عبد الوهاب عبد المحسن
عبد الوهاب عبد المحسن


مهاب عبد الغفار يكتب : عبد الوهاب عبد المحسن..  رحلة الماء والطين

أخبار الأدب

الأحد، 19 مارس 2023 - 03:04 م

عن تجربة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن، والتى عرضت بمتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية فبراير 2023 والتى شملت مقتطفات من معارضه: (أنهار الجنة – قرب الماء – مدن الملح – البحيرة).

لم تؤت كياناً.. لسنا إلا نهراً

ننساب راضين فى كل الأشكال

فى النهار، فى الليل، فى الكهف وفى الكنيسة

نسير خلالها يدفعنا الظمأ إلى كيان.

وهكذا نملأ الشكل بعد الشكل دون أن نرتاح،

وليس هناك شكل يصبح وطننا وسعادتنا وبؤسنا،

إننا دائما نسير فى الطريق، إننا على الدوام ضيوف،

لا ينادينا حقل محراث، ولا ينمولنا خبز.

«هيرمان هيسة»

هكذا تسرى تجربة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن.. تجربة البحث عن كيان.. هكذا تسرى رحلته مع اللون.. أو أنها رحلة اللون مع الحياة.. مع ما تُفَسره الطبيعة فى كياننا.. لا تمنحنا الطبيعة أشكالها فقط.. ولكنها تمنحنا تلك العلاقة التى تستحيل إلى رعدة فى طريقنا، ليست رعدة جزع ولكنها تلك الرعدة التى قال عنها ريلكه «أو ليس الجمال سوى بداية الفزع؟؟» ذلك ما تفعله الطبيعة بنا.. ومن سواها؟؟.

وكنت دائما عندما أشاهد أعمال عبد المحسن فى الخمس عشرة سنة الأخيرة، أو بالأحرى منذ العام 2000، دائماً ما كانت أقع فى شبكة تلك التفاصيل اللونية التى كان يبدو فيها أنه منح الطبيعة جزءاً من ذاته، ذلك الجزء الذى يبدو كأنه استسلام منا لتلك المنح الكثيفة الرحيمة.. لذلك الجمال.

وليعنى الاستسلام هنا استحضار لغة القبول والامتنان.. إذ يمتن عبد المحسن للطبيعة.. للمكان.. ربما كانت هى رحلة محبة أكثر منها رحلة إعادة صياغة.. ربما نحتاج لوصف تلك الطاقات اللونية إلى لغة الشعر بالتجاور مع لغة التقرير والوصف والتحليل.

اللغة المستدعاة لتناول العمل

وباعتبار أن اللغة المكتوبة إرثها أدبى فى «الحقيقة».. دعونا نستحضر خطاباً آخر، أو نخوض فى لغة موازية إن جاز التعبير، وربما لغة ليس لها إرث سابق عليها، وقد يكون ذلك متمشياً مع المقولة النقدية المتداولة «أن العمل يستدعى لغته».

ولأننا لو افترضنا أنه قد تحقق لدينا مصطلح يتوافق تماماً مع اللغة البصرية، سيبدو ذلك لى أنه يجانب الصواب.. إذ ليس هناك بعد من لغة تتوالى وتتماهى والمصطلح الذى يمكنه أن يحتوى اللغة البصرية فى ثقافتنا العربية.. غير أن كل من حاول الكتابة عن موضوع بصرى فى تلك الثقافة، هو فى الحقيقة يجتهد ليستحضر ما يمّكِنه من التناول النقدى للموضوع البصرى على مستوى اللغة الأدبية.

وإذاً.. نحن فى معضلة لم يتم بعد حل شفرتها.. سوف يكون علينا على الدوام أن نجتهد.. سوف يكون علينا على الدوام أن نأخذ شكلاً بعد الآخر على مستوى اللغة المكتوبة، ويقترب ذلك من فكرة أننا وعمل الفنان عبد المحسن نبحث عن لغة تتوافقنا مع عناصر الفكرة البصرية، تارة من داخل الحضور البصرى لدى عبد المحسن.

وتارة أخرى من خلال الحضور اللغوى الذى يتمكن من التماهى مع ذلك المكون للموضوع البصرى لدى الفنان، إذاً هنا البصرى والمكتوب هما معاً فى حالة من الحراك والبحث والتبادل المستمر ما بين ظاهرة العمل التشكيلى فى حالة حضورها وتفاعلاتها وما بين النص الذى يحضر داخل ذلك التفاعل.

وأعتقد أن ذلك هو المنطق المطلوب للكتابة والتناول الآن، لذلك سوف تكون اللغة الشعرية متجاورة لتداعى الأفكار التى تنتمى لفلسفة العمل، وربما ما أطلق علية النبرة البويطيقية* فى الكتابة هى الأكثر نجاعة فى صياغة نص عن أعمال الفنان عبد الوهاب عبد المحسن، وذلك أنه يمكننا القول إننا  قبالة قصيدة بصرية فى محبة الأرض.

وأذكر هنا مقتطفاً من كتابة أنطوان دو سانت أكزبيرى حيث يقول: « تعلمنا الأرض عن أنفسنا أكثر مما تعلمنا الكتب جميعاً، ذلك أنها تقاومنا ويعرف المرء نفسه عندما يقيسها بما يصادفه من عقبات.

ولكنه يحتاج إلى أداة لكى يبلغها، لا بد له من محراث أو مسحاة، فعندما يحرث الفلاح الأرضَ يقتلع بعضاً من أسرار الطبيعة شيئاً فشيئاً، والحقيقة التى يستخرجها هى حقيقة كونية، هكذا تفعل الطائرة أداة الخطوط الجوية، إنها تمزج الإنسان بجميع المعضلات القديمة.

وليست هذه مقدمة لما أريد أن أقوله عن تجربة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن، لكنها بمثابة مدخل، أو لنقول عتبة، تدعونا جميعاً، إلى الولوج لما يمكننى أن أقوله وبصيغة شخصية تماماً، أننى أخذت بفاعلية اللون فى الأداء التصويرى Painting للفنان عبد الوهاب عبد المحسن..

المنطوق الجمالى التأملى لتجربة عبد الوهاب عبد المحسن

ومرة أخرى نعود لنكمل رحلتنا مع الفنان وعالمه اللوني،وذلك باعتبار أن اللون لديه هو صانع البهجة أو الشجن فى شكل علاقته مع الطبيعة التى عايشها، ومن ثم بالمشهد الكامل للحياة وعناصرها، وهنا نجد أن الفنان قد ترك التداعيات اللونية مع المشهد تفعل فعلها، (فى مجموعة مدن الملح والتى رسمها الفنان مابين عامى 2015 وعام 2023 عندما قام بإضافاته اللونية لتلك  المجموعة).

وفى تلك المجموعة قام الفنان بإعادة صياغة لبعض الأعمال حيث عمل على تلخيص أجزاء من المساحات اللونية لصالح الركيزة البصرية لبناء العمل، وهى المدخل البصرى الذى يقود العين ويسمح لها باستقصاء الكيان الكامل للعمل.

وربما أيضاً أضاف بعضاً من التفاصيل، فقد تحتوى تلك التفاصيل أحيانا بقعاً لونية أو نقاطاً تكون سارية فى فراغ المساحات وتنتثر بأشكال متعددة، فمرة يبدو كأنه قام بتضخيم حبات من الرمل أو التراب التى هى ضمن مكونات التربة التى تشمل قشوراً من أجساد كائنات مرت من هنا، أو فتات من القواقع البحرية، ليخبرنا أن تلك الرمال والتربة، هى فى الحقيقة محتوى لحياة كاملة، حيث ستحتوينا فى الأخير كمركب لتلك المادة، أو أنه يكشف لنا بعضاً من أسرار الطبيعة، تلك التى عرفها قرباً وتفاعلاً مع الأرض.

وفيما يلى صيغة الحوار الذى أقيم مع الفنان والذى نورده هنا بتصرف لغوى

كيف هى علاقتك بالأرض، وماذا يعنى استلهامك للطبيعة؟

استلهام الطبيعة لابد أن يأتى من خلال عنصرين متكافئين، ما بين المُستَلهِم والمُستَلهَم منه، فلابد أن يحدث ذلك التكافؤ فى الإيقاع بيننا وبين الأرض حتى تمنحنا ذلك الجزء من أسرارها، وهو إحساسنا بإيقاع الضوء وعلاقته بالزمن والمتغيرات التى تطرأ على المشهد من لحظة لأخرى.

هل تقصد منطق التأثيريين؟

أقصد ذلك التجلى الذى يجعلنا ننفذ للطبيعة ويجعلها من نفس الباب أن تنفذ إلينا.. لو لم يكن لدى التأثيريين ذلك التجلي، لما استطاعوا أن ينجزوا ما أنجزوه، إذ لابد وأن يكون الاستلهام إيجابياً، بمعنى جاهزية كل طرف الُمستلهِم والُمستَلهَم منه، وهنا يحدث استلهام متفرد حسب المسافة التى وصلت إليها فى التفاعل، بحيث تستطيع فى لمسة واحدة أن تكون شاهداً على اللحظة الرابطة بينك وبين الطبيعة، ويختلف ذلك ومنطق التأليف الذى يعنى ولوجك داخلك وليس ولوجك فى الطبيعة

كيف يكون ذلك فى رأيك؟

وكيف يكون بأن تلفعك الشمس، بأن يصفر الهواء فى أذنيك، بأن تستنشق كل شيء من حولك، لابد أن تمشى وأنت حافى القدمين لتشعر بالأرض، لأن الحذاء يفصلك عنها، أو أن تنام فوق الطين الجاف، إذ لا يصح أن تستلهم وأنت زائر، لابد وأن تعيش المكان، وترى ورقة الشجر فى تحولها من لحظة إلى أخرى.

ذلك يدعونا لسؤالك، ألم تشتغل بالفلاحة.. باعتبارك أخذت طريق التعليم، وانفصلت عن حياة الفلاحة؟

لقد قضيت طفولتى بريف بلقاس فى القرية الصغيرة التى ولدت فيها، وكنت أمارس مع أقرانى بشكل يومى شغل الأرض، فقد نقيت الدودة، وحملت الرشاش، وملخت القطن، وشتلت الأرز، ذلك ما جعلنى بشكل يومى أمارس عبادتى فى رحاب الطبيعة لأعايش حركة الحياة والكائنات فيها.

وهنا أستطيع القول إننى لم أستطع أن أتخلص من عدم رؤيتى للبشر فى تأملى للطبيعة، فقد كنت أراهم فى المدينة، الأمر الذى جعلنى أعتبرهم عنصراً ينتمى إلى المدينة، لذلك كنت ألاشى حضورهم فى أعمالى بشكل دائم.

كيف ترى تجربتك فيما بعد سنة 2000؟

لقد كنت أقترب من العناصر فى تجربتى السابقة لتلك الفترة.. أقترب من تحليل تفاصيلها فى قالب من التعبيرية التجريدية تقريباً، وقد كان عملى الطويل فى الحفر والطباعة، هو الأكثر قرباً لروح تلك التجربة.. هذا باختصار طبعاً.. فيما بعد فرضت على البحيرة باتساعها، والأرض برحابتها.

وبعد أن أطالع المشهد فى شموليته كحضور كلى فى نفسي، لأنه من المهم أن تدرك المسافة التى ستتناول منها تجربتك مع الطبيعة، لذلك كان التصوير ونقاء اللون والعفوية هم الأكثر حضوراً لدي، فجاءت جملة معارضى ومجموعات أعمالى فى تلك الفترة حاملة لذلك التوجه، مثل مجموعة البحيرة – تراب ومية – قرب الأرض – مزارع السمك – مدن الملح– أنهار الجنة.. وغيرها.

الطاقة اللونية والمنظور فى عمل عبد المحسن

هل نستطيع أن نقول إن الفنان قد شكل ما يمكن أن نصفه بالمنظور اللوني؟، حيث يكون اللون هو المساحة الدالة على المسافة والفراغ فى نفس الوقت، أم أن الفنان استطاع أن يدمج عنصرى الهواء والزمن فى الطاقة اللونية لصياغته لمشهد الطبيعة، وحيث أنه تكلم عن المسافة التى ترى منها الطبيعة، فربما كان حضور المنظور الذى تحققت فيه أبعاد العمل من خلال تلك العين الفاحصة.

وليس منظوراً محققاً بقياس حسابى أو هندسى فيزيائي، إذ يتحقق فى العمل منظور شكلته التلقائية فى الحوار مع المشهد بكليته،فتارة نجد المشهد يأتى من عين الملاصق للأرض المتمدد على طينها، وتارة نجد المشهد وكأنه من عين طيار(وليس طائر) يفرز المساحات من مسافة بعيدة، أو يحتوى المشهد كنسق مكتمل.

وربما تشكل منظور داخل المعنى الكامل للعمل، فيجعلنا نرى السطح باعتباره ساحة تتبادل فيها المساحات القرب والبعد دون أن تتمايز مساحة عن أخرى كخلفية وأمامية، لكننا من خلال ذلك الدمج نظل نشعر بعمق بصرى ما للرؤية، ربما حققه وجود خط الأفق، أو الإيحاء بوجوده من عمل لآخر،بينما تكون ظلال العناصر غير موجودة للإيحاء بالمسافة.

أو أنها إن وجدت فى بعض الأحيان تكون بمثابة جزءاً من العنصر أو جزء من الأرض دون أن تدعى خلق البعد الثانى على المسطح، فتكون الطيور والأشجار والأسماك إيقاعات لونية تماثل منطق النقاط المجردة التى ينثرها على المسطح كرابط بين المساحات اللونية المتباينة أحياناً، ليكون ذلك وكأنه شكل من الاتحاد بين الكائنات والأرض، و يتجلى ذلك المنطق التشكيلى فى مجموعات عمله مثل؛ أنهار الجنة - البحيرة - مدن الملح.

قرب الماء، وكائنات الطين

رحلة الماء حيث خلقت الحياة على الأرض، تلك هى الرحلة التى كان الفنان مأخوذ بها، بين فعل التشكيل وبين الحياة، ومن عنصرى التراب والماء جاءت الخليقة طبقاً للأديان، متجاورة والفكر الأسطورى الأولى للمجتمعات والحضارات الإنسانية، ودون الدخول فى تفاصيل المكون الأسطورى الأولى للجماعات الإنسانية والذى انبثقت من داخله الأفكار العقائدية لكل مجتمع على ظهر البسيطة.

ويتنامى داخل العمل ذلك الحراك والتبادل الحيوى للمساحات حيث تكون المساحات الموحية بوجود الماء تأتى فى تركيبات لونية يتأثر بها الماء ويؤثر فيها من جانب آخر، بمعنى أن لون بقعة الماء تتحول طبقاً لما يتركب فى الأرض من عناصر، فنجد فى مدن الملح أن بقعة الماء تأخذ لونا مركباً من المجموعة التى نطلق عليها (الألوان الساخنة) وهى المجموعة اللونية الأكثر إشعاعً على المسطح، حيث يحول الملح الموجود فى تركيبة التربة، الماء إلى اللون الساخن بتنوعاته، وحتى فى انحسار الماء عن بقعة الأرض تشع تلك البقعة باللون الساخن المركب من تلك العلاقة بين الماء والتربة.

ويأخذ لون البحيرة فى كثير من الأحيان حالات تعبيرية متعددة ومتغايرة من عمل لآخر، حيث يضعنا كما ذكر الفنان أمام التتابع الزمنى المتغير داخل المشهد، ليس فقط تحولات وتغيرات الضوء، ولكنها أيضاً تحولات وتغيرات حالة الفنان نفسه، بحيث يأخذ الماء فى أحيان اللون الرمادى المركب المندمج بلون دافئ، ومرة أخرى يكتسب ألواناًتتنوع ما بين درجات الزرقة المشوبة بالاصفرار الخفيف والبياض.

وتأتى كائنات الطين مثل سمكة (السلور) أو (القرموط) وهو الكائن الذى اختاره الفنان من خلال رمزيته فى الأسطورة المصرية القديمة، وأيضا فى المأثور الشعبى فى أعمال السحر والشعوذة، (ودون الدخول فى تفاصيل تلك النصوص المتنوعة والمتعددة للأسطورة وللمأثور الشعبي.

والتى هى متاحة فى مواقع عدة) فإن اختيار الفنان لذلك الكائن جاء مطابقاً لفكرة اتحاد الكائنات مع الأرض كعنصر حى متحرك، فهو كائن يستطيع الحياة داخل الطين الرطب، وحتى إن جفت مياهه لشهور عديدة، فهو عنصر حيوى من عناصر الطبيعة التى تكون الأرض بمياهها وترابها، ومن ثمة طينها هى الكينونة الدلالية على شمولية الطبيعة وشمولية الخلق، (الجملة التشكيلية المتكررة فى عمل الفنان).

ويتبقى أن نقول أننا فى هذا النص قد طرحنا عدة مداخل لتجربة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن، لكننا لم نتعرض لكامل التجربة التى تخص الفنان، والتى امتدت لنحو أكثر من خمسين عاماً، تنوعت فيها تقنياته بدءاً من الحفر والطباعة إلى التكوينات فى الفراغ وأعمال التصوير.

وإلا أننا أشرنا هنا لحدود التناول والتى خصت معرضه الأخير المشار إليه، وربما كان النص أكثر ميلاً إلى المداخلة مع تجربة التصوير والتلوين، بينما لم نتعرض لتجربة الفنان العريضة فى الحفر والطباعة.

وذلك لقناعتنا أن تلك التجربة سوف  تحتاج إلى نصوص مستقلة لها صيغة من الدراسة والفحص، ليس فقط للعالم البصرى للفنان، ولكن أيضاً لعلم التقنيات المتفردة فى تناول فن الطباعة والحفر.

اقرأ ايضاً | ملتقى القاهرة للتراث غير المادي وتحديات بقاء الحرف والحكاية الشعبية

نقلا عن مجلة الادب : 

2023-3-19


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة