحة غير الغلاف رسمتها الفنانة المبدعة إيمان حامد، هذا أدب إنساني حقا، فكما يقول الشاعر الإنجليزي ص. ت. كوليردج S.T. Coleridge (١٧٧٢- ١٨٣٢م) فإن الثعالب والذئاب هي استعارة كل إنسان.

وإن عودة الكاتب سمير الفيل إلى الطفولة والصبا، ليس فقط للكتابة للطفل، بل لامتصاص رحيق العمر وخلاصة التجربة، وقد بدا هذا جليا فى نصوصه التى يكتبها هذا الصيف على صفحته على الفيس بوك، وفيها نلمح صدى عمل نجيب محفوظ الشعرى السردى «أصداء السيرة الذاتية» وقد اتخذ سمير الفيل أيضا وضعية الراوى الشيخ الذى تشده التجربة الطويلة فى الحياة نحو بئر الطفولة والصبا العميق، منه يستمد العون على مكابدة المعاناة فى رحلة رمزية وواقعية، فآخر ما فكر فيه العقل الذى أثقلته التجربة، مضفورة مع أول ما اجترحته النفس وهى بعد طفلة بريئة.

وهذا كله يأخذنا نحو الاثنتين والثلاثين قصة فى  كتاب «دُمَى حزينة» الذى أنجزه الكاتب كعادته خلال عام واحد من شتاء ٢٠٢٠، إلى صيف ٢٠٢١، لكنه أيضاً كتب قصصاً أخرى فى هذه المدة الزمنية نشرت فى الكتاب السابق عليه (ليمون مُرّ) فالقصص ليست قصيرة فحسب بل أحيانا «قصيرة جدا» مثلما هى الحال فى قصة «سبعة تصورات لوردة».

والتي ضمت سبعة عناوين، كتبت صباح يوم الجمعة ٢٦ فبراير ٢٠٢١م، القصة ليس لها بطل واحد، بل لها راوٍ واحد،  فالأولى تحدثنا عن عثمان المكوجى، والثانية عن بطرس ملاك الذى يخاطب السيدة مريم البتول، والثالثة عن شوقى البلعو بائع الحشيش، والرابعة عن فرغلى الجامد الذى يعانى من فقدان ابنه، والخامسة عن طه العايق العسكرى بالمطافى، والسادسة عن مخيمر الحلاق، والأخيرة عن الأستاذ عنبر معلم اللغة العربية، فماذا يجمع بين هؤلاء؟ إنه رمز، كل واحد من هؤلاء حمل في يديه وردة، صارت له البَلْسَم والشفاء، أو ربما العذاب وأصل الداء. الوردة هى الرمز الذى يجعل هذه القصص القصيرة جدا، متوالية قصصية وعملاً تجريبياً متكاملاً وبديعاً، يقرأ من وجوه عديدة، فهو نصٌ حمّال أوجه، والنص يعيدنا إلى مدخل الكتاب حيث الإهداء الذى كتبه المؤلف: « إلى زهرة التمر حنة، عطر وبهجة ومساحة من الرقة الخالصة»

ولقد كان الكاتب الروسى العظيم أنطوان تشيكوف (١٨٦٠- ١٩٠٤م) معنيا بتصوير الفقر  والظلم، وقلة الحيلة، والقصص عند سمير الفيل تميل إلى ذلك النمط «التشيكوفي» من حيث أن شخصياته جميعها تعانى وتتوجع، وهى تشكو أحيانا، وتتحمل الوجع أحيانا.

وقد تتوه عن الوجود، كأنها غابت عن الوعى من شدة الألم وتبريحه.، بل إن الموت نفسه قد لا يكون نهاية الألم، ففى قصة «المعاطف الرمادية» التى صدرت مجموعة قصصية باسمها (دار غراب ٢٠٢١) نجد الشخصية الرئيسية فى القصة، صار بلا اسم، ومع ذلك فإن أصحاب المعاطف الرمادية ما يزالون يطاردونه، وهو الآن ميت لا حي.

وفى مجموعة «دمى حزينة» تستمر قصة «قصة العفو» فى سرد المعاناة، فهى تلخص عمرا ممتدا، وجيلا بعد جيل، كلهم يعيشون فى المعاناة  والخوف من الغد، فالشاب الذى تعلّم بعد معاناة أمه لتربيته، حينما يحب، فإن خطيبته تدفع ثمن تردده وميراثه المتمثل فى هروب والده، فتشعل فى جسدها النار وتموت.

وبرغم أن بعض القصص ما يزال يعتمد على «الحكاية» مثل قصة «الداء والدواء» التى هى مجرد درس أخلاقى، فإن لغة الكاتب لم تفقد حيويتها المستمدة من البساطة، لكننا نجد أنفسنا أمام تطور مهم من حيث اللغة والأسلوب، فنجد ميلا نحو الرمزية والصوفية، أما الأسلوب فلم يغادر أسلوب الكاتب المعتاد، لكنه فى بعض القصص أصبح أشد اشتباكا مع «تيمات» من الأدب العالمى غير تلك التى رسخها العالم التشيكوفى من قبل.

ولقد ألزمت شطحات الخيالى الفانتازى الكاتب سمير الفيل أن يذهب إلى لغة «ألف ليلة وليلة» ففى قصة «محاولة لرسم مشهد خيالى» نجد ألفاظ: الأميرة، عبد زنجى، حارسان، جلد الغزال، الخاتم الإمبراطورى، القصر، الرعية، كبير الَكتَبة، تاج من اللؤلؤ، الريشة، المحبرة، كيس المخمل، الدنانير الذهبية، السياف، الطنافس، المملكة، كرسى العرش. ومن ناحية أخرى وردت ألفاظ من عصرنا وحده مثل: العلاج الكيماوى، المستشفى، تسريحة (قطعة أثاث) موظف البريد، قميص التيل.

وفى قصة «دمى حزينة» تعيش الطفلة صفاء، ضيفةً فى بيت الراوى، حياتها مع الدُّمى، وهى تعتقد أن أباها سافر للعمل فى مكة بينما هو مسجون لأنه وقّع شيكات بدون رصيد، وحينما يباشر الرواى مع صفاء لعبة «السلم والثعبان» يتحول الثعبان المرسوم على اللوحة الورقية إلى كائن حى، وينتقل السرد من الخيال إلى الواقع فى يسر، يذكرنا هذا النمط السردى بما يعرف ب «الواقعية السحرية»

وفى قصة «القنفذ» موظف مسالم غاية المسالمة، لكنه لا يستطيع حماية نفسه لا من عدوان زملائه فى العمل، ولا من تسلط زوجته التى تضربه ضربا مبرّحا، فيلجأ لحيلة تحميه ممن حوله، يصبح قنفذا، وقد عاش حياته مطمئنا ينام تحت السرير لا فوقه، وحينما جائت أمه لزيارته فى المنزل لم تَرَ أمامها إلا قنفذا فعليا، وهذا يجعلنا نربط بين القصة والكاتب من أصل تشيكى  فرانز كافكا (١٨٨٣- ١٩٢٤) فى عمله الشهير «التحول». وفى قصة «اندحار مصطفى شيحة» تسمع الزوجة خبر طلاقها بدون إنذار، فتجد نفسها تسير على الحائط مع سرب النمل.

وإن الكاتب لا يتمادى فى غرائبيته، بل يعود بنا إلى «الواقع» دائما، ففى قصة «السلسلة» سرد غرائبى يحكى عن امرأة يهلك أبناؤها الثلاثة تباعا: الأول غريقا فى البحر، والثانى ممزقا تحت عجلات القطار، والثالث الذى كاد يبلغ سن الشباب بطلقة مسدس كاتم للصوت يسددها له لص من لصوص البيوت، فتدخل الأم سرداب المرض النفسى العميق، القصة تخلط الواقع بالخيال، فالوقت وقت وباء «الكورونا» والجارة تسعل بشدة ثم تموت.

وتدفن بغير مشيّعين، وتمر في الشارع سيارة تعلن عن موت رجل مهاجر، وقد مات بالوباء الجديد، حياة الرواى تجعلنا نظن أنه يحكى عن امرأة لا علاقة له بها، لكننا نكتشف أنها زوجته، وأن من ماتوا هم أبناؤه، وأن زوجته كانت تحب ابن عمها المتغرب الذى جاء خبر موته عبر السيارة التي تمر في الشارع.

ولكن المفارقة أن الراوى حينما تخبره امرأته أنها كانت تعشق ذلك الشاب الوسيم يسألها في حياد «هل طلبك رسميا للزواج؟» إننا في قصة السلسلة أمام حالة من حالات «الغياب في المَلَكُوت» فإن  لامبالاة الراوى الحزين تعكس شدة الألم حد انعدام الإحساس به.

ولكن قصص «دُمَى حزينة» ليست سوداوية إلى هذا الحد، بل فيها خيط نور، ومسحة من المقاومة، تشبه الجهاد عن قناعة، كما كان يصنع  «سانتياجو» بطل «آرنست هيمنجواي» (١٨٩٩- ١٩٦١) فى رواية «العجوز والبحر». ففي قصة بعنوان «العجوز والبر» يوهمنا السرد أن بطل القصة العجوز مستهلك فهو فى الثمانين، وقد بدا من ثيابه وهيئته الظاهرة أقرب إلى الموت منه إلى الحياة.

ولكننا نفجأ أن هذا العجوز يعبر الشارع قفزا، ويجلس على المقهى ثم تأتى امرأة أصغر منه بعشرين عاما لتتحدث معه، فقد خطبها، وهاهما يتفقان على موعد الزفاف، وتصبح الخيبة والإحساس بالموت من نصيب الراوى الذى هدده رئيسه في العمل بإنهاء خدمته.

وفى قصص سمير الفيل مجاهدة من أجل الحياة، وفيها أبطال هدّهم الهَمّ، وتهدد الفقر سلامهم النفسي فقسم ظهرهم، لكنها مع ذلك فيها حب، ولعب، وعصافير، وفراشات، وأزهار، وطفولة بريئة، طفولة يعرفها السارد ولا يخفى ولعه بها فهو دائما «طفل كبير».

اقرأ ايضاً | حكايات العنصرية والغربة في سيرة هيثم حسين

نقلا عن مجلة الادب : 

2023-3-18

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة